الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولة في قراءة المجموعة الشعرية -قديمًا مثل هيباشيا- للشاعرة العراقية سهام جبار

عبد الله دمومات

2010 / 2 / 6
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


أول مايلفت انتباه قارئ المجموعة الشعرية للمبدعة العراقية المقيمة في السويد حاليا الشاعرة سهام جبار هو حقل العنونة لديوانها الشعري المتميز "قديمًا مثل هيباشيا" ، فهيباشيا HYPATHIE ابنة THEO وفق ما ترويه الأدبيات المهتمة بالميثولوجيا الإنسانية القديمة في إسكندرية اليونان تحيل على البطلة المثالية "هيباشيا" التي كانت بمثابة شعلة في المعرفة والعلوم والرياضيات وإتقان آليات الحجاج كما كانت ترمز إلى شخصية قوية مهابة كاريزمية أمام العنصر الذكوري حيث تتسم بالهدوء والإقناع ولم تكن لها أي عقدة معينة لمقارعة الرجال ومجادلتهم بالبينة والمنطق في مختلف مناحي الحقول المعرفية والعلمية و بالتالي جذب كل مستمع لخطابها،وقد كتبت عنها مجموعة من المؤلفات والروايات قديما وحديثا بخصوص نهايتها المأساوية على يد بعض الكهنة حيث انتظروها وهي في الطريق إلى منزلها وقتلوها ولم يكتفوا بقتلها فقط بل مثلوا بجسدها بشراسة
إن قتل هيباشيا" من الناحية الرمزية يحيل على اغتيال المعرفة والعلوم والبرهان والمنطق والذات الأنثوية الثائرة الرافضة للقبح والجبن والضحالة والخنوع في كل أوجه مناحي الحياة الإنسانية
إن الشاعرة سهام جبار التي اختارت لمنجزها الشعري اعتماد هيباشيا كعنوان والذي يحوي القصائد التالية
على بابـكَ]تتوسل إلى عبارات الأبواب استغاثة الشاعرة[،أبـدٌ مُصْغٍ،قديماً مثل هيباشـا،الأماكن، هيامها، تختبئ؟، هذه الطبائع، بـرقٌ يترنّـح،نَـشْر، رصد، ربّتَ وحنا، عيناه، تسـوّي، امرأتُهُ،مجالسة، ليس هذا، الحدود، في قارب الطوفان، الشاعرة، تجوال، هي أكبر، قصائد..
كانت جد موفقة وأكثر تميزاً شعرياً وتجربة على مستوى الكتابة الشعرية النسوية الراقية والأنيقة فمنذ الوهلة الأولى تعبد الصور لقارئ نصوصها لكي يشرئب على تجربتها الذاتية بزخم آلامها وأمالها فهناك من جهة على مستوى العنونة للديوان إحالة القارئ على هيباشيا بحسب ما تواضع عليه دارسو الأسطورة والأدب من رموز القوة والأنفة ومن حمولة أنثوية رمزية تاريخية مفعمة بالاستعارات مع اعتماد الخلفية التاريخية والحضارية والأسطورية الحاضرة بقوة في هذه النصوص، ومن جهة أخرى لقد وجدت الشاعرة سهام جبار في رمز هيباشيا معيناً تاريخياً خصباً للإلهام والتوثيق للهموم الآنية كما ان المرجعية الاسطوتاريخية "الهيباشية"، نسبة إلى هيباشا، أكسبت جماع نصوص الديوان مسحة التمرد الأنثوي المتفوق على السائد وعلى القهر والظلم، وبالتالي إمكانية تجسير علائقها الوجدانية الشعرية الذاتية بموطنها وبلدها الأصلي بغداد في تاريخيته ورمزيته الثقافية والحضارية والتراثية وما آل إليه راهنا، والقارئ يشمّ كل هذه الأجواء من خلال النصوص عموماً التي تنزع كذلك منزع المطلقية والصوفية المناجاتية واللامحدودية والرغبة العارمة في الاستقلال بالذات الشعرية دون نسيان ملمح آخر يتمثل في الإحالة على الهامش في احد النصوص الذي يعتبر بمثابة (الطريق ) المنيرة للقارئ للتعرف على التجربة الحياتية للشاعرة التي مرت بها في بلدها الأصلي على الأقل في بعض ملامحها ذات الطابع المأساوي ذلك أن الشاعرة أشارت إلى معلومة دونتها في هامش النص الموسوم ب أبد مُصْغٍ تفيد القارئ وتدل على الواقعة المؤلمة التي تعرضت لها الشاعرة سهام جبار والنص رد على الإطلاقة الطائشة التي أصابتها ولم تكن للواقعة المشار إليها إلى جانب وضعية النفي الداخلي والفيزيقي للشاعرة من سبب لثنيها عن فولاذية الإصرار على الحياة وعشقها والتمسك بتلابيبها بل الانبعاث مجددا من خلال اجتراح نصوص شعرية قوية متوثبة معبرة عن ذات أنثوية قوية جسور وضعها الاعتباري الشعري
هذا ويجدر التذكير انه من خلال الاحالتين السابقتين (المرجعية الاسطوتاريخية "الهيباشية والهامش المرفق ب نص "وأبد مُصْغٍ) فان الشاعرة تمكنت من تطويع روافد وتنويعات وتلوينات ثقافية معرفية تعكس انفتاح افق الشاعرة وموسوعية معرفتها وذائقتها الأدبية الشيء الذي بلور، عبر ثنايا خطابها الشعري، الرغائب المتوخى تفجيرها من دون لف أو دوران .. ولا أدل على ذلك فالنص الشعري الأول من المجموعة و الموسوم ب (على بابك) المفعم بالنطق والصمت،هو نص فيه مسحة صوفية تترجم تجربة الشاعرة الروحية تمثلت في توسل الشاعرة بموضوعة المناجيات. فالنص عبر عن مساحة من وعي الشاعرة تهيمن عليه إحساسات التوجه إلى المطلق فتتلامح هذه المسحة المناجاتية النفرية ]نسبة إلى النفري[ في شذراته المناجاتية في الجهاز المعجمي المعتد به من طرف المبدعة سهام جبار والمتكئ على الأبواب والرؤى والبكاء والطفولة والأصابع والقلب، ننظر مثلا الإحالة على باب القلوب،فهذا الملمح المناجاتي يعكس بحث الذات الشاعرة عن ملاذ روحاني استعاري خاص،بعبارة اخرى ان الشاعرة تتماهى وأجواء بعض النصوص الشذرية لتجربة النفري الروحية في ميدان المناجاة إذا أمكن التعبير لنقرأ هذه المقاطع من الديوان
وأنا أحمل علامتي المائيةَ وأتجوّل
على بابكَ أدقّ
وقد تقطّعتِ الطرائقُ ونفدتْ قواي
لقد رأيتُ
ورأيتُ
ورأيت

.............

من أجل تلك الجسور التي
تقفُ على الدربين مستأذِنة
ومُنح النهر التي هي غرقى
ومذكرات كل هذا الغرق
أورِّقُ هذا البكاء
بي دمعُ كل هذه الأحزان
وفرح كل هذه الطفولات
التي لم تتعثرْ بانفجار



رأيتُ كل هذه الأجيال
وقد نبضتْ لبقاء
يسقطُ يعيش
وأنا أحمل علامتي المائيةَ وأتجوّل
من بين الحضارات وعقائد الحروب
من بين مقاعد الأحلام
ومسلخ الأجساد
من بين معسكرات النشيد
وزبد الأفواه
من بين أمطار القيامة
والوجوه المكفّنة بالدروب الخالية
بتكبير المآذن وسلاح التعاليم
من بين حلقات السلاسل
وأضلع الجوع
الأصابع محنّاةٌ على أبواب الله
باب مراد النفوس
باب رجاء القلوب
باب حوائج الحزينات
وعويلهن الممنوع بالكظم
من بين مسكات الأصابع
ببابكَ أتمسّح بسمائك
الفقراءُ على بابكَ وقلبي
التائهون على بابكَ وقلبي
المرضى والممسوسون والضعاف
العجائزُ والمحروماتُ وقلبي
المعطِّلاتُ كيدَ الصبر بك وقلبي
الناذراتُ الموفيات والحانثات
السائراتُ حافياتٍ لاطمات
المنكسرات بالزوايا
الخائفاتُ الباكيات
وقلبي وقلبي وقلبي
الحزنُ في كل الفتات
يا بابَ هذا العراق
وقد غسّل الكافورُ ثوبي
واستحمّ بجرحي
في التوابيت ملتفّةٌ النخيل
يذهبُ الترابُ بنفسه ويعود
وأذهبُ وأعود
من مآذن الى حفر
كل هذه الأدغال القاطعة
كل فكين قادمين بشريعة
السور الذي تنتخبه القطعان

ملمح آخر يثير انتباه القارئ في النصوص الشعرية لسهام جبار ويتعلق الأمر بالخيال المؤسس للنصوص،فالشاعرة تركب صهوة خيال خصب للتماهي مع رمز هيباشيا كما اشرنا في بداية هذه القراءة لإدانة القهر والتسلط، لنقرأهذهالمقاطع من النص الموسوم ب "قديما مثل هيباشيا"، ففي هذا الخصوص إذا أمكن التعبير يتحقق البعث الشعري لسهام جبار لإدانة عتمة الواقع وفظاعته.
فالشاعرة تمنح لنصها وظيفة تاريخية توثيقية يشمّ منها القارئ عطر تاريخ ذات شاعرة تكتوي بالأوجاع كأنها تعيد إنتاج تكرار مأساة هيباشيا،إنها نصوص جولة وسفر داخلي لذات شاعرة مفعمة بالأنين والألم.. لنقرا هذه المقاطع
قديماً مثل هيباشيا
سلخوا جسدي
وكنتُ أحسب العلاقةَ
الرياضيةَ
لبقاء الأزمنة
على الأجساد
ومثلما رتّقتُ ذلك الجلد
اعتصرتُ المشاهدةَ من العيون
فإذا بهم ليسوا هم
وإذا بي ما زلتُ أنا



تحمّمتُ بكل تلك الفلسفات
بالمنحوتات المقطّعة الرؤوس
وأنا أحصر القتلةَ بين سياج
لعلهم البرابرة
لعلهم البدو في تيههم
حكمت الآلهةُ
أن تنمو المتاهةُ بين الأصابع
فكلُ يدٍ تائهة
وكلُ حبٍ توحّش
ما الذي تراه الوحوش
في دمي؟
ستمرقُ يدٌ خلال قلبي
فتعتصرُ الهوى الذي فيه
ويأخذون بي في تابوت
فإذا التابوت أسلحة

ان الشاعرة سهام جبار تكتب ذاتها في مجموعة "قديما مثل هيباشيا"، بعبارة أخرى تؤرخ لحياتها الشخصية المتماهية مع الرموز في التاريخ والحضارة الإنسانية وعلى امتداد النصوص تجيد التعامل مع الكلمات والألفاظ والصور والاخيلة، لقد جعلت اللغة مسكناً خاصاً لذاتها لتمثل إيقاعات و إشارات ورموزاً تعكس روحها القلقة التي تتماس مع كل النصوص،فكانها تقول للقارئ: إنني أتحدى، أنبثق من نصوص،أستمر،أصرّ،أكتب،أتوجه الى المطلق،أبثه مناجاتي،أعيد بعث الرمز الانثوي الهيباشي،أمارس حضوري ووجودي الانطلوجي بالضد مع الاخر،وضد القبح، ضد الزمن الرديء. فبالرغم من كل ما وقع تظل الشاعرة تمارس حياتها عبر القول الشعري. وكل قصيدة من نصوص "قديما مثل هيباشا" هي جزء من حياة الشاعرة وعمرها. ان المرجعية اللغوية التي اعتمدتها جعلتها تتكلم بلغة الأعماق والألم والتحدي، انها تمارس سجدة الشعر ضد الزمن المستبد، ضد الخراب.إنها تكتب الصمت، تكتب فتبعث النص، لينبثق من أزمنة وأمكنة متجذرة في التاريخ، انها نصوص تمتلك الكلمات والأصابع والطبيعة والحركة والجسد. ونلاحظ ان لفظ الأصابع يحظى بأعلى تردد بين مفردات المجموعة،فهو مثقل بدلالات وايحاءات. ان النصوص برمتها هي امتداد للتجربة الشعرية التي عاشتها الشاعرة في دلالتها الاستعارية والمجازية والمكانية التي تلبسها حلة القلق.
ان القصيدة الجبارية نسبة الى الشاعرة سهام جبار تخلق الدهشة والمعنى الشعري، لقد وجدت في تجربتها الحياتية المعاشة نبعاً إنسانياً لكائنها الشعري في تجلياته الإنسانية المتعددة الأبعاد.
لنقرأ هذه المقاطع من القصيدة الموسومة ب "الأماكن" فالشاعرة سهام جبار تحتفي بالمكان بطريقتها الخاصة، فالشعر والحياة جولة عبور وحوار مع المكان والأصل والذات الشاعرة في شتى الفضاءات. والأمكنة تصبح مكتوبة ومشفرة كما ان الكتابة الشعرية تفيد الحياة، الطبيعة،الأشجار، الكتابة، القراءة، القلم الطيور..
ان النص يترجم الحوار مع أشياء الطبيعة والأمكنة فالشاعرة تحمل في نفسها ذكريات لموطنها، إنها الذكريات التي تتوسل الى العبور المستمر، والقراءة داخل الذات سفر يتلبس الذات التي خبرت النفي الذهني والجسدي لنقرأ هذه المقاطع:
تمشيْ في الأماكن
لأن السرابَ خصلاتك
والطيور صدى نسيان.
كل التائقين على الجانبين
يسقون هذا النهر
بعبور يتمنونه
لكنك تجرين
معلقةً السماءَ بالقدمين
وماحيةً هذه الورقة عن الأشجار.
قبل هذه الأماكن نفسي
التي نظرتْ.
كلُ النظر رسوم
تمحينها
كلما جاورتْ مرَّك الأنهار.
أنا التي نظر الأعمى إلي
واختتنني السمعُ
فقبّلتُ هذه الطيور
التي لم تنفجر عند كل محو
أنا التي أتبقى على الأشجار
مضلِّلةً ثمر التطلع
كلما أشاروا هنا
قلتُ هناك
أنتم الذين لا ترون أرى
بالأقلام شعري يرفرف
هل يدّون الجبل؟
يتخيله مطلاً على السماء
فتسرّحه: ترجلْ
سرْ بما كتبوا
سأكتب
أني قرأتُ
فازددتُ عمى
وترددتُ على بلادي
كالسنين
أراكَ معي؟
أيها المقعَد على الجانبين
نوارس دجلة
وهور أبي
سحابتان في عينيّ
مندستان
بين الأماكن
تشقان جيبي فيهطل العمر
واكترثْ أو انزعْ قميصك
أدلّكُ رحمه
هل ولدوكَ هنا
وتواروا عن العد؟
وراءك فاركضْ
قبلك فاحملْ
على الأكتافِ دمهم
إنهم موتى
خذوا ما قد تبقى
ليست الأرض إلا حلماً
سأصنعه وأمحوه
ويلوّنون سربي
المتعقبَ
كل حمامةٍ أب قد مات
وكل نعيب لماذا تركتموني؟
وما زال تردّدي على الباب
يصرخ سأخرج
وما بك من الجهتين منتظر؟
بابك أم مفتاحهم
أماكنك أم سراب هذا القلم
الذي ينتظر؟
وبيننا.. بيننا قربانٌ ليس يدرك من هو
وإلى أين يتجه
خذ يده وأطفئ صراخَ الرصاص
لثام الوجوه
عذاب الكلمات تحت أضراسهم
إنهم حولك بينك
قبلك خلفكَ
لكن لا ترى الأماكنُ
هذه الدمامل على وجهها
ويا أيها النهر اجرِ بي
قاربنا يكاد يبللُ نارهم
دمنا يطفئ موتَهم
جذّفْ بنا

ان مجموعة "قديما مثل هيباشيا" للشاعرة سهام جبار تنم عن ملامح سيرذاتية للذات الشعرية المبدعة فهي تجربة مفعمة بالانبثاق بالتحدي والإصرار والإدانة.
إنها تجربة تتقاسم جانبها المأساوي الأنثوي مع الرموز التاريخية الأنثوية القوية في التاريخ الإنساني " هيباشيا"
إنها قصائد مدركة للألم الإنساني في بعده الوجودي الفكري، والشعر بهذا المعنى يصبح بمثابة فعل تطهيري يمكن من صوغ إرهاصات الانبثاق والانبعاث والحياة من جديد ضد كل ما هو قبيح مخرب للإنسانية..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا قال النائب الفرنسي الذي رفع العلم الفلسطيني في الجمعية


.. لا التحذيرات ولا القرارات ولا الاحتجاجات قادرة على وقف الهجو




.. تحديات وأمواج عاتية وأضرار.. شاهد ما حل بالرصيف العائم في غز


.. لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية الفرنسية تعقد اجتماعها الخام




.. إياد الفرا: الاعتبارات السياسية حاضرة في اجتياح رفح