الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 6 من رواية تصبحون على غزة

حبيب هنا

2010 / 2 / 5
الادب والفن


6
الآن ، تصحو ريتا من النوم رغم أنها أبقت عيناها على الإغماض، كأن شيئاً يصر على بقاء عضلات الجسم خاملة ، شيء لا تعرف مصدرة ، يتوالد خلف الجفنين المغمضين كي يؤكد لها أن الانتقال من الموطن الأصلي إلى بلاد لا تعرف سوى صقيع الغربة وسياطها الموجعة التي تحفر في الروح معنى الاقتلاع ، لم يكن عابراً ، أو أحلام يقظة .
تبقى على عينيها مغمضتين حتى لا تنسحب نهائياً إلى العالم الجديد الذي تخشى مواجهته بكل معاني الخوف الذي يشوب اللحظات المجهولة ، ولكنها تتذكر فجأة وجود إبراهيم إلى جوارها ، إبراهيم الزوج الذي بذل جهداً غير قليل في طمأنتها والوقوف إلى جانبها عند لحظات التحول المصيرية .
تفتح عينيها ببطء ، تمد يدها تتحسس جسد زوجها ، تقع يدها على الفراش دون أن تصطدم بالجسد المفترض ، تفتح عينيها على وسعهما ، تنظر ببلاهة إلى الفراش المكوم على السرير، تسأل نفسها : أين ذهب في هذا الوقت الباكر ؟ .
تسمع صوت أقدام تتجه صوبها ، ينتقل نظرها إلى جهة الصوت ، يطل إبراهيم من الدهاليز وهو ما زال يحاول تجفيف شعره من الماء ، يصل نحوها يقول :
- انهضي ، كفاك كسلاً ! لقد أعددت لك الإفطار !
تنظر إليه وابتسامة عريضة تملأ وجهها ، تقول:
- شكراً حبيبي ، ربما بسبب تعب السفر تأخرت في النوم ..
يتناولا طعام الإفطار ، يخرج إلى عمله الذي باشر فيه قبل أن يذهب إلى الوطن للزواج والعودة حاملاً ريتا معه . يسألها قبل أن يغادر:
- هل تريدين حبيبتي شيئاً ،أجلبه لك عند عودتي ؟
- لاشيء ينقصني ، أريدك سالماً .
- إذا حدث طارئ أو أردت شيئاً ، اتصلي بي على رقم الهاتف حتى أرشدك ماذا تفعلين إذا لم يكن ضرورياً حضوري .
- لا بأس . لا تقلق على ، يمكنني أن أتدبر أمري ، في كل شيء، عند الضرورة .
تخلص من ملمس يدها الناعم دون إفساد لطقوس لحظات الصباح الباكر في وقت بدا فيه السؤال الذي لا يعرف التراجع ، يقتحم دماغه ، باحثاً عن إجابة لا مراوحة فيها أو هروب في إحدى الاتجاهات الأربع : هل ستشكل ريتا عبئاً إضافياً عليك في ألمانيا ؟ وكانت الإجابة لا تعني سوى التوكؤ على معرفة الماضي بعيداً عن قراءة الحاضر بموضوعية قادرة على استشراف المستقبل ، ومع ذلك ، كان من السابق لأوانه تلخيص الإجابة بإحدى الكلمتين ، نعم أو لا ؛ غير أنه قال لنفسه كمن يقف أمام ريتا ويخاطبها : ينبغي السعي نحو تفعيل الماضي والخروج من التاريخ وتسجيله الممل حتى لا نقف في الظل بانتظار دخول الشمس من سنابل الشباك إلى السرير ، بل يجب أن نكون في مواجهتها مباشرة حتى لا تلسع ظهورنا بسياط الحقيقة الملتهبة مهما كانت تأثيراتها الجانبية .
أبدى ارتياحه لهذه الإجابة على الرغم من كونها فضفاضة لا تعدو أن تكون أكثر من كلمات متريثة تشكل راحة للضمير لم تنفذ إلى العمق المطلوب ومعالجة المشكلة من جذورها في حال طفوها على سطح أحداث أيامها المقبلة ، ورغم ذلك ، داهم عقله أن تقول ريتا ما لا يتوقعه تماماً ، مثل : إنني سأشاركك الخطيئة بكل معانيها ومهما كان عظم الذنب ، لا من أجل اقتسامها سوياً ، بل حتى نبني حياتنا المشتركة على قدم المساواة ، وبعيدا ًعن الاتكال على العوامل الخارجية التي لا تقدم ولا تؤخر في بناء المستقبل الذي نقرره نحن ، لا المستقبل الذي يقرره لنا الآخرون ! أما بدون ذلك ، من المؤكد أن نحول أنفسنا إلى موضوع يستحق الشفقة والقليل من الدموع ، فإذا كنت أنت ترغب في أن تضحي هكذا ، فأنا لست على استعداد أن أكون امرأة بهذه المواصفات ..
ابتسامة عريضة ترتسم على وجهه ، فيما يأخذ ركاب الحافلة الذاهبين إلى أماكن عملهم ينظرون إليه ويتساءلون في دواخلهم : أي صباح هذاالذي يحمل الرجل حتى يقابله بالابتسامات ! لا بد أنه حاصل على زوجة مخلصة ومحبة تملأ عليه كيانه، وتحيل اللحظات الأولى للذهاب إلى العمل من بغض إلى سعادة ، فيتحول اليوم كله إلى نعيم موسيقي يرطب الأعصاب، ويحفز على استقبال الحياة مهما كانت مملة . أي زوجة هذه التي تستطيع خلق هذا المناخ !
وفي العمل ، بشاشته تعبر عن الاستقرار العاطفي والنفسي دون مواربة ، تستدعي الانتباه وتستحضر أدواته الضرورية والمكونة للدلالات عليه ، إنه الطقس والرافعة التي بدونهما يصعب التمييز بين البؤس والسعادة ، بين الاستقرار والتوتر . ينتمي للعمل، و يشارك بفعالية في العملية الإنتاجية، ويبذل قصارى جهده من أجل أن يكون مبدعاً ومجدداً في وقت يكون فيه الآخرون ملتزمين فقط بما يطلب منهم ، والفرق شاسع بين الاثنين .
يعود للبيت حاملا ًفي صدره مزيداً من الحب والاشتياق وبعضاً من ذكريات الطفولة ، تقابله ريتا بلهفة الانتظار غير أنه لا يحمل بين أصابعه العصفور الذي تعودت عليه . يأخذه الحنين إلى تلك الأيام فيسبح في فضائها اللامحدود ، فضاء يستوعب مختلف ذكريات الطفولة؛ يعيشان معاً لحظات الماضي بما فيها من تقاطعات للنظر، وفي اللحظات التي تليها يعيشان الحاضر وآمال المستقبل .
تستقر حياتهما على نحو فضفاض في مسعى إلى التجانس مع الواقع الجديد وإفرازاته ، وينخرطان في خليط البنية الاجتماعية غير المتجانسة فيعبران دوامة الحياة بحذر شديد . ينشئان علاقات محدودة مع الوسط الاجتماعي ويكتشفان حجم التناقض بين الشرائح الاجتماعية المختلفة ، ينأيان بنفسيهما عن الانغماس بها بعد أن تشدهما حبال الانتماء للوطن .
آه .. أيها الوطن كم هي حبالك متينة، وحضور صورتك طاغ ٍوعذابات الابتعاد عنك ممتعة ! تضبط إيقاع خطواتنا وتشكل كابحاً لأي انزلاق يلوح في الأفق . ماذا عسى أن نفعل في غيابك ؟ ومدى تأثير عدم الانتماء إليك على الآخرين ؟ هل ضياعهم محققاً أم أنك قادر عند لحظات الذروة ، التدخل وحمايتهم من الانزلاق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب