الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعقيباً على مقال الدكتور عبد الخالق حسين -الكذب ديدن البعث -

حسين حامد حسين

2010 / 2 / 28
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


تعقيباً على مقال الدكتور عبد الخالق حسين "الكذب ديدن البعث "
أ.د. حسين حامد حسين
"إن الشجى يبعث الشجى"

لا أدري لماذا أجد كل هذه المتعة العريضة في قراءة ما يكتبه الاخ الكاتب الدكتور عبد الخالق حسين . فهذا الكاتب وبحق مدرسة فكرية خاصة وواسعة، أعتقد انه حري بكل منصف من الاعتراف بالعطاء الثري المخلص لهذا الإنسان والذي يطالعنا في كل يوم ليحدثنا عن وطننا الجريح بموضوعية وحماس. فأني أسأل الله العلي العظيم ان يمن عليه دائما بالصحة والعافية ويحفظه وعائلته من كل سوء. أقول كل ذلك لأن كل ما قرأته وأقرأه لهذا العالم الجليل من أعمال مخلصة من مقابلات صحفية ومقالات وتحليلات سياسية واجتماعية فاني أحس ان مصدرها القلب . فأنا أؤمن بما قد قيل في تراثنا (اذا خرج الكلام من القلب وقع في القلب واذا خرج من اللسان لم يتعد الأذان) . وبقدر ما تمنحني كتابات الاخ الدكتور الفاضل من غبطة ومتعة في الانصات لمحاور تحليلاته السياسية والفكرية لقضايا الساعة الساخنة، ومن طروحات موضوعية هادفة، و بشكل خاص فيما يتعلق بالخراب الذي لحق بشعبنا الأبي من حكم البعثيين المقبور وتحليل دوافع شرورهم وأفعالهم الجبانة في تدميرهم للذات العراقيه على مدى أربعين عاما في دكتاتورية أكثر فظاعة حتى من ستالين المجرم. ومن ثم رؤيته الواقعية لمستقبل العراق وتشخيصه لأمراض مجتمعنا، فاني أجد كتاباته وحتى على الصعيد الشخصي نوعا من بلسم لجراح قديمة لمعاناة شخصية لي مع البعث المقبور والذي لا ينسى أزلامه يوما الثأر من أجل تصفية حسابات الماضي مع كل من كان يعتبرهم مرتدين بل وخصوما لهم .

وفي مقال الدكتور الاخير (الكذب ديدن البعث) والذي أصاب فيه الدكتور وكالعادة عين الحقيقة، وجدت نفسي هنا ملزما في الكتاب’ عن موضوع شخصي عسى ان يضيف شهادة اخرى لما يكتبه الدكتور عن الارهاب الذي عاناه شعبنا ومن بينهم أساتذة الجامعات العراقية وخصوصا أولئك ممن كانوا ضمن دائرة اتهام سلطة البغي الصدامية من مناوئين للنظام . وهنا أرجو ان يسمح لي القارئ الكريم لسرد تجربة شخصية لما حدث لي قبل مغادرتي العراق. هذه المغادرة ما كان لها ان تحصل لولا رحمة ومشيئة العلي القدير وبعد أن اضطررت للكتابة للأمم المتحدة لمساعدتي في ذلك.

في عام 1995 كنت ما أزال استاذا في كلية الطب لجامعة تكريت عندما أعلن المقبور صدام عن ما سمي في حينها "بالاستفتاء الشعبي" لانتخابه من قبل الشعب العراقي. المهم بعد الإعلان التقى رئيس الجامعة انذاك الدكتور عوني كامل شعبان بأعضاء الهيئة التدريسية حاثا إيانا على وجوب المساهمة بذلك الاستفتاء. وكان موقع سكني انذاك في قضاء الدور والذي يبعد حوالي عشرون كيلومترا من تكريت , وكان القضاء يسوده الطابع الريفي واعتقده ما يزال. وفي اليوم المقرر لما سمي بالاستفتاء ذهبت الى المركز المخصص وكانت قاعة كبيرة وجدتها تعج بالرجال والنساء والاطفال . وكان في منتصف القاعة حوالي ثمانية صناديق لوضع الناخب بطاقة استفتائه وكان امام كل صندوق واحد او أكثر من رجال الامن والذي كانت مهمتهم وكما رحت أرقبها هي القيام باستلام بطاقة الناخب منه ليتأكدوا من انه قال "نعم" لصدام قبل وضعها في الصندوق. أما العوائل القادمة "للانتخاب" والتي كانت تجهل القراءه والكتابه فكانت تعتمد على رجل الامن والذي يقوم بمهمة ملء الاستمارة لهم ومن ثم التأشير ب "نعم" قبل دسها في الصندوق. وقفت اتفرج على تلك المهزلة ولم يفاجئني شيء من ذلك فانا الذي عشت في تكريت عشرة أعوام والتقيت هناك بأنواع من خلق الله سبحانه من بينهم الخبيث والتافه ومنهم الطيب الكريم المحتشم فكانت من ضمن خمسة عشر عاما قام صدام بسلبها من حياتي عانيتها بجلد وصمت. حيث فرضت السلطات البعثية المجرمة علي لاحقا الإقامة في العراق ضد ارادتي ومنعي من السفر للعودة مع عائلتي وطفلي الصغير ذي ستة أعوام في الولايات المتحدة الامريكية والذين ظلوا يجهلون مصيري في العراق كما هو الحال مع أهلي في بغداد أيضا.

المهم ألتقطت واحدة من استمارات الاستفتاء وكتبت فيها "لا" لصدام. وسرت في طريقي لأضعها في الصندوق ولكن ما ان وصلت واذا بيد رجل الامن تمتد نحوي محاولا أخذها مني وكما كان يفعل مع الجميع. نظرت الى رجل الامن في تلك اللحظات الحرجة فانهالت علي فجاة تلك الذكريات المريرة والتي حرصت دائما على مقاومة ذكراها بل ودفنها مع الماضي. تذكرت تلك الايادي الممعنه بالقسوة والعيون الطافحة بالشر في سجني بعد عودتي من الولايات المتحدة الى العراق عام 1984 في زيارة لاهلي كان يفترض ان تكون لاسبوعين ولكنها امتدت الى خمسة عشر من سنين اكثر سوادا من قار . تذكرت كيف وجدت رجال الامن الصدامي ينتظرون وصولي الى المطار ولم يسمحوا لي بلقاء أهلي حتى ببضع دقائق وكنا نتطلع الى بعضنا البعض من خلال نافذة المطار الكبيرة ثم لأختفي في مديرية الامن العامه سيئة الصيت. تذكرت كل ما أستطع قوله هنا وما لا استطع وانا أقف امام رجل الامن الذي اراه مازال ينتظر ليعرف ماذا كتبت في استمارة استفتائي ليتأكد من هذه ال "نعم" التي يأمر بها الجميع علنا من اجل سيده الطاغية. وفجأة داهمتني حاله من نوع من غضب او ربما تحدي أو ربما هكذا تصورتها في حينها على كل حال، فسألته متظاهرا وكأني لا اعلم ما يريد:
" تفضل أستاذ...ما الأمر وما الذي تريده بالضبط؟ "
اندهش الرجل بعض الشيء اذ لم يتوقع من اي شخص سؤال كهذا, لكنه استدرك و أجابني وهو ينتزع ابتسامه صفراء وفي عينيه كنت أقرأ ما أعرفه جيدا عنهم حينما يشعرون بانهم لم يطاعوا في امر ما:
"لا... لا شئ ...كنت اريد فقط ان اساعد في وضع استفتائك في الصندوق... ولكن ... بامكانك ان تفعل ذلك بنفسك"
كان جواب رجل الامن على مضض اذ لم يدر بخلده على ما يبدو أنه سيكون مضطرا الى منح استثناءا لاي كان او لينتهي بهكذا هزيمة لم يتوقعها, فظلت عينياه عالقتين في الورقه بيدي. وفي اللحظه ذاتها تحرك اثنين من رجال الامن من مكان آخر ليستفهما عما كان يحدث فلاحظت ان صاحبنا وكأنه يريد ان يعرف من يكون هذا الذي لا يمتثل لأوامرهم , واذا باحدهم ينبري بتعريفي لهم ولكن بطريقة قد تخلوا من اكتراث :
"...هذا دكتور حسين حامد...من كلية الطب في الجامعة، ما المشكله؟"
لم يجبه الرجل الآخر. وضعت استفتائي في الصندوق وأخذت طريقي الى الخارج وفي صدري تفجرت عشرات الالغام.
وخلال ساعات ظهرت نتائج الاستفتاء. وكانت النسبه في اختيار القائد الضروره (%99.99). ولقد حمتني رحمة الرب الكريم فقط اذ ظهر من بين المنتخبين في مركز قضاء الدور سبعة أشخاص قد قالوا "لا" بالاضافه لي. فلو ان بطاقتي كانت الوحيدة من تحمل "لا" لكنت من المعدومين حتما.

ولكن الامر لم ينتهي عند هذا الحد. ففي اليوم التالي توافد علي عدد من الاصدقاء والزملاء في الكلية والجامعة محاولين وبشكل ملفت للنظر من استدراجي لمعرفة ماذا كان موقفي من انتخاب صدام. ولما كنت قد شعرت بالفخ المنصوب لرقبتي فقد اضطررت الى توخي الحذر في الإجابة، فكنت أرد على تساؤلاتهم بدلوماسية او احاول تسفيه أسئلتهم متهربا من الاجابة بشكل مباشر. لكن دائرة الامن في المحافظه والمنظمه الحزبيه في الجامعه وعلى ما يبدو لم يهدأ لهم بال فازددت يقينا من اني كنت دائما تحت المراقبة من قبلهم. وفي ذات اليوم أعلنت الجامعة عن اقامة احتفال كبير احتفاءا باعادة انتخاب الدكتاتور. وكنت في مكتبي في الكلية عندما تفاجأت بقدوم المسؤول الحزبي للجامعة وكان اسمه حسين الدوري، وكان له حولا في عينيه، مع ضابط أمن الجامعة وضابط أمن كلية الطب ومعاون العميد فسلموا وجلسوا بعد أن أغلقوا باب الغرفة. وبدأ المسؤول الحزبي للجامعة بالحديث وبدون مقدمات:
" دكتور حسين اننا نشك في ولائك للسيد الرئيس القائد (حفظه الله) ونعتقد انك كنت من بين الثمانية (الحقراء) الذين أظهروا عدائهم بعدم انتخاب القائد المفدى والذي قامت الجماهير العراقية بانتخابه معلنة ولاءها المطلق للسيد الرئيس القائد (حفظه الله) فماذا تقول في ذلك؟"
"أخ أستاذ حسين الا تعتقد أنك قد تكون ظلمت حظك وبختك في توجيه مثل هذا الاتهام الخطر لمواطن عراقي يفترض ان يكون لي ذات الحقوق التي تمتلكونها؟ ثم هل تستطيع ان تثبت ما تدعيه؟" قلت له ذلك وأنا أحاول بكل جهد ان ابدوا هادئا.
أجابني بلهجة لا تخلوا من سخرية:
"وهل تعتقد ان بامكانك البقاء جالسا هكذا لو كنا نملك الاثباتات لعدائك لنا؟ هل تعتقد اننا سنسمح لاعدائنا أن يظلوا على قيد الحياة ليكونوا واجهات في نشر السموم في جامعاتنا؟ المهم، اننا نعد احتفالا جماهيريا لجامعتنا في يوم غد يقام هنا في كلية الطب ونريدك ان تكون من بين المتحدثين برأيك الشخصي عن النصر العظيم للسيد القائد "حفظه الله" فماذا هو جوابك لنا؟"
"لا مانع لدي من ذلك..."
"طيب" قاطعني لينهض قائلا "اذن نلتقي غدا ... وان غدا لناظره قريب" .
نظرت اليهم وهم يهمون في المغادرة فكانت عيونهم نحوي مفعمة بتهديد وغضب أفزعني.
في اليوم التالي غصت القاعة الكبيرة بالطلبة واعضاء الهيئة التدريسية. وقبل ان يبدأ الاحتفال حضر كل من محمد يونس الاحمد والمحافظ ورئيس الجامعة والعمداء وأمين سر فرع الحزب لفرع للمحافظة وآخرين. وبعد أن قاموا بإلقاء كلمات الإطناب والقصائد التي تشيد (بالقائد التاريخي) قدمني عريف الحفل بهذه الكلمات التي لن أنساها ما حييت:
"والان يسرنا ان ندعوا الدكتور حسين حامد الى المايكرفون ليعبر لنا عما يشعر به شخصيا من سعادة وحفاوة في هذه المناسبه التاريخية, مناسبة الانتصار العظيم للقائد المظفر في اعادة انتخابه بالاجماع قائدا لشعبنا العراقي مدى الحياة"
في طيلة وجودي في القاعة لم اتوقف عن ألاستغفار من الله ربي العلي القدير عما ساقوله من رياء. فما سأقوله هو من اجل بقائي حيا لا أكثر وأن ربي غفور رحيم.

لا اتذكر كثيرا لما قلته، ولكن الذي أتذكره جيدا ان الدقائق العشرة التي تكلمت خلالها في مدح صدام كانت قد منحتني ولسنين طويلة خجلا من مواجهة نفسي وان كنت مكرها على الذي قلته. هذا الخجل الذي عاش معي زمنا طويلا يقتات على كبريائي. وتحملته وعانيته من أجل العودة لطفلي وعائلتي فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*: كان هذا سردا سريعا لأحد فصول كتابي
بوابة الجحيم: مذكراتي في سجون صدام والذي سيتم نشره باذن الله في إحدى دور النشر في نيويورك في
العام القادم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ا?ستاذ بجامعة سان فرانسيسكو: معظم المتظاهرين في الجامعات الا


.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR




.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي


.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه




.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر