الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 7من رواية تصبحون على غزة

حبيب هنا

2010 / 2 / 15
الادب والفن


7

عصفت بهما رياح التجديد فكادت تقتلع الجذور من التربة لولا أنها ضاربة في الأرض عميقاً . يقفا على مشارف حالة التحول، ظهراهما مستندان إلى بعضهما كي يتمكنا من تبادل المواقع في النظر صوب الوطن، تارة وأخرى صوب المجتمع الجديد ،الأول يبذل جهداً مضاعفا ًفي المحافظة عليهما ،فيما الثاني يقدم لهما مزيداً من الإغراءات من أجل التحول تماماً والانخراط فيه ، الأمر الذي يفاقم من حالة التناقض بين القديم والجديد، فيستشري الخوف في الشرايين ويوغل بهما في الضياع والمتاهة التي يصعب الخروج منهما دون مخلفات .
الآن يستذكر بوضوح ، كيف انتابه ، ذات مرة ، شعور أنه يرى الأشياء لآخر مرة .. آه ..كم هو مفزع هذا الشعور ، يجعل من جسدك الفتي مهما كان قويّاً ، خندقاً يسكنه الخوف الذي لا يقاوم ، خوف يحيل ما تبقى من أيامك إلى سؤال دائم يصعب الإجابة عنه ، لا لأنك لا ترغب في وضع نهاية مشئومة ، بل لأنك لا تعرف غموض المجهول الذاهب إلى الطرف الآخر من الحياة التي لم تعتد عليها ، بل وربما ليس بوسعك إعادة التجربة فيها إذا ما أخفقت في اليومي والجديد الذي يفاجئك !
يستذكر ، كيف يفعل كل يوم ما كان يفعله في اليوم السابق ، علّه يمل هذه العادة ويقلع عنها إن ضاقت به الدنيا وحاصرته في نطاق التفكير المحدد الذي يستبعد الجديد ، الذي يساهم في تجديد الخلايا ويفتح أمامها الأفق كي تنطلق بحرية المبدع الذي لا يحد طموحه حد ، ولكن ، دون جدوى ، منذ زمن ، حاول التخلص من الروتين القاتل بتكراره يومياً ،لكن لا فائدة ، ولم يفكر مطلقاً ، بوسيلة أخرى تخلصه من هذا الملل الحاضر دائماً في وجدانه وعلى مقربة من أنفاسه وتفاصيل حياته اليومية . منذ زمن ، كان ينبغي البحث عن وسيلة أخرى ، غير أنه لم يفعل ، لدرجة غدا معها مدمناً على فعل ما يفعله كل يوم ، بات جزءاً من تكوينه الذي يميزه عن الآخرين . منذ زمن ، وقف أمام المرآة وخاطب نفسه : يجب الإقلاع تماماً عن هذه العادة مهما كان الثمن ، يجب أن أحطم قيودي بمطرقة لا صوت لها حتى لا يسمعها أحد ، ولكن دائماً كان ينتهي عند السؤال كيف ؟
وفجأة ، دبيب أصم تسرب إلى عروقه ، في حضور طاغ ٍأجبره على التفكير الجاد تاركاً ترف تفسير الأشياء التافهة جانباً ، بعيداً عن النظر إليها وإعارتها الاهتمام ،فانقلب كيانه رأساً على عقب ، حدّث نفسه قائلاً : الناس تبدل مظهرها شئنا ذلك أم أبينا . لذا يجب وقف مسار الفعل اليومي بطريقة غير طبيعية مادام هو فعل غير طبيعي ، لا بد من استخدام وسائل غير عادية وغير متوقعة ومفاجئة حتى لي ،من أجل أن أغدو عاجزاً عن التصدي لها، وبالتالي التخلص منها والانقضاض عليها حتى لا تتمكن من اقتحام حياتي وتجرني نحو الشيخوخة المبكرة التي يهرب منها الجميع لما تخلفه من آثار تقعد أصحابها على قارعة الطريق يرقبون الآتي دون التأثير فيه .
وصار مؤثراً ومتأثراً بالوسط الاجتماعي الذي يعيش، انقلب على نفسه بعد أن روضها بغية السيطرة عليها تماماً والتحكم بنمط التفكير الذي جعله عاجزاً في الأوقات العصيبة، ضيق مساحة الضجيج الذي يبلغ مسامعه فصارت المسافة أسهل ما يكون في تجاوزها بعد أن امتلك ذاته، وعاد إليه الشعور بالحياة الهادئة التي تتدفق في الشرايين ، على مهل في محاولة لامتلاك الروح بعد خروجها من بين أصابعه في أعقاب عدم القدرة على التخلص من طريقة التفكير النمطية التي رافقته زمناً طويلاً، وفجأة، وقف السؤال أمامه متحدياً: هل بالإمكان العودة إلى تلك اللحظات الهانئة من سنوات العمر الحيوية التي تواكب مرحلة الشباب؟
من المؤكد التفكير في الشيء لا يطيل أمده، ومع ذلك،يمكن التحايل على هذه المسألة بمختلف الوسائل، شرط أن تكون منسجمة مع الطريقة الجديدة في التفكير، وبما يخدم هذا التوجه بإصرار، لاسيما إذا كانت مقومات التحول ناضجة بعد أن أصاب الملل النفس جراء الفعل اليومي المتكرر.
وهكذا، استقرت حياته استقراراً خشي على ريتا من جرائه، في وقت كانت فيه الفرحة العارمة تحملها على طيوف المحبة والحنين للبقاء في أحضان الماضي خوفاً من فقدان سعادة الحاضر التي استكثرتها على نفسها بعد الانتظار الطويل، وما ترافق معه من تحصيل للعلم، لاسيما في أعقاب نشوء علاقات جديدة مع الجيران المختلفين في العرق والدين عززت التغلغل إلى أعماق جوهر الفهم للحياة الديمقراطية، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، ومصادرة حرياتهم الشخصية طالما لم تتعارض مع الحريات العامة.
وهكذا أيضاً، كانت الفرصة مواتية للانفتاح على الحياة الجديدة وإجراء المقارنة مع ما خلفته من بساطة الحياة في الوطن، وطيب العلاقة مع الناس ووقوفهم إلى جانب بعضهم البعض في الأزمات، وبين طبيعة العلاقة في ألمانيا وعدم اكتراث البعض لأزمات البعض الآخر، فظهر التفكك المجتمعي على أبشع صوره، رغم ما توفره الدولة من مقومات الاستمرار، والمحافظة على تراكيب البنية المجتمعية، وحفظ الأمن العام، وتوفير الحماية لكل مواطن، المواطن الذي هو الضحية والرصيد معاً،الضحية لسوء أعماله وعدم الاستفادة من الديمقراطية بما يطور قدراته في التقدم والازدهار والانتماء للجماعة بغية توفير الحياة الأفضل على الدوام ، والرصيد الذي تتوكأ عليه الدولة عند الأزمات وفي حال اندلاع النزاعات أو الحروب فتقف الدولة لتقول: هذه الأرض لي، وهذا البحر لي، والسماء سمائي ولن أفرط بسيادتهم مهما كان الثمن.
والآن، من مخدعها، ترى ريتا الشمس متوهجة، على خجل، في هذا الصباح،تنظر إلى طفلها الذي مازال في السرير يحرك ساقيه وذراعيه نافضاً عن عضلاته الصغيرة خمول النوم، تذهب إليه وتحمله بين ذراعيها مقتربة من النافذة التي تطل على فناء واسع تقف خلفه الأشجار بكبرياء، فيقتحمها إحساس غريب: منذ متى لم تقف قرب النافذة وتتأمل الفضاء؟ لقد مر عليها ما يقرب من السنوات الست دون أن يخطر ببالها إجراء عملية حسابية لحصاد هذه الغربة، وفي الواقع، كانت السنوات المحبوبة من الطفولة كافية لإتاحة الفرصة والعودة للتأمل والذكريات، كلما طرأ جديد يستوجب إعطاء الرأي فيه، أما الآن، وهي تتمتع بمشاهدة الذكريات تتهاوى كي تشكل جبلاً من الفرح قادراً على محو ترسبات منغصات الحياة اليومية التي تواجههم، لم تأت جراء مستجدٍ طرأ، مما يعني أن الجديد الطارئ هو تغير الحالة، وبالتالي يستوجب الأمر البحث في ماهيتها حتى تتجنب اقتحامها المفاجئ الذي قد يعكر صفو الحياة في أي وقت.
وكانت المسافة التي تفصل بين زمنين أقل من لحظة، زمن انتشال الطفل من سريره، وزمن العودة إلى النافذة وتأمل الفضاء والشمس المتوهجة في هذا الصباح، بينما كانت خطوات الذهاب والإياب منضبطة باتساق يتراوح بين الوحشة وعدم تمالك الأعصاب والسيطرة على الذات. إنه الحنين للأهل والأحبة والوطن!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق