الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجسد العربي في وعي الفن

يوسف ليمود

2010 / 2 / 15
الادب والفن


لم أرد أن أفتتح هذا الجزء، الذي يتناول الجسد في الفن العربي، بشر البلية، لكن ما اصطدمت به أثناء بحثي عن الفنانين العرب المنشغلين في عملهم بالجسد، ومحاولة تجميع مواد عنهم وصور لأعمالهم أستعين بها في كتابتي هذا المقال، كان شر البلية، من دون ضحك طبعاً.

انتهزت فرصة زيارتي وطني الحبيب مصر لأنجز مهمة البحث في موضوعي هذا، وأيضا الاتصال ببعض هؤلاء الفنانين وسؤالهم (ما أفقر جوجل العربية)! أخيراً دلّني أحدهم على أطروحة أكاديمية تتناول الجسد في الفن، لواحدة من الفنانات المهمومات بالموضوع بحثاً وممارسةً، فشددت الرحال إلى مكتبة الكلية الفنية حيث الأطروحة، وهناك مادت بي الطاولة. لم أعرف والله إن كنت أرى كابوساً وأنا نائم أم في اليقظة. فبدءاً من نماذج الفنانين الذين اختارتهم الباحثة، والجسد من أعمالهم براء، وليس انتهاءً بلَيّ الكلام الذي هو مفروض أن يكون تحليلاً للأعمال، مروراً بالأخطاء المعرفية التي لا تغتفر لباحثة (أين كان المشرف؟!)، فمن يصدق أو يتخيل خطأً من نوع تصنيف نيتشه وفوكو، زمنياً وفكرياً، ضمن الفلاسفة "القدماء"، الذين قالوا بثنائية الروح والجسد، في حين وقفت مخيلة الأطروحة عند "شوبنهاور وكانط وهيجل" كنماذج للفلاسفة المحدثين! أما عن نماذج الفنانين المصريين المذكورين، لم تجد الفنانة الباحثة سوى سبعة أو ثمانية من مدرسيها وأصحابها، حشرتهم حشراً، بسفسطةٍ لا حدود لها ولا منطق فيها. فعلى سبيل المثال، أصبحت لوحة لأحد هؤلاء المختارين، عبارة عن رذاذ ألوان منثور على القماشة (يمكنكم أن تتخيلوا احدى لوحات الأمريكي جاكسون بولوك)، أصبحت، بقدرة قادر، في عين ولسان هذه الفنانة: "الجسد وقد تلاشى في "الزحمة" (هذا بالمناسبة هو اسم اللوحة)! فأي جسد هذا؟ بل أي ثقافة هذه كي يكون هذا هو مستواها الأكاديمي، تنتج هذه النماذج البائسة التي يتخرّج من تحت يدها أجيال أكثر بؤساً! لم أتعجب بعدها حين عرفت أن هذه الفنانة "المنشغلة" بالجسد محجبة! لا يعنيني الشخص في هذه الحكاية، لكن الملحوظة الخاصة بتحجب فنانة تكتب عن الجسد، لهي موضوع جيد لبحث يتحرى، أو يلامس الازدواجية المتجذرة في هذه الثقافة.

حين الكلام عن الجسد في الثقافة العربية عموماً، يروح الدماغ إلى الماضي الجاهلي، حيث هوى الإسلام كالمطرقة على شكل الحياة السابقة عليه، بما فيها من ممارسات فنية لا نعرف عنها الكثير، رغم أن كل الدلائل تشير إلى ارتباط تلك الفنون بالطقوس الدينية والعبادات التي كانت تمارس قبل الاسلام، فكان أن حرّم تصوير كل ما فيه روح بحجة أن التصوير تقليد لعمل الله. وهناك الكثير من الأحاديث النبوية التي تلعن صراحةً الصور والمصورين، مثل: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون"، "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب أو صورة"... الخ. والأرجح أن المقصود بكلمة التصوير، في السياق الذي استخدمه الإسلام، هو صناعة التماثيل والمجسمات الوثنية التي كانت رائجة وقتها، إذ لا يوجد ما يشير إلى رواج فن الرسم أو التصوير المسطح في الجزيرة العربي، في حين نجد في أدبيات الاسلام ما يؤكد ازدهار صناعة تماثيل الآلهة المختلفة الأحجام والمواد (تماثيل من العجوة يأكلها صاحبها بعد أن يصلي لها...). بغض النظر عن المنطلق الجاهلي الذي جسّد، والمنطلق الاسلامي الذي حرّم، نجد أن فكرة التجسيد أقرب لذائقة بدوي يعيش في الصحراء. فلو أغفلنا حقيقة محدودية أو فقر الألوان التي يمكن أن تُستخرج من طبيعة الأرض الصحراوية، فإن الامتداد اللانهائي الذائب في الأفق لَيجعل من أي نتوء حجري أو جسم صخري مجالاً حيويا للبصر ومادة للتأمل الجمالي، ويكفي أن ننظر في فكرة الكعبة نفسها كشكل نحتي قائم إلى اليوم قبلةً، ناهيك عن الحجر الأسود. بل إننا لنلمس في التراث الشعري الجاهلي روحَ النحات أكثر من روح المصور. الشعر الجاهلي شعر لغة وجزالة، أي شعر جسد، وليس شعر صورة. من هنا كان ارتباط الجاهلي بالحصان، كشكلٍ قبل أن يكون وسيلة ركوب. ومن هنا أيضا نظر الاسلام في البناء الشكلي للجَمل: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت". ومن هنا كذلك، وقبل كل شيء، بدأت القصيدة الجاهلية بالتغزل في المرأة، في جسدها تحديداً. كما لا تفوتنا ملاحظة أن الوصفية في الشعر الجاهلي ربما كانت تعويضاً عن ندرة، أو انعدام وجود التصوير (الرسم) كفنٍ قائم بذاته. الوصف الشعري بديلاً عن التصوير الفني.

على مدى قرون طويلة، وبسبب تحريم الاسلام التصوير، اعتمد المنجز الفني الاسلامي التجريدَ منطلقاً وفلسفةً تصب عناصرُها في فكرة اللانهائي (الله)، وكأن الجسد، الذي خلقه الله وفضّله على ما خلق تفضيلاً، ليس أحد العناصر التي تذوب في اللانهائي! إن اختفاء الجسد من الفن، من شأنه أن يكون له رد فعل في الواقع، حيث إن الفن، من منظور معين، هو طاقة، حاجة، في المجتمع ككل، يعبّر عنها فنانو ذلك المجتمع. فإذا حُرّمت هذه الطاقة أو هذه الحاجة، عن الفن، لجأت إلى متنفث بديل يُمرر ويُتداول في الخفاء، حتى وإن كان دون الفن. لكن ماذا لو حُجّب الجسد ذاتُه وحُرّم حتى على نفسه؟ لا عجب حينها أن تظهر على جسد هذا المجتمع المحجب بثور محجبة تتكلم، باسم الفن، عن الجسد، كما يتكلم دجال عن شبح. لكن لحسن الحظ، لا يعدم الفن في كل المجتمعات وفي كل الأزمنة، فنانين يعون الجسد، عملُهم قناةُُُ ُ توصّلهم بالجسد، كما بالواقع، كلُ ُ بطريقه وطريقته في قول الجسد: من يعبر عنه، من يسائله، من يغوص في لحمه، من يكتفي بالجلد، من يستخدمه أداة نقدِ عاداتٍ أو ومفاهيم أو سياسة ما، من يخربش فيه بحثاً عن الماوراء... إلى آخره من هموم فنية لا يجد الفنان سوى ذلك الهيكل اللحمي حيزاً ينظر فيه ويخرج منه باللآلئ أو بالطحالب.

الحديث عن الجسد، كما الجسد نفسه، بوابة مشرعة على أسطورة تفور وتتلاطم فيها رغباتنا، لذائذنا، آلامنا، روحيّتنا أو روحانيتنا، أفكارنا، خيالنا، موتنا، مصيرنا... إنه الكيس الذي رُمينا فيه، وفيه نرمي بكل التفاصيل التي نسميها في النهاية: حياتنا. إنه نحن. أنْ يصغُر هذا الكيس، أو أن يُصغّر ويُهمل ويحجّب ويُمتهن بإنكاره ونفيه إلى حقول الكبت، فإنه يمارس نفسه خلسة ورغماً عن المنظومة الأخلاقية التطهرية التي تنكره، لأنه ما من شيء يضيع. الشاعر الانجليزي وليم بليك قال: "خير لك أن تخنق طفلا في مهده من أن تكبت رغبة". طبعا هو لا يقصد حرفيا الجزء الأول من جملته قدر ما يؤكد على النصف الثاني، إذ معروف كم كانت هائلةُُ ُ الحياةُ الروحية لهذا الشاعر الرسام الفيلسوف، بنفس القدر الذي كانته حياته الحسية. الثقافة العربية فعلت ولا تزال تفعل بالجسد ما هو أكثر من خنق طفل في مهده، من دون الإتيان طبعا على الشق الآخر من جملة بليك الخاصة بتمرير الرغبة في قناة الوعي والفهم والمصالحة، ناهيك عن الحب.

السوريالية، كما هو معروف، هي النظرية الفنية الوحيدة التي غطست في اللاوعي ووجدت فيه مادتها وعالمها، رغم أن الحسّ السوريالي كان موجوداً، بدرجات متفاوتة، في كثير من المدارس والاتجاهات الفنية منذ رسوم الكهوف حتى اليوم، إذ لا يخلو فن، بل يمكن القول، لا يخلو فعل في الحياة من حسّ غير واع. انبنت السوريالية على اكتشاف فرويد لما سماه "العقل الباطن"، ذلك الكيس الأسود الشبيه بكيس الزبالة، والذي يطفح بأبخرته وتفاعلاته الكيميائية على حركة الكائن عموما وبشكل غير إرادي، خصوصاً في النوم والأحلام، حين تنسحب سلطة العقل الواقف ببندقية الأخلاق على مخزن الرغبات كحارس. في الأحلام تنفتح البوابة وتخرج العفاريت الحبيسة من قماقمها ويبدأ الكونشرتو: آلة الوعي مع أوركسترا اللاوعي. خرجت السوريالية من قلب أوربا في عشرينات القرن العشرين، وتم تجاوزها، كمفهوم في الفن، بعد أن قامت بدورها وأصبحت مرحلة في التاريخ وفي الفن لا تزال تجد من يستفيد منها بشكل أو بآخر، هنا أو هناك، وإن كان يمكن ملاحظة أن فعاليتها هنا (في الفن في العالم العربي)، حتى الآن، أكبر من هناك، وذلك لأسباب متعددة، ربما كان أحد هذه الأسباب هو عدم استجلاء الوعي العربي باطنَه، أي لاوعيه، كما فعل الوعي الغربي الذي مر، اكلينيكياً، بمرحلة استجلاء أو مخاض عكَسته في الفن الحركة السوريالية. هذا يعني أن اللاوعي العربي، الفردي والجمعي على السواء، لا يزال مختمرا بكثير مما يريد أن يطفو على السطحين: الفني والحياتي معا، وإن كان لا فرق كبيرا بين الحقلين. وبما أن كلامنا يصب في النهاية في الفن، فالسؤال الجوهري هو: في أي ماء يصطاد الفنان: الرائق أم العكر؟ من أين يخرج الشكل؟ هل الفن عموماً، والسوريالي بشكل خاص، مجرد طفح للمكبوت، استمناء، نشر الغسيل الداخلي؟ أم أن اشتغالاً واعياً على حقل اللاوعي لازمُُ ُ كي يصل الفنان إلى منطقة الخصوبة في أرضه اللاواعية؟ هذا هو السؤال الذي يربك اللاوعي ويخلخل ثقة الفنان الذي يغرف منه بغير حساب.

نمر هنا على بعض الفنانين العرب الذين تناولوا الجسد في أعمالهم، والذين يتراوح عملهم بين ذينك القطبين: الوعي ووجهه الآخر. الفنانون المذكورون هنا لا يشكلون حصراً، بل هم البعض الذي أتيح لنا الآن، على أمل استكمال الكتابة عن آخرين في فرصة أخرى.

يتبع: السوريالي المعكوس حامد ندا .. لاوعي الواقع في وعي الفنان

يوسف ليمود
مجلة جسد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - زمن القبح
محمد البدري ( 2010 / 2 / 15 - 09:40 )
لماذا تصاب بالصدمة، فنحن في مصر نعيش مناخا فاسدا يمتلأ بالادخنة الدينية والتحريمات ومشايخ جهلاء اطلقتهم حكومة يولية في طورها الاخير لتنهش ليس فقط عقول الناس بل وجدانهم واحساسهم بالجمال. الم تري كم النقاب واللحي والمظاهر الطالبانية، انها العروبة التي ورطنا فيها نظام يوليو لعنه الله عليه.

اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا