الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..

رباح آل جعفر

2010 / 2 / 12
الادب والفن


عرفت الكاتب ، والصحفي الرائد ، الراحل الأستاذ شاكر علي التكريتي ، وكان في شيخوخته ( وقد بلغت القلوب الحناجر ) .. وعندما رأيته أول مرة ، رفع لي قبعته السوداء ، وهزّ عصاه بيديه ، وقابلني بودّ .. ثمّ اعترف لي بحقائق أشبه ما تكون بمذكرات الموتى ، وأصدق من جان جاك روسو في اعترافاته ، وقال في السياسة ، ما لم يقله مالك في الخمر ، ولسان حاله يخطب : ( يا بلاداً بلا شعوبٍ أفيقي ) ، واحمرّت وجنتاه ، وارتجفت شفتاه ، وكنت أخشى على ( لسانه الطويل ) ، أن يكون مثل لسان الشاعر الفرنسي شينيه ، الذي قتلته مقصلة الكونكرد !.
وإذا رأيت ما يدهشك ، فانتظر قليلاً حتى لا تقول شيئاً يدهش الناس .. ورويت له حكاية الفيلسوف بيكون الذي كان يعلن : أن هناك أسراراً يصعب على الناس العاديين فهمها ، ويجب ألاّ تكون في أيديهم حتى لا يحرقوا أنفسهم ، ويحرقوا العالم معهم ، وكان من نتيجة هذه الحكمة ، أن أُحرِقَت كتبه كلّها ، وكاد هو الآخر أن يُحْرَق .. ووجدتني ألاحق كل كلمة تصدر عنه أثناء الحديث ، وكلي آذان صاغية ، حتى لا يفوتني حرف واحد مما يقول ، وكان ( أبو جلال ) لا يحكي طويلاً .. كان يحكي فترة ، ويستريح فترة ، ويعبث بإصبعه في أذنه ، أو يلقي نظرة على المارة في الشارع ، الذي يطل منه نادي المهندسين خلف ساحة الأندلس في بغداد .
ومع أني اعرف أن شاكر علي التكريتي من مواليد 1911 ، فقد كان يتحرج حينما يتحدث عن عمره ، وكان كمن يريد أن يصغّر هذا العمر ، ويقول لمن يسأله عن مواليده : ( اسأل عني دائرة رعاية القاصرين !! ) ، فهو يريد أن يكون كبيراً في كل شيئ إلاّ في عمره ، وعندما كنت أناديه بـ ( عمّي ) ، أو ( عمو أبو جلال ) ، كان يقول لي مازحاً : لست عمّاً لأحد ، إنما أنا الأخ الأصغر للجميع .. والإنسان ـ عموماً ـ لا يريد أن يموت ، أو يقتنع بأنه يموت ، أو أنه قريب من النهاية ، وكان ( أبو جلال ) إذا صافح أحداً تعمّد أن يضغط على يده بشدة ، استعراضاً لقوته التي كان يتغنى بها على الدوام ، وطاف بخاطري ، أن عليه أن يرحّب بزيارة عزرائيل إذا زاره في تلك اللحظات ، وكان يقسم في كل مرّة بالأرض ، والسموات ، وما بينهما ( إنني مجنون ! ) ، وإنني استفزّه في الحديث عن الذين ماتوا ، أو عن الأموات الذين لا يزالون على قيد الحياة !.
وفي أيّما موعد مع العم ( أبو جلال ) ، كنت أجده مازحاً ، مبتسماً ، شابّاً في روحه ، ودعابته ، محبّاً للنكتة ، التي لم تفارقه حتى موته ، ولم يعرف اليأس طريقه إليه ، ولقد روت لي يوما قرينته الفاضلة ( أم جلال ) : في زمن كان الدينار ديناراً ، كان ( أبو جلال ) يقول : من يحكي لي نكتة فيضحكني قبل الإفطار ، أعطيه هذا الدينار ، وكان يتمنّى أن يتعلم الآخر أن يضحك ، بدل هذه الكآبة ، وهذا العبوس ، وكنت أقول له : لعلّ بكاءنا الكثير في طفولتنا ، هو الذي جعل أرواحنا حزينة ، ولهذا السبب انتشرت أغاني النواح ، والبكاء ، بين المطربين والمطربات !.
ولم أر أبا جلال يدخن يوماً ، لكنني رأيته يسهر أياماً ، ويقف في فناء الدار ويقول كلاماً يشبه الغزل من الشعر : ( يا قمر .. أنا قتيل شفتيك ) ، وكثيرا ما كنت أجلس الساعات الطوال ، أنشده ، وينشدني بأريحية عالية يذوب في ملتقى دفئها الصقيع ، برغم اختلاف التجارب ، وفارق العمر ، وتباعد السنين .. وله لسان حلو كالشهد ، وكان إذا تعرّف على أديب ، أو صحفي يأخذ عنوانه ، فإذا ثبت العنوان على قصاصة من الورق ، يدعوه إلى عشاء في ( نادي المهندسين ) ، وهو من النوع الذي يقطر كرماً حتى من بين أصابعه ، ومن بين أسنانه .. وعاش حياته مترفاً ، منعّماً ، محبّاً للخير ، ويسعى إلى هذا الخير من أجل الآخرين ، ولو كان الخير في بلاد الصين !.
وكان إذا صفا بعض الوقت قضاه في الحديث عن ذكريات سنين خلت ، من تلك الفترة ، التي أمضاها معلماً ، ومربياً ، ومديراً عاماً للاستعلامات في وزارة المعارف ، وعن عمله مع الأستاذ نعمان العاني في جريدة ( العرب ) ، التي شغل منصب مدير تحريرها ، وعن تأسيسه جريدة ( الشعب ) أعوام الستينيات من القرن الماضي ، وكان هو صاحب الامتياز ورئيس التحرير ، وكيف كان مكلّفاً وظيفياً بمراقبة الصحف ، فيضطرّه منصب ( الرقيب ) إلى كتابة مقالاته باسم مستعار لنشرها في الصحف المعارضة .. ومن الظريف أنه كان يردّ على مقالاته في اليوم التالي باسمه الحقيقي ، وكيف ذهب إلى وزير الثقافة والإرشاد ـ آنذاك ـ الأستاذ مالك دوهان الحسن يعارض بشدة قانون تأميم الصحافة ، الذي صدر سنة 1967، وكيف دخل السجن بعد 17 تموز 1968 مرتين ؟‍.
وشاكر علي التكريتي يدسّ ـ في بعض مقالاته ـ السمّ في العسل ، وأذكر أني ـ في إحدى المرات ـ حجبت له مقالاً عن النشر ، وكنت يومها رئيس تحرير صحيفة الرأي ، وكتبت في أعلاه : ( يحال المقال إلى الرقيب الصحفي العتيد الأستاذ شاكر علي التكريتي لبيان مدى صلاحيته من النشر ) ، وجلس ( أبو جلال ) مكاني ، وأعاد قراءة مقالته بنفسه ، ثمّ كتب بقلمي : ( لا يصلح للنشر ) !.
وروى لي ذات يوم : أنه عندما انتهى من كتابه ( هذه مذكراتي وذكرياتي ) ، ووضعه في دائرة الرقابة لإجازته قبل النشر ، كان ( الرقيب ) هو الأستاذ الراحل عبد الرحمن فوزي ، وقد طلبت منه أن لا يشطب ، ولا يحذف من كتابي ، ومازحته بأنني أكافئه بما يريد ( من نقديّات وعينيات ) ، فردّ عليّ فوزي مبتسماً : أنت الذي علّمتني الرقابة .. وأنا أمين ، ووفي للمهنة التي تعلّمتها منك يا أبا جلال !.
وشاكر علي التكريتي ، الذي كان يجيب من يسأله عن مهنته : ( إنني صحفي من الدرجة العاشرة ) ، هو من عاش عصور الدولة العثمانية ، والعهد الملكي والعهد الجمهوري ، والحمد لله أنه لم يعش حتى يرى العهد الأميركي ، ويلعنه كلّما تذكّر إبليس الشيطان الرجيم .. وكان شاهداً على لحظات تأريخية ، وأفكار ، وتيارات ، وقوى ، ومصالح ، وجيوش ، وعروش ، وكروش ، وبلاط ، وقصور ، وتيجان .. ثم تحطم قلبه ، وأخذه منا الموت غيلة ، بعد صراع مع المرض شاق ، ورحل يوم 18 كانون الثاني 2001 ، برغم أنه كان يخاف الحياة مع الموتى ، وكان يريد الموت إلى جانب الأحياء ، لكي يظلّ يحلم معهم بولادة الأجيال الجديدة السعيدة ، التي ستملأ الحياة فناً ، وورداً ، وحبّاً ، وأمناً ورقصاً ، وغزَلاً ، وموسيقى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رجل نادر
لنا المشهداني ( 2010 / 12 / 27 - 13:10 )
رحمك الله يا عمنا جميعا و مهما وصفناك فلن نوفيك حقك
فقد كنت الامل الباسم الذي يتحرك بيننا وما زلت الذكرى الحلوة التى لا تنسى
وقد كنت ابيات شعر متنقلة وبسمات فرح دائم تنثر مرحك وتفاؤلك ورقة احساسك بين كل من يعرفك.
نور ورضوان وغفران

اخر الافلام

.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة


.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا




.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم


.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا




.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07