الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حِين سلكنا دَربْ النَجمة ! قِصَّة

هشام الطيب الفكي

2010 / 2 / 19
الادب والفن


حِين سلكنا دَربْ النَجمة !
كنّا نلتزم الصمت، قابعين في الدرك الأسفل من الفضاء، متكئين على جدارٍ أرضي متهالك؛ شاردين بعقولنا، أو بلا عقول كنّا، شاردين فقط، نرتقب، نراقب.. النجـوم التي تكدست في وسط السماء تبدوا مرتبكة من عدوٍ يختبئ لها خلف القمر أو يوشك على مهاجمتها من حيث لا تدري، نجمتنا البعيدة أضحت بعد حديث (الخوف) أكثر بعداً مما كانت عليه في تأملنا، (درب النجوم وعر).. هكذا نطقنا؛ ثلاثتنا، قبل أن نصمت؛ الصمت كائناً موغلاً في التمدن بيننا، و(الخوف) تبدوا عليه ملامح العنت، ونجمتنا البعيدة ترقص مع ذلك (الشتاء) وضيفه قد كان يراقب.. إنهم يحتفلون بقدوم فصل الشتاء مع ضيفه في حقل فضائي مهيب.
كان أول ما لفت انتباهنا نحوها هو ذلك الركن القصي من السماء الذي اتخذته مركزاً لوجودها، وذلك الوضوح الفصيح الذي حظيت به رغم مسافة بعدها من تلك الهالة الضوئية الضخمة المدعوة (القمر)، قلنا ونحن نُحدق للسماء بعُمق.. ربما اختارت هذه النجمة الابتعاد من ذلك الحيز الضيِّق في وسط السماء لاكتظاظه بحشود من النجوم الصغيرة التي بدت وكأنها جيوشاً مرتبكة وخائفة من عدوٍ يختبئ لها خلف ذلك القمر.. أو يوشك على مهاجمتها من حيث لا تدري، قلنا ذلك وكنّا قابعين بكوكبنا في الدرك الأسفل من الفضاء، نجابه الأيام كعادتنا، ونعاند الإصرار كي ما نبقى في الوجود، وكانت (هي) وحدها من نحس تجاهها بحلقة ترابط ووصل مابين أجسادنا الأرضية وذاك الفضاء المتسع في الأعلى، ننظر نحوها فنزداد اطمئناناً وكثير أمان؛ خاصةً حين نقرر أن نصُب الكؤوس في همومنا، أو حين نرفع رؤوسنا من رمال الأرض وسطحها، نكون نحنُ متكئين على جدارٍ متهالك في الأرض نردف أمنياتنا العصية نحوها بنظرات تأمل هادئة، وترمقنا (هي) بالرموز عبر هالاتها الضوئية الخافتة؛ كانت في الغالب تُصدِر الهالات من عينيها، ثم تستَقر في دواخلنا لتكشف لنا عن معاني حياة لطالما ظلت مشوشة وتائهة في قواميسنا الوجودية.
لقد أدمنّا حضور تلك النجمة عند كل مساء وسماء؛ بعد إدراكنا أنّ في حضرتها تتبلوّر الأشياء فتُفصح عن مخابئها، وتتفتح الملامح كما الوردة وقد بدا لنا محياها جيداً رغم صقيع الظلام الدامس الذي ينبثقُ من نافذة الذكرى المعطوبة في واقعنا باستمرار، وفي تفاصيلنا الحياتية اليومية الصغيرة التي اتسمت بالغموض وبسوء الاحتمالات وبذلك التشابك المريع الذي دعانا للبحث والتنقيب عن بصيص للنور وسط مساحاتنا الحالكة ووسط تلك الدروب الوعرة التي سلكنها منذ إطلالنا بأجسادنا على سطح هذا الكوكب الأرضي القميء؛ وجدناه مملوءاً بالضباب القاتم، ذلك الضباب كان قد بلغ أقصى درجاته