الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 8 من رواية تصبحون على غزة

حبيب هنا

2010 / 2 / 26
الادب والفن


8
في ذروة العمل اليومي يقف إبراهيم وجهاً لوجه في ساحة الغربة المكشوفة للعراء، أمام الحقائق الموجعة قبل أن تهزمه الشيخوخة، يحدث نفسه كما لم يحدثها من قبل: لم أبلغ مثل هذه السعادة، ليس لأنني حصلت على ريتا، حلم الطفولة ومرتع الصبا وأمل المستقبل، بعد كل هذا الغياب، بل لأنني مع وجودها إلى جانبي أقدر كل الأشياء حق قدرها: ملمس أغطية النوم، مذاق القهوة والتلذذ بها، رائحة أزهار الليمون مع بداية الربيع، رؤية المحال التجارية بعيون مختلفة،دور السينما والمسارح، وآخر صيحة الأزياء، العطور ومركباتها، الأدوية وما تحدثه من تهتك في جهاز المناعة، العمل على الوقاية قبل الوصول إلى الطبيب، التفكير بعمق، الصمت ومتعته التي أصبحت لاحقاً فريدة منذ غيرت اتجاه نظري وغدوت أعيش على مشتقات حنين حبها الدائم جراء الجغرافيا والابتعاد عن الوطن وعدم السماح لي بأن أصبح جزءاً من تكوينهم الاجتماعي بعد أن أعجبت بكفاءتهم وبوسائل الراحة التي يوفروها للمواطنين الأصليين، على الرغم من سلوكهم الذي لا يطاق أحياناً، وبؤسهم الذي يكاد يضغط على رئتي، وقذارتهم التي تدفع للعري مهما حاولوا ستر عوراتهم، علماً بأنني مهما حاولت، ليس بمقدوري أن أكون مثلهم ورؤيتي للأشياء لا يمكن أن تبلغ التبسيطية التي يبلغونها؛ فأنا أعرف نفسي جيداً: حاد المزاج وآخذ الأمور على محمل الجد ولا يجتمع في نظري أكثر من لونين: الأسود والأبيض، وأحكامي حادة وقاطعة ولا تقبل التأويل، لذا، لا يمكنني أن أصبح مثلهم. ربما تلتبس عليّ الأمور عندما تتعقد المسائل، ولكن أبداً لن أبتعد كثيراً حيث يجب أن أكون، وحيث من الضروري أن أقف في المناطق المكشوفة والحيادية التي تمكنّي من إعطاء الأحكام الدقيقة التي لا أتهرب من مواجهتها.
وعندما أوضع في مواقف يتعين عليّ فيها أن أختار، لن أكون سوى نفسي: واضح تماماً. واضح في المأكل والملبس والمسكن، في الألوان التي أحب، في طريقة الحديث التي أفضلها، في تفاصيل حياتي اليومية، في الخيوط التي تربطني بالآخرين، في العلاقة التي يتحتم عليّ إقامتها مع الروتين الممل مهما حاولت التجديد. ليس بمقدوري أن أكون سوى نفسي، لأن مصيري مرهون بالتربية التي نشأت عليها، لأن قطعة المعدن التي في جيبي لا تحمل سوى وجهٍ واحد، وجه الحقيقة المرة التي أجهر بها على الدوام دون أن أخشى أحداً، وسألت نفسي ذات مرة: أليس هذا أفضل من أن أنام على وسادة لها وجهان: وجه لك أنت وحدك، ووجه للآخرين تلبسه وقتما يشاءون؟ لاشك أنك ستكتشف على نحوٍ غامض، أنك تعاقب المحيطين بك من خلال هذا السلوك ولن يتبادر لذهنك أنك تعاقب نفسك بشكل من الأشكال، ذلك لأنك لا يمكن أن تعزل نفسك إلى الأبد، ولو فعلت فإنك تعاقب ريتا التي تحب كما لو أنها لا تعني لك شيئاً، ريتا التي انتظرتك كل سنوات الغربة والدراسة في ألمانيا قاطعة الوعد على نفسها أن تبقى لك مهما تأخرت ومهما طال الانتظار، تشاركك أحلام الدراسة وتربية الأبناء والمستقبل، رغم أن فضاءات الأحلام كانت موصدة أمام وعد الانتظار.
لهذا السبب، لا يكفي أن تغمض عينيك حتى تعتقد بوجود الليل ينبغي أن تحس بصمته الموحش، وأن تصغي لنباح الكلاب. يجب أن يلامس جسدك ملمسه الناعم، البارد، وأن تدغدغ شاعريته المفرطة مشاعرك الحساسة، وأن ترى النجوم مرصعة في السماء دون النظر إليها، وبغير ذلك تكون كمن يحاول خلق الليل بأعين مغمضة لا يستطيع الخروج من دهاليزه المظلمة، وفي أحسن الأحوال، كمن يبني حول نفسه غرفة محكمة الإغلاق، فلا يرى ما يحدث خارجها، ولا الآخرون يشغلهم غيابه.
ولهذا السبب أيضاً ينبغي أن تمنح حبيبتك ريتا كل الأسباب حتى يشتعل حبها لك ويزداد أواره يوماً بعد يوم، كي تداوي جروحها كلما تقرحت جراء صقيع الغربة الموحش، يجب أن تكون زوجها وأباها وابنها، وأن تشكل كل شيء بالنسبة لها، تملأ فراغ عالمها الذي يبدأ عندك وينتهي عندك، دون فضاءات مفتوحة أو مدى يطمح أن تلمسه الحواس على غير ما هو مألوف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب