الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإستبداد عبر الإقتراع الحر المباشر

محمد عثمان ابراهيم

2010 / 2 / 4
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


يعيش السودانيون بشكل عام حالة تفاؤل مستحقة ومدفوعة بما تشهده الساحة السياسية من أنشطة ضمن عملية الإنتقال الديمقراطي الموعودة. بدأت الأحزاب السياسية في عملها متأخرة وعلى إستحياء لكنها سرعان ما نجحت في الإنضمام الى النسق المتسارع من أجل المشاركة في الإنتخابات الرئاسية والعامة المقبلة، وأبدت حرصاً على الحصول على إنتصارات متقدمة فيها بحيث تتحول السلطة في البلاد من أنصبة ممنوحة من الحزب الحاكم الى أنصبة يحددها صندوق الإقتراع الذي لا سبيل الى إلغاء قراراته، إلا بمخالفة الدستور والقانون أو بتقويضهما ، لا سمح الله.
أكثر المعارضين رغبة في التغيير، الشيخ حسن الترابي بدا متفائلاً جداً في الأيام الأخيرة وفيما صرح أحد معاونيه قبل أيام بأن تقديرات حزب المؤتمر الشعبي تقول أن زعيمه قد ضمن مقعده في البرلمان القادم، فإن الشيخ نفسه قطع بشكل ناجز خلال مخاطبته للمؤتمر الأخير لحزب المؤتمر السوداني (بزعامة إبراهيم الشيخ) بأن "السودان لن يحكم بعد الآن بجبروت مركزي و إن الرئاسة ليست سلطانا يأمر وينهى". لم يقتصر تفاؤل الشيخ الترابي على الكلمات فقط وإنما أتبعها بالأفعال حيث تقدم لترشيح نفسه وزوجته السيدة وصال المهدي وإبنته الأستاذة أسماء الترابي في هذه الإنتخابات المنوط بها إنهاء الجبروت، وفي محاولة متأخرة لإنشاء طائفته الأسرية الخاصة بعد ان بذل من العمر أنضره في معاداة الطائفية. كعادتنا نأخذ من الشيخ الترابي حسن التخطيط وسوء التقدير ونقول إن تفاؤله المطلق بإنهاء الجبروت والإستبداد هو نوع من التفكير الرغائبي غير المؤسس بالرغم من أن الرغبة في إنهاء الجبروت محمودة بطبيعة الحال. الترابي لا يهمه بالطبع أن يحكم السودان بالجبروت أو بالشورى (وفق مصطلحاته هو) ولكن الأهم بالنسبة له هو جبروت من وشورى من؟ فإذا كان الجبروت موالياً له فأنعم به وأكرم وإن كانت الشورى مناوئة فسيرفضها وإن جاءت مبرأة من كل عيب.
على كل فإن الإنتخابات ليست قادرة لوحدها على الوفاء بمستحقات الإنتقال الديمقراطي كلها، وإنما هي حلقة واحدة فقط في سبيل بناء الدولة الديمقراطية المنشودة! هذه هي مجادلتنا في هذا المقال.
***
تعني الإنتخابات أول ما تعني رد الأمر كله للشعب، بمعنى السعي للحصول على تفويض من الناخبين المؤهلين بممارسة السلطة نيابة عنه ومن أجل خدمته، لكن بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني النافذة لا ترى ذلك بصورة واضحة وقد عبرت عن تلك الجماعة تصريحات الدكتور كمال عبيد القيادي البارز بالحزب الحاكم ووزير الدولة للإعلام التي قال فيها إن حزبه قرر سحب مرشحيه في كل الدوائر التي يترشح بها رموز الأحزاب المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية، وأوضح في سياق مؤتمر صحفي محضور، أنه تم توجيه قواعد الحزب بدعم قيادات أحزاب حكومة الوحدة الوطنية اينما ترشحوا واعتبارهم مرشحين للمؤتمر الوطني دون الإتفاق على تحالفات سياسية حتى الآن! وأكد د. عبيد أن المؤتمر الوطني يسعى من خلال ذلك لتمثيل البرلمان من كل القوى السياسية، مضيفاً أنه ليس من مصلحة المؤتمر الوطني أن يفوز في كل الدوائر الانتخابية، وقال: نحن نحرص على تعددية حقيقية ومشاركة للقوى السياسية على الأقل داخل البرلمان (الرأي العام 28/1/2010)
ينطوي تصريح القيادي الحزبي النافذ على فكرة وصائية خطيرة تشي برعاية حزب المؤتمر الوطني للعملية السياسية برمتها بدلاً من أن يكون مجرد شريك في اللعبة لا غير. يمكن القبول بالحزب الحاكم كشريك كبير كحد أقصى فقط لا غير. إذن من قال له إن حزبه سيفوز في كل الدوائر حتى يجود (يتجود) ببعضها وهي دوائر ما يزال ممثلوها المنتصرون في رحم الغيب. هذه فكرة غريبة وتشي بأن المؤتمر الوطني ضامن لكل الدوائر الإنتخابية وبما أن الإنتخابات لم تجر بعد فلا بد أنه ضامنها عبر وسائل لا تهتم بأصوات الناخبين سواء ذهبت شرقاً أم غرباً. وحديث السيد عبيد عن الحرص على تعددية حقيقية يلزمه بأن يترك الشعب يقول كلمته فلربما كانت غالبية الشعب لا ترغب لا في حزبه ولا في أحزاب حكومة الوحدة الوطنية وربما أراد الشعب وهو يمارس حقه الديمقراطي أن يمنح ثقته في البرلمان لحزب البعث أو حركة مني أركو مناوي أو أن يلزم القيادة السياسية المقبلة بتشكيل حكومة إئتلافية بين المؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي. الخلاصة أنه ليس للأحزاب السياسية الحق في توزيع الدوائر الإنتخابية فهذا حق يملكه الناخبون وحدهم إلا إذا لم تكن الإنتخابات حرة وشفافة ونزيهة كما يتخوف البعض!
***
لا تطلقوا التفاؤل فعملية حدوث ردة عن الديمقراطية باتجاه الإستبداد أو حتى النزاع المسلح أمر غير مستغرب في الدول خصوصاً ذوات الديمقراطيات الناشئة. الأمثلة كثيرة كحالة رواندا، أنجولا ، ليبيريا وغيرها.
أخطر ما يمكن أن ينتج عن تلك الردة هو فقدان الثقة بالديمقراطية ذاتها على النحو الذي حدث إبان حكومات السيد الصادق المهدي في الديمقراطية الثالثة وفقدان الثقة بالديمقراطية ذاك هو ما منح حكومة الإنقاذ قوة الدفع الأساسية والتي استخدمتها في السنوات الأولى لقمع معارضيها والتنكيل بهم دون ان يهتم الشعب كثيراً بالنهوض دفاعاً عنهم. كانت تلك ديمقراطية بائسة قال فيها الناس رأيهم شعراً ونثراً حتى روي عن سياسي مخضرم راحل أنه وصفها بأنها كانت جيفة لو اختطفها (كلب) لما وجد من يقول له (جر)!
يدرك الجميع أن الديمقراطية هي المخرج الوحيد لتمكين السلام واستدامته خصوصاً مع نشوء ظاهرة حصول الجماعات والقبائل والقوى السياسية والإجتماعية على نصيب من السلطة بالمشاركة عبر استخدام العنف. لتفادي العنف ينبغي إعادة توزيع السلطة عبر إنتخابات حرة ونزيهة تضمن حصول كل جماعة متنافسة على نصيبها المستحق، أما بعد الإنتخابات فهناك مسئوليات أخرى.
***
يصعب توصيف الحكومة الإنتقالية الحالية بأنها حكومة دكتاتورية مستبدة بالمعنى المطلق، إذ أنها حكومة شراكة بين أحزاب مختلفة وهي حكومة ذات مهام محدد نشأت عن طريق توافق سياسي تم حشد التأييد الشعبي له ، أي تم الإتفاق الفوقي بين القوى السياسية ثم تم إستصحاب تأييد الناخبين المفترضين أو الحصول على هدنة قسرية منهم بالإنتظار لفترة محددة يتم بعدها إعادة الأمر لهم من أجل تمكينهم من تفويض من يرونه مناسباً. ربما لا يمكن وصف هذه الحكومة أيضاً بأنها حكومة ديمقراطية وإن كانت تتبع بعض الوسائل الديمقراطية، بقيامها بترحيل كافة الخلافات التي كانت تجري محاولة حسمها بالقوة من الميدان العسكري الى المربع السياسي، وهكذا رأينا الكثير من الخلافات الكبيرة تحسم إما بالتفاوض أو تقديم التنازلات أو التصويت داخل مؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية أو من خلال الوساطات في بعض الأحيان (مثل لقاءات الشريكين في الولايات المتحدة).
ينبغي أن تكون الحكومة المقبلة ديمقراطية بشكل أكبر نسبة لحصول الشعب على قنوات جديدة لإدارة صراعاته وخلافاته وحتى إنشقاقاته ضمن آليات الدواوين السياسية (حكومة فيدرالية وحكومات ولايات وبرلمانات ومجالس تشريعية)، لكن هل هذه الدواوين السياسية كافية لوحدها لاستيعاب كل الصراع وكافة المتصارعين؟ الإجابة قطعاً لا فهناك حاجة لآليات (أي دواوين أخرى) متمايزة في وسائل العمل وفي النفوذ ويمكن إجمالاً إختصارها في الأدوات التالية:
القضاء:
سيكون من أول واجبات الحكومة الجديدة صياغة دستور جديد للبلاد كبديل للدستور الإنتقالي الحالي ولعل من الضروري أن يضمن الدستور الجديد إستقلال مؤسسة القضاء إستقلالاً تاماً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد عقود من محاولات التأثير والإستغلال والقهر والتطويع او عدم الإحترام. ستكون البلاد بحاجة الى رئيس قضاء واثق من إستقلاله وسلطاته وقادر على مساواة المواطنين جميعاً دون استثناء لفرد واحد أمام أحكامه. ستكون البلاد بحاجة الى رئيس قضاء لا يخشى سلطة رجال ونساء الذراع التنفيذي ولا يخشى قراراتهم بإحالته الى التقاعد متى ما اختلف معهم في الرؤية. يمكن ضبط هذا الأمر بضبط عملية تعيين رئيس القضاء وإعفائه بحيث لا تكون وفق هوى السلطة التنفيذية وإنما ينبغي ان تكون وفق معايير صارمة ودقيقة يتفق عليها في إطار الدستور. هناك تجربة باكستان التي فشل فيها الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف في الإطاحة برئيس القضاء القاضي إفتخار أحمد وعدد من مساعديه، وكانت محاولة الإطاحة بإفتخار قد أسهمت لاحقاً في تنحي مشرف نفسه وعودة رئيس القضاء الى منصبه في إطار نظام ديمقراطي جديد.
الصحافة الحرة:
صحيح أن قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009 والقرار الرسمي بإلغاء الرقابة القبلية على الصحف قد أسهم في فك الكثير من إختناقات حرية التعبير، إلا أن السلطة التنفيذية ما زالت قادرة على لي أذرع المؤسسات الصحفية بوسائل كثيرة ومختلفة منها على سبيل المثال ، لا الحصر، في هذا المقام:
الإعلان: يتم الضغط على الصحف المناوئة للسلطة بحرمانها من الإعلانات الحكومية وهذه وسيلة غير شريفة في الخصومة تتبعها الدولة. إن الهدف من الإعلانات هو إبلاغ رسالة معينة من الحكومة الى المواطنين وما دام الأمر كذلك فيتبغي أن يخضع توزيعها لمعايير علمية أبسطها أن تستوعب معدلات توزيع الصحف والنطاق الجغرافي لذلك التوزيع وغير ذلك من المعايير ذات الصلة فإذا أرادت الحكومة إبلاغ رسالة لمواطني بورتسودان فإن الأولى بالإعلان هي الصحف الأعلى توزيعاً في بورتسودان مثلاً وإذا أرادت الحكومة إبلاغ رسالة للجمهور الرياضي فإن الصحف المتخصصة والأعلى توزيعاً مثلاً هي الأحق. ينبغي أن يتم الوصول الى معادلة تحقق للمعلن الإنتشار دون أن تغفل حق الصحف الصغيرة في الحصول على نصيب مناسب من الإعلان الحكومي. على العموم فإن سوق الإعلان الورقي نفسه في تراجع في مناطق واسعة من العالم كله، وعلى مؤسساتنا الصحفية التفكير في بدائل أخرى للتمويل.
مدخلات الطباعة: ينبغي ضبط الفوضى في سوق مدخلات الطباعة بحيث تضمن لجميع المؤسسات الصحفية الحصول على مدخلات وخدمات الطباعة بأسعار عادلة.
تدخل الدولة في العمل الصحفي: وذلك عبر التأثير على نقابات وجمعيات الصحفيين ومحاربة الأجسام البديلة التي قد يلجأ لتكوينها من يظنون أنهم غير ممثلين في الإتحاد الأب.
يحتاج البرلمان المقبل الى وضع تشريعات مناسبة تضمن قومية وسائل الإعلام وذلك عبر تأسيس هيئات مستقلة تماماً للإذاعة والتلفزيون أو الصحف التي قد ترى الحكومة إصدراها مساهمة منها في ترقية الرسالة الإعلامية. يمكن النظر في تحويل هذه المؤسسات الى شركات ذات مساهمة عامة يتم تمويلها من خلال الضرائب، ويتم تشكيل مجالس إدارات محترفة لها من ذوي المصلحة المباشرة وهم المساهمون (ديوان الضرائب / الزكاة/ الشركات/ العاملين / ممثلي الحكومة وغيرهم) وذوي الإختصاص. هنالك العديد من التجارب النيرة حول العالم في هذا الشأن ويمكن الإستعانة بها مع مراعاة خصوصية المجتمع السوداني وحاجاته.
منظمات المجتمع المدني:
أمام الدستور القادم مسئولية تشجيع التأسيس والنشاط العلني لمنظمات المجتمع المدني بحيث تستطيع أن تؤدي دورها في خدمة المجتمع، وفي الرقابة على أداء المؤسسات الحكومية وغير الحكومية. هناك حاجة بالطبع لضبط تمويل هذه المنظمات وأهدافها وضمان ديمقراطيتها الداخلية. على الحكومة أن تستعد منذ الآن لحدوث رقابة لصيقة من منظمات المجتمع على المال العام وعلى قضايا الفساد في وخارج النظام المصرفي السوداني المعتل.
***
هناك مؤشرات كثيرة تدل على إن فرص نجاح التجربة الديمقراطية المقبلة أكبر من سابقاتها إذ ستكون التجربة المقبلة هي أول جمهورية رئاسية ديمقراطية في تاريخ البلاد، وهي تنشأ في ظل تنامٍ مضطرد للطبقة الوسطى المنوط بها التصدي لممارسة الحكم والسلطة والمعارضة. ينظر الكثير من الباحثين في إستقرار أنظمة الحكم والديمقراطية الى الطبقة الوسطى بإعتبارها عاملاً حاسماً في ذلك الإستقرار وإذا كانت الجامعات الكثيرة والمنتشرة في كافة مناطق السودان قد فشلت الى حد كبير في تحقيق نهضة علمية وتقديم خريجين ذوي كفاءة معرفية مبهرة، إلا أنها قد أنتجت جيشاً كبيراً من منسوبي الطبقة الوسطى المتطلعة دوماً الى الترقي.
إضافة الى الجامعات فقد اسهم الإستقرار الأمني النسبي الذي عاشته البلاد خلال الخمس سنوات الماضية وما ترافق مع ذلك الإستقرار الأمني من تزايد في فرص الإستثمار والكسب الإقتصادي، في توسيع فرص نمو الطبقة الوسطى من خلال أدوات مختلفة أي عبر النفوذ المالي. يمكن النظر للمهاجرين والمغتربين السودانيين كرصيد إضافي لصالح تنامي هذه الطبقة وهذه فئة لديها خبرات حديثة إكتسبتها من العيش في مجتمعات جديدة أكثر تقدماً سياسياً وإقتصادياً وأكثر مدنية، ولعل نظرة سريعة الى سوق الإستثمارات الصغيرة والمتوسطة يمكن ان يكشف لنا كمية الأفكار المبتكرة وأنماط الإستثمار الجيدة التي دخلت البلاد ووفرت دخولاً معقولة لملاكها وأسواق عمل جديدة.
خلال الخمس سنوات الماضية يمكن للمراقب أن يرى التبدلات التي طرأت على المشهد العام في البلاد وأنا حين اكتب هذا الكلام أكتبه –للأسف- دون الإعتماد على دراسات علمية موثوق بها لكن ما يمكن الوثوق به هو إنه في السياسة العامة فإنه كلما نجح المجتمع في تأمين حاجة من إحتياجاته ، إنتقل الى طلب حاجة أخرى وهكذا فإن المطالبة بالكهرباء مثلاً مرحلة أبعد من المطالبة بالخبز والمطالبة بحرية التعبير وضمان حقوق الإنسان مرحلة أكثر تقدماً بلا شك من مرحلة المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين والسجناء. إن حكومة الجمهورية الرئاسية الديمقراطية الأولى في السودان ستجد نفسها بحاجة الى تلبية مطالب جديدة للمجتمع الناهض وفي غياب دستور أفضل وتشريعات أقوم وعدل أوفر فإن مخاطر الإرتداد نحو الإحتكام الى الوسائل القديمة في فض النزاعات ما تزال قائمة ومحتملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تأخذ استراحة بشكل صحيح؟ | صحتك بين يديك


.. صياد بيدين عاريتين يواجه تمساحا طليقا.. شاهد لمن كانت الغلبة




.. أمام منزلها وداخل سيارتها.. مسلح يقتل بلوغر عراقية ويسرق هات


.. وقفة أمام جامعة لويولا بمدينة شيكاغو الأمريكية دعما لغزة ورف




.. طلاب جامعة تافتس في ولاية ماساتشوستس الأمريكية ينظمون مسيرة