الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاعا عن الحائط

نضال الصالح

2010 / 2 / 6
الادب والفن


منذ صغري ولي علاقة خاصة حميمية مع الحائط. كنت في طفولتي أحبو إلى أن أصل الحائط فأجلس طويلا متكأ عليه. عندما كبرت كنت أصر على أن يكون سريري محاذيا للحائط وفي المدرسة الداخلية كنت دوما أختار السرير المحاذي للحائط وكذلك في الفنادق أو في أي مكان أنام فيه حتى في السجن كنت أضع برشي بجانب الحائط. كان الحائط وما يزال يشعرني بالأمان.
في العام الثامن والأربعين، حين بدأت هجرة الشعب الفلسطيني، الذي طرد من أرضه على يد عصابات القتلة اليهود، لجأت إلينا في نابلس جدتي من أمي وعائلتها. كانت جدتي وعائلتها تسكن مدينة الرملة، ولقد طردت من بيتها على يد جنود الهغانا، وخرجت بما عليها من الملابس، قاطعة المسافة من الرملة إلى نابلس مشيا على الأقدام. كانت عائلة جدتي تضم بالإضافة إلى جدتي خالتين وخالين ولقد إنضم إليهما بعد يوم خالي الكبير وزوجته وبناته الأربع وأولاده الثلاثة، فاصبح عددنا يفوق طاقة بيتنا. لذلك، قرر والدي أن نترك البيت لجدتي وعائلتها وأن نرحل إلى بيتنا في القرية، وهكذا كان.
بيتنا في القرية قديم جدا ويتكون من طابقين، العلوي ويحتوي على أربع غرف كبيرة تحيط بساحة نصفها مكشوف والنصف الآخر مسقوف، هذا إلى جانب المطبخ وبيت الخلاء. أما الطابق السفلي فيتكون من دارين مستقلتين أحداهما كانت تستعمل لخزن الحبوب والزيت والزيتون ولإيواء الماشية والثانية لنوم الضيوف. كان يسكن في هذا البيت الكبير، الذي عرف سلسلة من أجدادي، عمي وزوجته، ولم يكن لهما أولاد أو بنات، فلقد كانت زوجته عاقر. قرر عمي أن يترك لنا الطابق العلوي ونزح هو وزوجته إلى الطابق السفلي.
لم يمض يوم على وجودنا في القرية إلا ونحن نواجه بنزوح جديد. لجأ إلينا أقارب لنا من قرية عمواس، التي هدمها اليهود وأزالوا معالمها تماما. كانوا ثلاث عائلات برجالهم ونسائهم وأطفالهم بالإضافة إلى ماشيتهم. كان لا بد من القيام بترتيبات صارمة و ملائمة لإقامة هذا الجيش العرمرم.
إجتمع الرجال حول والدي وتباحثوا وتشاوروا وخرجوا بقرارات ترتيبة وهي أن والدي ووالدتي وطفليهما سيقيمون في غرفة وسيقيم الرجال العمواسيون في الغرفه الثانية ونساءهم وأطفالهن في الغرفةالثالثة، أما الغرفة الرابعة فتحول إلى مطبخ ومجلس للنساء، يجلسن فيه النساء ويتسامرن من جهة ومن جهة أخرى يشرفن على تحضير الطعام لجميع أفراد العائلات الأربعة. ولقد جهزت الساحة المسقوفة لتكون مجلسا للرجال يتناولون في طعامهم ويتسامرون في المساء عندما يرجعون من مضافة القرية.
كان لغرفة نوم الرجال علية صغيرة مرتفعة عن أرض الغرفة بنحو متر ومساحتها مترين في متر، ولقد تقرر أن تكون مكانا لنومنا نحن الأولاد، وكان عددنا ستة، تتراوح أعمارنا بين الست سنوات والعشر سنوات. كانت العلية محاطة من جهتين بدرابزين خشبي ولها نافذة تطل على ساحة البيت. لم يكن للعلية إلا حائط واحد.
لم يعرف اهل القرى في تلك الأيام الأسرة، كانوا ينامون على فرش محشوة بالقطن أو صوف الغنم، تفرش في الليل وقت النوم، و يعاد ترتيبها في الصباح، حيث تطوى و توضع فوق بعضها البعض في ركن من أركان الغرفة. كان بيتنا في القرية مليئ بالأفرشة والمخدات والغطي تحسبا لأي ضيافة طارئة.
في المساء وزعوا علينا نحن الأولاد أفرشة صغيرة وبعض الأغطية، ذهبنا بها إلى العلية. أعلنت للأولاد و بدون مقدمات أنني سأضع فرشتي بجانب الحائط ولم ألق معارضة من أحد إلا من ولد من العمواسيين يكبرني بعام أو عامين. كان أكبر مني سنا وحجما ووجدها مناسبة لكي يفرض نفسه ويعلن تفوقه.
ما كنت لأسمح بذلك، فالحائط لي ولن أتنازل عنه لأحد حتى لو كان ضيفا عندنا. كان هذا الضيف، بالنسبة لي، وفي تلك اللحظة، غريبا، معتديا على حق من حقوقي، وكان علي أن أدافع عن هذا الحق. لقد كان عليه، إن إستطاع، أن ينتزع هذا الحق بالقوة ولم يكن هناك مجال لغير ذلك.
أغلقنا باب الغرفة ووزعنا بقية الأولاد بين الباب والنافذة لمراقبة تحركات أفراد العائلة وإخطارنا في الوقت المناسب، ريثما نسوي الخلاف بيننا . بدأ العمواسي بأن دفعني دفعة قوية كادت ترميني أرضا، فعرفت حينها أن الأمر قد تخطى الجدل العقلاني وحل محله جدل القوة. تعاركنا وتضاربنا بدون الإلتفات إلى أي معيار من معايير الكياسة والضيافة . كانت معركة مفتوحة على كل الإحتمالات ويسمح فيها إستعمال كل الوسائل، ما عدا الصراخ، حتى لا نلفت إنتباه بقية أفراد العائلة. سال الدم من فم غريمي وشعرت بطعم ملوحة دمي في فمي. توالت اللكمات والركلات والخرمشات المتبادلة، حتى الأسنان إستعملت في هذا العراك وكان العض المتبادل أحد الوسائل القتالية المؤثرة. تدحرجنا على الأرض وتبادلنا المواقف والمواقع ومرت لحظات كنا فيه في شبه عناق. وقف بقية الأولاد صامتين، يشاهدون المعركة بوجل وترقب في نفس الوقت الذي كانوا يقومون فيه بمراقبة الباب والنافذة خوفا من أي طارئ. نحن لم نكتف بأخذ وعد منهم بأن لا يخبروا الأهل أو يقوموا بإخطارهم بما يجري، بل زدنا على ذلك بتهديدهم بالضرب المبرح إن قاموا بذلك.
لم أدري كم طال زمن القتال وخيل إلي أنه أبدي و شعرت أن ضرباتنا المتبادلة بدأت تضعف وأخذت تخطئ هدفها. لقد بدأت أشعر أنه لن تطول المدة حتى ينهي أحدنا القتال مستسلما وكنت أقول لنفسي بأنني لن أكون البادئ في الإستسلام ولكنني بدأت أشك في إمكانية صمودي إلى مالا نهاية. إستولت علي لحظات وهن تسائلت فيها إن كان الحائط يستحق كل هذا العناء والجهد والألم. ولكنني كنت أرد على هذا التسائل بأنني سأدافع عن حائطي إلى النهاية.
فجأة وقف العمواسي عن القتال، رفع يدية وقال وهو يلهث ويلحس دمه السائل من فمه بلسانه: " طيب طيب، الحيط إلك." ثم أدار ظهره وفرش فرشته تحت النافذة. فرشت بدوري فرشتي بجانب الحائط واستلقيت على فراشي وأدرت وجهي للحائط والدماء تسيل من فمي وأنفي. مسحت دمي بإصبعي وكتبت بدمي على الحائط إسمي، وبكيت بصمت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا