الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الإسكندرية

مهدي بندق

2010 / 2 / 11
الادب والفن



عن الإسكندرية
مهدي بندق

1- مغزى مكتبة الإسكندرية
عام 1938 أصدر طه حسين كتابه العمدة " مستقبل الثقافة في مصر " وفيه شرح العميد كيف يمكن للمحروسة أن تخرج من نفق الأزمنة المتخلفة ، لتحلق في فضاء العصر الحديث مثل غيرها من الأمم الناهضة . كان مشروع طه حسين يرمي إلى فتح النافذة " البحرية " أمام مصر لتلتقي ثقافة الحداثة الأوربية ، حيث المناهج العصرية في التعليم ، وحيث الحياة العقلية تزدهر وتتألق دون خشية من دعاوى تحريم أو خناجر تكفير ، حيث الديمقراطية واحترام حرية التفكير والتعبير والعقيدة ، وحيث الناس ثمة يجرءون علي وضع كل شئ موضع المسائلة . اليوم وبعد مرور أكثر من سبعين عاما ، لا يزال هذا المشروع الثقافي الهام حبيس دفتي الكتاب . وقد لا يكون مستغربا ً أن يتجاهل النظام السياسي في مصر – منذ 1952 وحتى الآن – هذا المشروع ؛ ما دام النظام يعتقد أنه مشروع يتناقض مع الدعوة للقومية العربية ، التي ستقوم بفضلها وحدة العرب من المحيط إلى الخليج ! إنما العجيب أن يبقى المثقفون راقدين في عربات النوم، أو منتظرين في السبنسة أن تسحبهم جميعاً قاطرة ُ السياسة ، بدلا من ممارستهم لوظيفتهم الحضارية كطلائع للسياسيين . لكن هذا الوضع المعكوس لن يظل قائما ً أبد الدهر . خذ مثلا ً ما يجرى في مكتبة الإسكندرية من حوارات مثمرة حول دور المثقفين في تعديل المسار التاريخي [ الذي ضل سبيله منذ غزا الفرسُ مصر عام 526 ق.م ] لتدرك مغزى تواصل اللقاءات الدورية بالمكتبة .. إنه تفعيل قدرات المثقفين على رسم إستراتيجية جديدة ، عنوانها : مصر أولا ً ، ومستقبل ومصالح وأمن شعبها فوق كل اعتبار .

2-قال البحر للحكومة
جلس البحر الأبيض المتوسط على مقعد الرمال ، حزينا ً يفكر في مصير وليدته الكبرى " بحيرة مريوط " قيل له : ابنتك مسها الضرُ ، وأحفادك الأسماك بقلبها ضربهم مرض الموت بعد أن اخترمهم التلوث .
يسأل البحر مترنحا ً : من فعل هذا بالأحباب ؟! تزأر رياح ُ الشرق : قومك المصريون يا مولانا ، فهم الأبرع في إيذاء النفس قصدا ً أو بدون قصد .
للبحر قول مأثور " إياك أن تلوم الضحية " لذا هتف ضائقا ً : التعميم خطأ فاحش، كما قال الفيلسوف هيجل . كيف نضع الفاسدين ناهبي أقوات الناس ، لصوص أراضي وأموال الدولة ، في سلة واحدة مع الزراع الموجوعين ، والعمال المعتصرين ، والموظفين التعساء ، والصيادين الذين فقدوا الآن أرزاقهم ؟ أضاف البحر : أن ندين هؤلاء وأولئك معا ً لمجرد أنهم مصريو الجنسية إهانة للعقل وللضمير .
قال البحر لنفسه : أعرف أن مصر تحصل على 55 مليار متر مكعب سنويا ً من مياه شقيقي النيل ، للفرد منه أقل من 800 متر مكعب ، وهي حصة متدنية للغاية ، تهدد بمجاعات قادمة ..فكيف تسكت الحكومة على مافيا الأراضي المتآمرين على البحيرة وثروتها السمكية ( وهي نواة تسند الزير بسوق الغذاء القومي ) إذ يلوثون مياهها بالمخلفات عمدا ً ، تمهيدا ً لتجفيفها وتحويلها لأراضي بناء ، تقام عليها القصور وملاعب الجولف والفنادق السياحية ؟!
قال البحر للحكومة : ما لم تمنعي هذه الكارثة يا من وظفناك لخدمتنا ، فلسوف أحضر بنفسي من الإسكندرية لأحاسبك حساب الملكين .. فافعلي الصواب قبل يوم الحساب .

3- نجيب محفوظ ينتصر للإسكندرية
في روايته الشهيرة : رباعية الإسكندرية يقدم لورانس داريل – عميل المخابرات البريطانية - أهالي المدينة ، ممثلين لمصر، في صورة كريهة ، فهم متعصبون جهلاء ، متبلدون ، سلبيون لا تعنيهم السياسة .. حياتهم هي المأكلُ والمشرب ُ والتناسلُ حسب ُ!
أما الأجانب المستوطنون للمدينة - ومعظمهم من اليهود الأذكياء ! – فقد يمارسون بينهم علاقات الزنا والشذوذ والجريمة بوصفها " مرحاض الحضارة " لكنهم قبلها يتنفسون الشعر والفلسفة والحب والصداقة والسياسة كضرورات حياة . أين هؤلاء من أولئك ؟! فكأن داريل يقول لأهل الإسكندرية : مادمتم معلقين بالمراحيض واقفين بأبوابها خداماً للأجانب ، ومتسولين في أسواق الإنتاج العالمي فلا تحلموا بواقع أفضل .
ذلك نقد وإن أوجعنا لابد نتأمله .. إن شئنا تغيير واقعنا الحالي ّ المهين . وهنا يبدأ نقدنا الذاتي الشجاع بالتوازي مع نقد ٍ منا مضاد ٍ لمن تعمد الغطرشة على سجايا السكندريين وعلى رموز مدينتهم العريقة خاصة في عصرها الإسلامي المتوهج بالضوء .. فأبو العباس المرسي – برؤية داريل الأحادية - مجرد مسجد ، وليس القطب الصوفي ّ الذي علـّم الإسكندرية الفلسفة والمنطق والفقه مجانا ً [ أكرر مجانا ً] كذلك يستحق داريل " قرصة أذن " لتجاهله أعلاما ً سكندريين كالطرطوشي وسيدي جابر والقباري والشاطبي والحافظ السِلْـفي وابن الحكم ممن أنعشوا ثقافة المدينة ممهدين لظهور عظمائها الأحدث : سيد درويش وناجي ومحمود سعيد أخوال وأعمام العبقرية العالمية " نجيب محفوظ " الذي انتقد أيضا ً في رواياته سلبيات الإسكندرية ولكن من منطلق الحب لها والإنصاف لشعبها .
هكذا انتصر أدب ُ نجيب الرائع ُ على سفاهة َ لورنس المشبوه .


4- النيل غير موجود بقطار الإسكندرية

قال أبي : سنسافر وغايتنا القاهرة . وركبنا القطار فدهشت ُ .. كان خاليا ً من الأهرامات وأبي الهول ونهر النيل. عقـّب أبي : وهل القطار هو القاهرة ؟! إنه مجرد وسيلة مواصلات ربما تبلغنا مرادنا وربما تتعطل فلا نصل .
مضى على هذه الأمثولة ستون عاما ً . أتذكرها كلما رأيت أناسا ً يخلطون بين الديمقراطية كنظام يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه وبين الانتخابات كوسيلة لتحقيق هذه الغاية.
اليوم ومع تطور الوعي بالديمقراطية صارت الشعوب المتقدمة تحكم نفسها بواسطة رؤساء ونواب تختارهم بحريتها ، وتحاسبهم وتبدلهم دوريا ً بإرادتها ، فإذا أخطأت الاختيار لم تقل : فليول ِ الربُ من يصلح . إنها لا تلجأ للرب ليغير أحوالها – ليس من باب الكفر والعياذ بالله – بل لأنها نضجت فأدركت أن الشأن السياسيّ مسئولية الشعوب ما دامت هي مصدر السلطات .
الديمقراطية إذن نظام ٌ تصدر التشريعاتُ والقوانينُ والأحكامُ القضائية فيه باسم الشعب إذ ُيفصل الدين ( الذي هو مطلق ثابت ) عن السياسة بحسبانها نسبية متغيرة ، وبهذا يكرس الإنسان سيدا ً لمصيره وصانعا ً لمستقبله .
تلك خلاصة نظرية الديمقراطية ، وحيثما جهلت المجتمعات المتخلفة مغزاها ، فلا غرو أن ُتحبس في دائرة شريرة يقود فيها جهل ُ الناس الفكريّ والسياسيّ إلى إفقارهم ماديا ً ومعنويا ً بما يعيد إنتاج الجهل فالإفقار فالجهل دواليك . فأي نفع في الترويج لفكرة الانتخابات مع الغطرشة على حقيقة الديمقراطية؟
بالانتخابات وحدها قد يركب الشعب ُ قطار الإسكندرية قاصدا ً القاهرة ، ويقينا ً لن يجد النيل العظيم داخل قطاره ، فلماذا يندهش ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عن الإسكندرية
فايزة محمود ( 2010 / 2 / 11 - 17:09 )
موضوع جميل جدا . نتمنى من الأستاذ مهدي أن يكتب عن الإسكندرية أكثر وأكثر


2 - إسكندرية مهدي بندق
على ممتاز ( 2010 / 2 / 11 - 19:11 )
مقال مميز لكاتب شديد الوعي بالأبعاد الثقافية لمدينة الإسكندرية ذات الميراث التاريخي والحاضر المنذر بأخطار بيئية وسياسية .. وهو يربط بين الفلسفة والأدب والسياسة بخيوط حريرية ليس فيها تعقيد . وهذا هو اسلوب السهل الممتنع فشكرا للأستاذ مهدي بندق على هذه التحفة الفنية الرائعة الجمال


3 - مهدي بندق : شاعر الإسكندرية
كرم الشهاوي ( 2010 / 2 / 11 - 20:37 )
هذا المقال عبارة عن قصيدة شعرية وإن كتبت نثرا بقلم شاعر كبير يعرف كيف يستحث الفكر والهمم عند الناس البسطاء والمثقفين معا . فعلا ً كان نجيب محفوظ - أستاذ مهدي بندق - يعرف الإسكندرية وينقد أهلها من منطلق الحب، والاعتزاز بعكس لورانس داريل الذي كان عميلا للمخابرات البريطانية ولهذا لم ير في أهل الإسكندرية غير الخدم والمومسات واللصوص والباعة الجائلين ، التافهين ولهذا كتب مهدي عن البحر السكندري الذي سوف يغرق حكومة اللصوص سارقي أقوات الشعب . برافو أستاذنا الشاعر الكبير


4 - تعليق اسكندراني
ماجدة بدوي - مهندسة ديكور ( 2010 / 2 / 12 - 08:08 )
أستاذي مهدي بندق
أتابع كل ما تكتبه في الصحف المصرية والعربية ويشوقني الى حد الطرب عرضك لفكرك التقدمي النزيه . هكذا يكون النقد .واختيار لنجيب محفوظ سيد
الرواية العربية دليل الوعي بشروط النقد الذاتي


5 - دائما كانت مصر أولا
أبو هاجر: الجزائر ( 2010 / 2 / 13 - 11:44 )
منذ كتاب فلسفة الثورة الذي يعد زبدة النخبة المصرية إلى جميع الأحزاب المصرية اليوم من إخوان و لبراليين إلى وطنيين شعاركم واحد مصر أولا بل اكثر من ذلك مع ذلك الشعار المستوحى من الأدبيات النازية ، مصر فوق الجميع .الفرق أن عبد الناصر كان يتستر تحت عباءة القوميةالعربية
وهذا ما عبر عنه فكريا طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر الذي كان يرى مستقبل مصر مع الغرب و ليس مع العرب . من حقكم أن تختاروا ما يناسبكم لكن ليس من حقكم استغلال العرب من أجل مصالحكم.
حتى طه حسن عندما اكتشف الحقيقة عاد إلى الحضيرة في كتابه ، من بعيد .

اخر الافلام

.. قبل الامتحانات.. خلاصة مادة اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية


.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي




.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال


.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما




.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم