الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقا هناك قضاة في هاغ

أوري أفنيري

2004 / 7 / 12
القضية الفلسطينية


إحدى الصحف الإسرائيلية، وهي صحيفة "هآرتس"، افتتحت صفحتها الأولى بخبرين: يوم الذكرى لوفاة بنيامين زئيف هرتسل، مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، الذي مضت على وفاته 100 سنة، وقرار الحكم الذي أصدرته المحكمة الدولية، القاضي بأن الجدار الفاصل غير قانوني.

يبدو لأول وهلة أنه لا توجد أية علاقة بين الخبرين: الاحتفال بيوم ذكرى، وحدث من أهم أحداث حياتنا الحالية.

إلا أن العلاقة موجودة، وتكمن في جملة واحدة كتبها هرتسل في كتابه "دولة اليهود"، وهو الوثيقة الأساسية للحركة الصهيونية.

وهذا ما جاء فيها: "من أجل أوروبا، سنشكل هناك (في فلسطين) مقطعا من السور ضد آسيا، وسنكون في صدارة من سيخدم الحضارة ضد البربرية."

من الممكن كتابة هذه الجملة في أيامنا هذه أيضا. المفكرون الأمريكيون يكتبون عن "المواجهة بين الحضارات"، إذ هناك مواجهة بين الحضارة "اليهودية-المسيحية" للغرب وبين البربرية الإسلامية. يعلن زعماء أمريكا بأن إسرائيل هي من تتصدر الحضارة الغربية في حربها ضد "الإرهاب الدولي" العربي-الإسلامي. حكومة شارون تبني جدار يدف، على حد مزاهمها، للدفاع عن إسرائيل في وجه الإرهاب العربي-الفلسطيني. إنها تشدد كلما، سنحت لها الفرصة، على أن التصدي "للإرهاب الفلسطيني" هو جزء من التصدي للإرهاب الدولي. الأمريكيون يؤيدون إقامة الجدار من كل قلبهم وبكل أموالهم.

اسم الجدار الرسمي– "الجدار الفاصل" – يعزز هو أيضا هذا التوجه. فهو يهدف إلى "الفصل" – الفصل بين الشعوب، الفصل بين الحضارات، وبالضرورة، الفصل بين الحضارة (حضارتنا) والبربرية (بربريتهم).

هذه جذور أيديولوجية عميقة، أغلبيتها غير مُدرَكة، لإقامة الجدار. تبدو لأول وهلة أنها رد عملي على تحد قائم. سيقول الإسرائيلي: "ما هذا الهراء الذي تتفوه به؟ ما دخل ذلك بهرتسل؟ لقد توفي هرتسل قبل 100 عام!" وأنا أقول أن العلاقة هي علاقة مباشرة.

تتجسد هذه العلاقة أيضا في ناحية أخرى من موضوع الجدار. ففي أيام هرتسل تم وضع المبدأ الذي تحول بعد ذلك إلى الشعار الرئيسي للحركة الصهيونية في بداية طريقها: "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" أي بما معناه: فلسطين هي أرض خالية.

من يتجول على امتداد الجدار لا بد له أن يلاحظ أول ما يلاحظ ميزة واحدة واضحة للعيان" لقد تم تحديد المسار دون أخذ الفلسطينيين الساكنين هناك بعين الاعتبار. فالجدار يسحقهم كما يسحق الإنسان النملة تحت أقدامه. المزارعون يُعزلون عن أراضيهم، والعمال عن مصادر رزقهم، والطلاب عن مدارسهم، والمرضى عن المستشفيات، والثكلى عن أضرح أعزائهم.

يسهل تخيل الضباط والمستوطنين وهم مطأطئون على الخرائط ويخططون امتداد الجدار، وكأن المنطقة خالية خاوية، وليس فيها أي شيء عدا المستوطنات، القواعد العسكرية والطرقات. إنهم يناقشون التضاريس والمعطيات التكتيكية والأهداف الاستراتيجية. فلسطينيون؟ أي فلسطينيين؟

لقد ركزت محكمة العدل العليا الإسرائيلية، التي عبرت عن رأيها قبل أسبوع، على هذه النقطة بالأساس. المحكمة لم تعترض على ما جزمه الضباط بوجوب وجود الجدار. إذا قال الجنرالات أن هذه هي حاجة أمنية، فالمحكمة تقف وتؤدي التحية. لم تصدر المحكمة قرارا بوجوب بناء الجدار على الخط الأخضر – وهو الحدود الدولية المعترف بها بين دولة إسرائيل والمناطق التي احتلتها عام 1967، وهو أقصر خط وأنجع هذه الخطوط. لكن المحكمة اعترفت بأن هناك فلسطينيين يسكنون في تلك المنطقة، وطالبت بأخذ احتياجاتهم بعين الاعتبار قدر الإمكان.

لقد اتضح في الأسبوع المنصرم أن الجيش مستعد لإجراء تغييرات معينة على امتداد الجدار، ولكنه لن يبدل وجهة نظره الأساسية: الامتداد "المصحَح" أيضا يخلق مناطق معزولة للفلسطينيين ويحدد حرية تنقلهم، ولكن بأقل من الامتداد السابق. ستعاد بعض الأراضي إلى مزارعيها، ليس أكثر.

تأتي الآن المحكمة الدولية وتفرض مبادئ أكثر ملاءمة لوجهة نظر قوى السلام الإسرائيلية التي تظاهرت ضد الجدار. لقد أقرت المحكمة بأن الجدار بحد ذاته ليس قانونيا، فيما عدا المقاطع القصيرة الممتدة على الخط الأخضر. كل المقاطع المبنية داخل المناطق المحتلة تتعارض تماما والشرعية الدولية، المواثيق والمعاهدات التي وقعت إسرائيل عليها.

لقد أقرت المحكمة وجوب هدم تلك المقاطع، وإعادة الوضع إلى ما كان عليه، ودفع التعويضات للفلسطينيين الذين تضرروا. كل دول العالم مطالبة الآن بالامتناع عن مساعدة حكومة إسرائيل في إقامة الجدار.

هل سيؤثر ذلك على الرأي العام في إسرائيل؟ اشك في ذلك. لقد حضّرت آلية الدعاية الرسمية، في الأسابيع الأخيرة، الجمهور لهذا اليوم. لقد قالوا بأن قضاة المحكمة الدولية هم من اللا ساميين. لا غرابة في ذلك، فمن الواضح أن كل الشعوب، اللهم (ربما) سوى الشعب الأمريكي، يريدون تدمير الدولة اليهودية. وكما تقول تلك الأغنية المرحة التي حظت بشعبية قبل عدة سنوات: "كل العالم ضدنا / ولكننا لا نأبه لذلك..." إذن فليذهبوا إلى الجحيم.

هل سيؤثر ذلك على الرأي العام العالمي؟ من الممكن جدا. قرار المحكمة الدولية غير ملزم. لا تملك المحكمة الدولية جيشا أو شرطة، تستطيع تنفيذ قراراتها. لا فائدة أيضا في طرح القرار على مجلس الأمن، لأنه سيحبط هناك بفرض فيتو أمريكي عليه. من غير الممكن التصور، في أي وقت من أوقات الانتخابات وفي الوقت الراهن بالذات، أن تتجرأ الإدارة الأمريكية على إغضاب اللوبي المساند لإسرائيل، اليهودي والمسيحي على حد سواء. سيتجاهل الأمريكيون قرار الحكم وسيواصلون تمويل إقامة الجدار.

أما في الجمعية العامة للأمم المتحدة، المتحررة من قيود الفيتو، فسيدور نقاش حاد، يوجه الأضواء إلى الوجه الحقيقي للجدار. صحيح أن آلية الدعاية التي تديرها حكومة شارون، وبمساعدة وسائل الإعلام العالمية الرائدة، قد نجحت في وصف الجدار على أنه وسيلة ضرورية لمنع العمليات الانتحارية داخل إسرائيل، إلا أن النقاش في الجمعية العامة من شأنه أن يساعد الكثيرين على فهم الوجه الحقيقي لهذا الجدار الوحشي.

عشية إصدار القرار، كنت في خيمة كبيرة في بلدة الرام، الواقعة شمالي القدس، وهي إحدى الضحايا الرئيسية للجدار. وقد أهلن فلسطينيون وإسرائيليون هناك الإضراب عن الطعام احتجاجا على إقامة الجدار، الذي يستمر بناؤه الآن أيضا. لقد تحولت الخيمة إلى وجهة يؤمها الجميع من مختلف أنحاء البلاد. وقد تم العرض الأول لفيلم يصف الجدار كما هو. مخرجة الفيلم سيمون بيطون هي إسرائيلية من أصل شمال أفريقي تعيش في باريس.

يصف الفلسطينيون في هذا الفيلم ما فعله الجدار بهم. يقول أحد سكان الكيبوتسات أن هذه كارثة نوقعها نحن على رؤوسنا (مقتبسا من قصيدة للشاعرة راحيل "بأم يديّ".) مدير عام وزارة الدفاع، الجنرال عاموس يارون (الذي نُحي من قبل لجنة كوهين بسبب تورطه في قضية صبرا وشتيلا) يقول بأن الفلسطينيين هم المذنبون بحق مصيرهم. بكلمات أخرى: لو تخلى الفلسطينيون عن مقاومة الاحتلال، لما كانت هناك حاجة لإقامة الجدار.

إلا أن أكثر ما أثار اشمئزازي كان مشهدا مرئيا، مقطع بدون كلمات، تبدو فيه الحقول الخضراء وكروم الزيتون الممتدة حتى الأفق، وبعض القرى بمآذنها المرتفعة. رافعة هائلة ترفع لوحة باطون كبيرة، وهي تصدر صوت سلاسلها، وتضعها في مكانها على الجدار. لقد أخفت هذه اللوحة جزءا من المنظر. لوحة أخرى أخفت مقطعا آخر من المنظر، واللوحة الثالثة أخفت المنظر بأكمله. – وها أنت تدرك أن قرية أخرى يتم عزلها عن الحياة إلى الأبد أمام أعينك، وسور من الباطون يصل ارتفاعه إلى ثمانية أمتار يحيط بها من كل الجهات.

ولكن في تلك اللحظة راودتني فكرة دبت بي الارتياح: إن تلك الرافعة التي تضع هذه الألواح في مكانها، يمكنها أيضا أن تزيلها من هناك. هذا ما حدث في ألمانيا، وهذا ما سيحدث لدينا. وقرار المحكمة الدولية في هاغ، بقضاته الخمسة عشر من دول متعددة، تسهم بنصيبها في ذلك.

ولربما تكون هذه سخرية التاريخ: القضاة الذين يمثلون الحضارة الأوروبية يطالبون بإزالة الجدار، لو كان هرتسل ليرى ذلك، لكان سيفاجئ حقا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعات عراقية للمطالبة بوقف الحرب في غزة


.. مشاهد من لحظة وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى قصر الإليزيه




.. فيضانات وسيول مدمّرة تضرب البرازيل • فرانس 24 / FRANCE 24


.. طبول المعركة تُقرع في رفح.. الجيش الإسرائيلي يُجلي السكان من




.. كيف تبدو زيارة وليام بيرنزهذه المرة إلى تل أبيب في ظل الضغوط