الإحباطية بنا يومها فجعل من الأمل في رؤية أي نور ضرباً من المستحيل، إلى أن أدركتنا تلك النجمة بضوئها؛ كان خافتاً لكنه كان أقوى من طاقة الأضواء في كل الوجود، إذ صار ضوئها بمثابة الوقود لنا، وباتت (هي) دافعاً محركاً لنا للانطلاق.. وللسير قدماً في دربها؛ لمجابهة المصاعب بدلاً من التوقف والاستسلام لرياح الأيام الهوجاء التي لطالما عصفت بنا وألقتنا في رمال الأرض المتحجرة بالقسوة.
(لنجمتنا كثيراً من الآيات) .. قال أحدنا ذات مساء، وقال الآخر بعد أن أخذ وقته في التأمل نحوها: (هي.. تُدرك تفاصيلنا بعُمق.. وتُدرك كيف ترشدنا الطريق)..وأذكرُ أنه كان لديّ كلاما كثيراً عن تلك النجمة وضوئها وما يعنيه لي من معاني ورمزية وعن الدروب وعن... لكن عصافير الكلام قد طارت من أغصان ذاكرتي حينها.. فاكتفينا ثلاثتنا بالغناء لها، بها، وقلنا: (نجمةً في الليل قد سكنت دواخلنا).. ذلك قبل أن يأتي الشتاء.. وصرنا منذ يومها نمارس طقوسا للأمنيات معها عند كل مساء؛ نردف على دربها كماً من الأمنيات والأحلام، نكون متكئين على جدارٍ أرضيٍ متهالك؛ نستلطفها بدفء، نحنُ بابتسامةٍ صادقة وبعض تأمل، و(هي) بضوء خافِت له معانٍ وبريق كان يشِعُ في دواخلنا.. كانت حقيقة أمنياتنا عصية ومُتمردة لا تتحقق بسهولة، إلا أن بلغ بنا التأمل نحو نجمتنا درجة خيالية من التعمق والإيمان، فصارت تتحقق بشكل تدريجي بعد برهة من تكوينها في حضرتها، كان ذلك قبل أن يأتي الشتاء.. وكانت علاقتنا بالنجمة قد بدأت قبل قدوم الشتاء بأيام، و لم تكن بيننا وبين الشتاء رحلة أو صيف، أو سابق علاقة حميمة، بل كان دائماً ما يرتبطُ عندنا بالجوع، بالفقر، والقسوة، وبكل التفاصيل الكئيبة، لم نعطي قدومه كثير اهتمام في تلك الليلة مثل ما فعلت حشود النجوم في السماء، إذ دلس علينا بغتةً، كانت أول مرةٍ يدلس علينا برقة، لكنه لم يكن وحده؛ كان معه من يشبهه في ملامحه القديمة؛ كائناً ضخماً، مستميت النظرات، يُدعى "الخوف" كما أذكر، دلسوا علينا في جلسة سُكر، نحنُ متكئين على جدار الأرض في الدرك الأسفل من الفضاء، نراقب السماء كعادتنا، ونسلك درب النجمة بأعيننا في رحلة شرود ذهنية، كان "الخوف" قد ترك رفيقه في الأعلى وهبط من على علوه وقد صوب نظراته البغيضةٍ نحونا، وكأنما قد وضع غشاوة سوداء على أعيننا، فانتزع بريق النجمة الذي كان يشع في دواخلنا، كان "الخوف" ضخماً في هيئته، لم نستطع مقاومته، انفعلنا، تضجرنا مع أنفسنا قبل أن نصرخ في وجهه بصوتٍ منخفض، ثلاثتنا كلٌ على حدا يمارس طقوس الذعر في صمت أمام الخوف، إلى أن نطق (الخوف) كلماته التي بدت حينها وكأنها سيفاً مسموماً قد وضع على رقابنا، قال الخوف وهو جالس أمامنا يُزين فمه بابتسامةٍ صفراء فاقعة ويضع ساقاً فوق الأخرى وينظرُ للسماء:
