الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقاء الجنس القصصي في (تسونامي) مصطفى لغتيري

ادريس الواغيش

2010 / 2 / 11
الادب والفن


الإعلاء من قيمة القصة والولاء لها ، يظهر بجلاء في مجموعة (تسونامي) التي حاول لغتيري من خلالها ، الإخلاص للقصة أولا والحفاظ على خصوصيتها. لم يستظل بغير ظلالها ، كما يفعل بعض الكتاب ، يستظلون بظلال أخرى كالشعر والخاطرة والرواية ، وهكذا تبقى نصوصهم خارجة عن أي تصنيف ، ولا تخضع للخصائص البنيوية لأي جنس.
الأشياء الجميلة كما تعودنا ، تأتي دائما من الطلقة الأولى ، أي من العناوين ، لذلك جاءت عناوين المجموعة القصصية (تسونامي) غير مركبة على غير العادة ، أو كما هو متداول في كثير من الأعمال الأدبية : ( نظافة / المطهر/ حذر/ الموت / تفوكت / خداع /.....). هل هو عمل مقصود من الكاتب ليتماشى مع الومضة ؟ أم اختزال المختزل ، ليصبح الكل في واحد ؟.
يقول الدكتور محمد رمصيص في كتابه القيم " أسئلة القصة القصيرة بالمغرب" : ( القصة القصيرة نقطة تماس وتلاق عدة أنواع أدبية). لكنني أعتقد أنه ليس ضروريا أن يحضر هذا (التلاق أو التماس) في القصة القصيرة والقصيرة جدا تحديدا، كما هنا ، وفي كثير من الأعمال المتميزة الأخرى ، لأن هذا (التماس) قد يضر أحيانا بنقاء الجنس ، فيختلط الشعر بالسرد ، ويحتار القارئ ، بل يتيه وهو واقف أمام الكثير من العلامات .
ما يصادفك للوهلة الأولى في مجموعة (تسونامي) ، هو هذه القدرة التعبيرية الهائلة ، وهذا التقتير الكبير في اللغة ، مع توظيف جمالي ل ( قبح) طبيعي مخيف ، قصد الإيحاء إلى (تسونامي) حقيقي ، قد يكون سياسيا أو اجتماعيا ، وهنا نستحضر سؤالا جوهريا : كم يلزما من (تسونامي) في هذا العالم ، لنتخلص من عيوبه وقبحه ؟. كما يظهر جليا ذكاء مصطفى لغتيري في توظيفه لظاهرة طبيعية مخيفة ومرعبة ، من أجل موضوع إنساني سامي ونبيل .(...جاء الغرباء (فجأة)..طفقوا (بلا هوادة ) يدهنون الذيل بطلاء أبيض (فاقع لونه)...رأت موجة سوداء ما حدث ، فثارت غاضبة....انطلقت من عقالها....اكتسحت الذيل ، فجرفت (ذلك) الطلاء الأبيض). الفكرة جميلة جدا في حد ذاتها بشكل فادح ، لكن بعد قراءة قصة ق. جدا لأيقونة هذا الجنس الأدبي وذرته ، الفلسطينية ياسمين شملاوي تحت عنوان : " الرحمة " والتي تقول فيها كل شيء ، بأقل المفردات وقليل من البياض : ( تحسس اليد بنعومة....قلبها برفق وحنان...خط فوقها قلبا ، وأشار لمساعديه : " من هنا اقطعوها...." مع مقارنتها بقصص (تسونامي ) وغيرها من القصص في أماكن أخرى ، عرفت أنه يلزمنا الكثير من التشذيب ، وأنه علينا كقصاصين مغاربة (رغم السبق والتخصص ) أو كمهتمين بهذا الجنس ، أن نعيد قراءة هذا المنتج الفلسطيني لنتعلم من أصغر كاتبات فلسطين ، ( قد يكون هذا هو قدرنا... شعرا وسردا) وأن أغلب ما نقرأه في هذا الجنس لا يخضع لمقاييسه ، لأن كل كلمة زائدة لا تؤدي وظيفة في القصة القصيرة جدا ، تبقى مجرد حشو و( لغو بالمجان) بتعبير الناقد المغربي الدكتور الحبيب الدايم ربي .
ما أعطى المجموعة نكهة خاصة (بالنسبة لي على الأقل) هو عدم اكتراث مصطفى لغتيري في غالب الأحيان بشعرية السرد ، التي تطغى على الكثير من الكتابات في هذا الجنس (ق.ق.ج) ، لأنه مع اللغة الشعرية ، يتيه القارئ أحيانا ، ويسرح خارج النص أو يجنح به خياله بعيدا عن المعنى الحقيقي ، الذي يرمي إليه القاص تحديدا ، ونصبح أمام تعدد المعنى وتعدد القراءات وتعدد الصور ، ونحتار من أين نقبض على المعنى : هل من قفاه أم من خصره ؟ و أحيانا ندور ونلف ، فلا نجد لا صورة ولا معنى ، فقط رومانسية حالمة تنفلت كالسراب ، وهذا ما يذهب إليه أيضا القاص الأردني ناصر الريماوي في قوله : " اللغة الشعرية تسبب إرباكا للقارئ في القصة".
أما في (تسونامي/ لغتيري) فجاءت الصور واضحة بلا تعتيم أو ظلال زائدة ، رغم بعض الزيادات التي كان من الممكن تجنبها مع بعض التكثيف. كما أن لغته الموغلة في الإدهاش الجمالي ، تصل بك وبطلقة واحدة إلى الهدف ، دون لف أو دوران. الملفت في كتابة لغتيري ، و في هذه المجموعة على الخصوص ، هو أنها كلها كلمة سر أو مفتاح للدخول إلى عالمه ، صحيح أن بعض النصوص منفتحة ومتعددة القراءات والتأويلات ، لكنها مع ذلك ، تبقى ذات مقاصد واضحة ، يمكن توظيفها في جميع الحالات ، لمجرد حذف أو تغيير هذا الضمير أو ذاك ، وهو ما يعني حتما أن أغلب النصوص قزحية ، لكنها تحمل محتوى إنسانيا بامتياز. ففي قصة (حرية) يكفي أن تستبدل جبال الريف أو الأسبان بسلالة استعمارية أخرى ، كي تصبح القصة صالحة لكل المستعمرين(بفتح وكسر الميم) من دون أن يفقد النص جماليته وفلسفته ، يكفي أن توجه فوهة المدفع لتكون الطلقة جاهزة ، لأن الحرية كمفهوم إنساني لا تهم المغاربة وحدهم ، بقدر ما تهم كل من يعيش على البسيطة ، ولا الاستعمار يهم اسبانيا وحدها ، بل جميع من تخطى حدوده لاحتلال الغير، قديما وحديثا. لذلك قد يكون من السابق لأوانه القول بأن نص (الحرية) الذي اختاره المؤلف ليكون خلفية للغلاف من أجمل نصوص المجموعة ، ولا (تسونامي) الذي عنون به المجموعة التي عرفت به.
مصطفى لغتيري كذلك ، لا يغرق في الكتابة ويطول في حبكتها ، يبتعد قدر الإمكان عن لغة الوصف والسينما من حيث صيرورة الحدث وتتابعه ، أغلب نصوصه لا يزيد أبطالها شخصين أو واحد ، ففي (أزكيف) نجد (المعلم / التلميذ) وفي الحرية (الأسبان/ المغاربة) ، كما يمكننا القول أن لغتيري في نصوصه يبتعد عن موجة التجريب الموغلة في الغرابة ، كما هي متداولة في المنتج الأدبي بشكل عام ، لأن طريق قصصه مرسوم بوضوح ، رغم حضور بعض ملامح التجريب المحتشم ، والانزياح والتناصات أو الإيحاء أحيانا.
الملاحظ كذلك أن لغتيري لا يعتمد الفكرة ولا النتيجة ، هو يطرق باب موضوعاته بشكل مقصود ومن دون تردد. هل كان هنا بعيدا عن التجريب بما هو متعارف عليه ؟ ربما ، لكنه اختط لنفسه طريقا واضحا وتجريبيا خاصا به في عالم القصة القصيرة جدا ، وكان موفقا إلى أبعد الحدود في أغلب نصوص المجموعة. قصة (تسونامي) مثلا ، صالحة لكل زمان ومكان ، فقط لو تغير المعطيات الجغرافية والتاريخية والسياسية ، يمكن أن يحدث تسونامي جديد غدا في فلسطين أو أي مكان يعرف عنصرية مقيتة ، كما حدث هنا منذ عشرات السنين ، نذكرها للنسيان فقط. قلمه بقي وفيا لرؤيته الإنسانية من أول سطر في المجموعة إلى آخرها ، في قصصه (رغم بعض الزيادة المجانية) قدرة كبيرة على الاختزال ، وترتيب الجمل في إثتنين أو ثلاثة ، دون المساس بدقة التصويب وسرعته ، اختزال مرحلة تاريخية مهمة وطويلة نسبيا في ثلاث جمل ، ابتعاد عن " القوقلة و المونولوغ " قال / يقول / في كل قصصه ، و لم يخرج عن سياق القصة إلى فضاءات أخرى ، ففي كثير من الأعمال القصصية ، يختلط السرد بالشعر بالخاطرة ، وهذا ليس عيبا في الكتابة القصصية ، شريطة أن يكون له ما يبرره ، لكنه يضر مع ذلك بجنس القصة ، كجنس سردي خالص. لا يعتمد على اللغة الشعرية في كتاباته كما سلف ، بل على قوة الكلمات وتركيبها تركيبا صحيحا ومتينا ، في صياغة تخلو من كل اعوجاج يضر بالسياق العام للكلمات . هكذا تختلط القفلة عند لغتيري بمفارقات وتناقضات ، وأحيانا على رد فعل عفوي بسيط ( في المدرسة الشمس ، وفي الدار تفوكت) .
لغتيري ابتعد عن الخاطرة و المذكرة في (تسونامي) ، فبقي وفيا القصة ، حتى لو تعلق الأمر بمساراته الشخصية ، قفلته قصيرة جدا كقصصه ، تكون المفاجأة متنا لها ، ليريح القارئ من استخدام خياله ، بل يهيئه لاستقبال المفاجأة ، وفق سياق قصصي محكم. أحيانا تكون مفاجأته جميلة ومحبكة بشكل رائع ، رغم كل ما تحمله معها من أوجاع وآلام ومرارة (عنصرية -استعمار، حيرة ،....). في كل قصصه يسوق لنا الفكرة ، ويترك للقارئ ما تبقى من تفاصيل ، يبتعد قدر الإمكان عن النسق التقليدي في السرد ، يقرب اللغة إلى القارئ ، بعيدا عن أي تكليف مجاني أو حشو لغوي ، وهذا يتطلب قدرة إبداعية وأدبية عالية ، وهو ما أبان عنه لغتيري في ( الحرية) كثورة على الأنانية وتضخيم الذات ، لأن الحرية شيء مقدس عند كل البشر ، وليس بالضرورة أن يكونوا متحضرين أو حضاريين (أوروبا قديما / أمريكا حديثا) ليبقى للحرية (...التي ليست بالضرورة امرأة شقراء ، ذات عينين زرقاوين) طعما يتذوقه باقي الناس على السواء ، بشكل متناغم يكاد يكون متشابها. لغته مشوقة سهلة ، واعية منفتحة على الحقيقة والتاريخ ، تمتزج فيها الحكاية مع الرسالة ، الخطاب مع الذات ومع الآخرأو كما يقول الأديب والناقد السوري ( مع المحيط الضيق والمحيط العريض). كما يلاحظ أن مجموعة (تسونامي) متناغمة في مستوياتها الجمالية ، ليست هناك قصة جميلة وأخرى جيء بها لملء مكان شاغر في المجموعة فقط. كما أن الإهداء جاء مناسبا ومنسجما مع مضمون المجموعة ، التي طغى عليها الجانب الإنساني على سواه من الجوانب الأخرى ( الاجتماعي - السياسي - ...). لم تقف نصوص لغتيري على تخوم نوع معين من الكتابة ، ولا دخلت في تفاصيل هامشية وهشة ، بل دخلت إلى عمق الطبائع البشرية ، لا يكف في كل نص عن طرح أسئلة أخلاقية وفلسفية. قد تكون المواضيع الواردة في نصوصه مألوفة ، لكنها عالمية النبرة - إنسانية البعد ، يصعب أن تموت بسهولة . أسلوبه ليس مذهلا ، لكنه يوجز العبارات ، سريع الإيقاع ، ينجح في رسم صور بلاغية ، ويوصل أفكاره للقارئ بسهولة وبدون مراوغة. يمكننا أن نصنف قصصه في خانة " الأدب الموجز" كما عرفه الأمريكيان (روبرت شيبارد) و(جيمس توماس) سنة (1992) ولو أنها قصيرة جدا وفق المعايير التي حدداها ، وهو المعيار الذي أعطانا مؤخرا هذا الجنس الأدبي (القصة.ق.ج) كما هو متعارف عليه الآن. قد (يعاب) على القاص المتميز مصطفى لغتيري لغته التي لم تكن هنا قوية بالشكل المطلوب ، لكن لا يمكنها أن تكون كذلك ، وفي نفس الآن قريبة من القارئ ، مع أن هذا هو الأهم.
هل يمكننا القول بأن لغتيري في (تسونامي) تخلص من البناء التقليدي الكلاسيكي ، حيث تغيب صرامة الأحكام (بداية ، وسط ، نهاية)؟. من حيث الشكل ، يمكننا أحيانا الجزم بذلك ، لكن من حيث البناء لا يمكن الحكم عليه بسهولة. فمن خلال سفرنا عبر مجموعته (تسونامي) نعرف كيف وظف هذه الأنماط معا بذكاء بالغ ، ليكون قد جمع (الحسنيين) وبين متون قصصية وتجارب مختلفة من الشرق والغرب ، وأعطاها طابعا مغربيا خالصا وبعدا إنسانيا محضا ( العنصرية / الحرية / التخلف / التقاليد/ الهوية / الإيديولوجية / الطبقية / يجعل من ذاته منطلقا نحو العالم أحيانا / من خلال تجارب شخصية وسفريات. هناك تكافؤ واضح بين كل هذه المكونات ، دون طغيان عنصر على آخر، مما أعطانا في الأخير مجموعة متكاملة اسمها (تسونامي).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
مصطفى لغتيري ( 2010 / 2 / 11 - 20:23 )
الناقد المحترم ادريس الواغيش
أشكرك جزيل الشكر على هذه القراءة النقدية اللامعة و العميقة لمجموعتي المتواضعة -تسونامي، و أتمنى لك مسيرة نقدية ظافرة و متألقة.
مع كل الاحترام و التقدير.

اخر الافلام

.. تفاعلكم | شراكة تعد بولادة جديدة للسينما العربية..تفاصيل الم


.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??




.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا


.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك




.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