الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن السقوط

عدنان الصائغ

2002 / 7 / 6
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


مرايا

 

زمن السقوط

 

                               عدنان الصائغ

 

يا ابن آدم، إذا رأيت  الناس في الخير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم فيه.

-              الحسن البصري –

 

كلما كانت الحرية أقل كان الإنسان أقل.

- همنجواي -

 

إن الأنظمة العربية نفسها هي أول من قفز إلى الدين لتبرير الهزيمة فشدوا على الجانب التوكلي الغيبي وتركوا الجانب التعبوي والتحريضي في الإسلام أيضاً.

- جلال صادق العظم -

 

اخرجْ ورقة صغيرة وقلماً وأكتبْ فيها ما يلي: يقول قس بن ساعدة: "إذا رأيت معركة جبانها يكرُّ وشجاعها يفر وخسيس المحتد يتحكم بكريم المحتد، فأصعد إلى رابية، وترقب الأحداث، ترَ ان في الأمر خيانة". ثم اطوِ الورقة وضعها في جيبك وصية أو حكمة أو حرزاً أو شعاراً أو وصفة طبية لأمراض الزمن العضال، لن تجدها في كل صيدليات ومكتبات العالم، تستطيع إشهارها وقت ما شئت لتقيك صدمات حداثة السقوط ذلك إن للسقوط تاريخ وحداثة أيضاً تتجدد بتجدد الزمن وتنوع الأسباب والعوامل والمبررات والتبريرات والأشخاص والتجمعات والشعارات والحكومات والخ.

وقد يبدأ الكاتب مجيداً نظيفاً صافياً فيسقطه التكرار أو خيانة الضمير أو الجشع الإعلامي أو المعارك الجانبية أو الانشغال بأمور الحياة العابرة أو هجر المكتبات أو التعالي على جمهوره أو الانتفاخ بالغرور. وقد يبداً الحزب وطنياً ثائراً فتكرّشه صحون المطاعم وشيكات البنوك فيستعيض عن المبادئ بالشتائم وعن الأهداف بالمؤامرات وعن كسب الناس بكسب المناصب وعن الحقائق بالإشاعات وعن الحوار بالتصفيات وعن الوطن بأجهزة المخابرات.

وينطبق هذا على الأشخاص مثلما ينطبق على الحكومات، وعلى الكتب مثلما على المزارع، وكذلك النوادي والنقابات والجمعيات والأسواق والمصانع والمعارض ودور الأزياء والمسارح والسينما والخ .. والخ .. وهذا السقوط لا يأتي من فراغ ولا يحدث بالصدفة المحضة ذلك أن كل صدفة محكومة بعواملها وكل فراغ لا يوّلد شيئاً أو فعلاً، إذ أن العقل كما يرى الفيلسوف كانت هو الذي يركب ويؤلف جميع المحسوسات وذلك بما يملك من معارف ضرورية، معارضاً فيلسوف الشك ديكارت الذي يرى أن للمعارف الفطرية واقعاً موضوعياً بينما يقسّم الفيلسوف اسبينوزا  المعارف إلى أربعة: سماعية وغامضة واستنتاجية وبديهية والأخيرة هي يقين صادق بذاته، وعلى هذا، وعلى مبدأ العلية في المذهب العقلي يكون لكل حادثة سبب، وهذا ما يعتبرها بعض الفلاسفة من أهم الركائز الكبرى للقضايا المركبة والمعقدة في الفكر الإنساني.

واتركْ هذه الخبيصة الفلسفية الشائكة بين باركلي وجون لوك وكانت واسبينوزا وليبينتز وهيوم وديكارت وغيرهما، وامسك برأس الخيط. لا تضيعه. كي لا تضيع منك حكمة قس بن ساعدة في هذه المتاهة الشائكة فلا ينفعك قارب ديكارت في يم الشكوك المتلاطم ولا تستطيع أن تستلخص ما ذهبتْ إليه  فلسفة ابن خلدون في فهم طبيعة مجتمعك الذي ترى فيه المتشاعرين يتصدرون المهرجانات وباعة الأوطان يتحدثون عن القيم الوطنية والجنرالات المهزومين يحتفلون بأعياد النصر وجوقات المخبرين والفاشلين والمهرّجين يُحتفى بهم في كل مجلس واجتماع. وهذا كله لا يأتي اعتباطاً، لا بناءاً على مبدأ العلية أو السببية بل بناءاً وبناءاً على بيولوجيا التسوس وسيكولوجيا أمراض العقدة، في تفسير صعود الانتهازي الذي سيمهد السلالم لصعود الدكتاتور، واندحار المثقف الذي سيمهد الطريق لاندحار المناضل وبالعكس.

وهذا الصعود أي صعود الدكتاتور على أكتاف الجماهير، تعضّده دائماً جوقة المصفقين في كل زمان ومكان والذين سيزدادون طردياً بازدياد المكاسب والمصالح بينما يزداد حصار النخبة طردياً أيضاً بازدياد القمع والإرهاب. على إن هذا من البديهيات التي لا تحتاج إلى شرح أو أدلة والتي يفهمها حتى بائع اللبلبي في شارع الحمراء أو في شارع الرشيد لكن الغريب في الأمر أن لا يفهمها المثقف الجاد الذي يرى بأنه لا بد من تعليق كل أخطاء التاريخ والوطن والجماهير والأحزاب على شماعة الدكتاتور وحده فقط. والعجيب أيضاً أن لا يفهمها سياسي ما ، يرى بأنه لا بد من ذبح الجماهير كلها التي صفقت للحاكم السابق لتطهير الوطن الذي سيحكمه بجماهير بديلة يعلمها كيف تصفق له وحده. وهذا كله جزء من إفرازات زمن السقوط أيضاً. ولا عليك بالأجزاء الأخرى فهذا يحتاج إلى مجلدات ومجلدات لكنك حتى لو قرأتها كلها لما توصلتَ إلى أكثر ما توصل إليه ذلك البدوي الجاهلي الذي لم يعيش عصر الكومبيوترات والصواريخ والأحزاب وصناديق الاقتراع، ولن ترى أبعد من رؤيته الصافية لكل معاركنا وحواراتنا الخاسرة إلا بإيعازها إلى الخيانة، إذ لم يأتِ كل هذا الخراب والسقوط الذي مرَّ إلاّ من خلال تلك النقطة السوداء سواء كانت في الضمير أو في المبدأ أو الوطن أو الثقافة أو الدين أو الحبيبة أو الحزن أو الشعار أو البيع أو الشراء أو الصداقة والخ والخ .. ولا تجزّأ في أي من هذا، ذلك أن الخيانة مثل السقوط لا تتجزأ مثلما لا تُبرر، وليس هذا فقط، فالذي يخونك في الصداقة يخونك في الوطن والقصيدة والشعار والذي يسقط في القصيدة يسقط فيهما أيضاً، وعلى هذا انشغل علماء الفقه في عصر هولاكو بالتطاحن بين المذاهب، وانشغل شعراء الأمة في عصر الفترة المظلمة بالقصائد المشجرة والمخمسة ووصف النرجيلة والبقلاوة والأخوانيات، وأنشغل بعض سياسيّ الوطن في عصر الدكتاتورية بالتناحر حول الشعارات والبنوك والتصفيات.

ولا تلم الزمن وحده الذي أوصل السياسي الانتهازي إلى السلطة ولا تلمه لوحده فقط بل لُمْ من أوصلوه إليها. ولا تلم المثقف المهرج الذي يملأ الصحف والمنابر لوحده ولا تلم الصحف والمنابر فقط بل لم من أوصلوه إلى ذلك والخ ..والخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نيويورك تايمز: صور غزة أبلغ من الكلمات في إقناع الآخرين بضرو


.. فريق العربية في غزة.. مراسلون أمام الكاميرا.. آباء وأمهات خل




.. تركيا تقرر وقف التجارة بشكل نهائي مع إسرائيل


.. عمدة لندن صادق خان يفوز بولاية ثالثة




.. لماذا أثارت نتائج الانتخابات البريطانية قلق بايدن؟