- مهما سلكتم من دروب، انتم كما كنتم.. كائنات معطوبة، وممعنةً في التيه ..!
لم نهتم كثيراً لوجوده بيننا بقدر ما أخافتنا وهزّتنا كلماته المريبة؛ لما فيها من هلع ومفردات عنيدة وصارخة ؛عُطب، تيه، دروب،.. وتفاصيل أخرى شائكة وحائرة كأنفسنا! ارتجفنا، ولم نستطع مجاراته في الحديث.. ثُم غادرنا (الخوف)، صعد للأعلى نحو السماء كما تهيأ لنا.
أعدنا أبصارنا نحو السماء سريعاً، لكننا فوجئنا بنجـوم الليل الحالك متبرجةً مبتهجةً، تُغني في انتشاء وقد أعلنت للفضاء احتفائها وترحيبها بقدوم فصلها المحبب "الشتاء" وبضيفه ذلك الكائن مستميت النظرات، كان شتاء تلك الليلة متوحشاً كعادته القديمة عندنا، رغم أنه بدا لنا بدايةً في ثوب طفل برئ يضحك كلّما حدقت فيه بعمق، وكنّا ثلاثةً؛ نجلسُ على أرصفة الممرات الموحشة في ناحيتنا، متكئين على جدار أرضيٍ متهالك، نقابلُ أحزاننا؛ نبادلها الابتسامة والضحكات حيناً ونتجرع مرارة الأيـام مع أنفسنا أحيانا كثيرة، ثُم نبكي دون صوت..
كانت أحلامنا في كل يوم تتوسد ضجيج الليالي وظلماتها الحالكة لتحظى بفرصة هدوء واحدة تغازل فيها أمنيات النجوم ثُم تمضي لترقص معها في ليلة يكون القمر فيها غائباً أو مُغيَّب، وتكون نجمتنا البعيدة قد توشحت تاجها الضوئي العظيم، ونكون قد أكملنا مراسم التتويج ونصبناها سيدةً للسماء، لكن أحلامنا كانت رديئة في الصنع وتالفة في التحقق، وكانت نجوم الليل تحمل في الباطن آلاف الرموز حينها، وكـان الشتاء يرتدي معطفاً بلا لون، فخماً في الهيئة؛ يقيه شر نفسه، وكنّا في العراء، في الدرك الأسفل من الفضاء، ننهمك في ترميم الذاكرة وإعادة ما سلبه الخوف من كلمات. ظللنا تائهين ساعتها في درب النجمة، حائرين، دامت جولتنا في التيه بعد أن نامت نجوم ذلك الليل الحالك، نجمتنا كانت أول النائمين.. اشتد ظلام الكون.. رغم اقتراب موعد شروق الشمس، ثم قررنا بداية رحلة شرود جديدة؛ سلكنا فيها درب أنفسنا، واكتفينا هذه المرة بترميم الذاكرة التي باغتها فصل الشتاء؛ لكننا صعقنا من تيار الجنون في آخر المطاف. وكان درب أنفسنا وعراً منذ بدايته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - القصة جميلة
حسون ( 2010 / 2 / 19 - 12:32 )
القصة جميلة وسرها بديع ولغتها عالية لولا الاخطاء الاملائية وتكرار الالفاظ الذي لا لزوم له


2 - القصة مدهشة
عثمان ( 2010 / 2 / 20 - 12:51 )
فكرة القصة مدهشة وممتعة وتجسد المشاهد بصورة تجعلك واحداً من
شخصايتها وتمارس طقوسهم في النظر نحو السماء وأنت هائم في حزنك وهمومك، وكأنما تنجرف في تيار تلك النجمة البعيدة لكن دور الخوف الذي يحيط بنا من مواجهة المصاعب قد كان مجسداً وفعالاً بوصفه في القصة أنه كائن ..
استمعت كثيراً بقراءة القصة

اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل