الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هارون محمد يبحث عن هارون الرشيد

رباح آل جعفر

2010 / 3 / 2
الادب والفن


لم أكن أعرف بغداد ، ولم يكن معي دليل ، ولا حادي ، ولا شوق ، ولا ترجمان ، وفجأة ، وجدتني طالباً أدرس الصحافة في قسم الإعلام بجامعة بغداد ، ولم يكن كلية آنئذ ، وأبحث لنفسي عن مكان في الدنيا الجديدة ، وأحاول أن أجد لقدمي موضعاً في الزحام ، وكنت أبدو ، في ذلك الوقت ، أشبه بفتى قادم من أقصى الريف ، يهبط إلى مدينة غريبة ، ومدهشة .. لم يكتشف عالمها ، ولا أخلاقها بعد .
وراودتني أحلام واسعة في الجلالة ، وبلاطها ، وتيجانها ، وأنا أجد نفسي في جو الصحافة الأكاديمية لأول مرة ، أتتلمذ بين يدي أستاذ كبير ، الدكتور سنان سعيد ، الذي أشعر نحوه بعرفان بالجميل عميق ، وقد أقبل كلانا على الآخر من أول لحظة التقينا ، وكنا نشعر بالودّ وبالألفة من دون أن ندري ، وتفاهمنا بأعذب من هتاف نجمة لنجمة ، وأشهد أني استنشقت في أدبه طيباً غير مألوف ، ولا معروف ، وهو يلمس أوراقي لمساً حنوناً يشبه طيران الفراش الليلي ، ويفتح أمامي بحسّه المرهف ، درباً شقها بمحراثٍ منحوتٍ من أضلعه ، وأنا لا أزال أحبو في عالم الصحافة ، لكن قدره لم يمهله حتى يتمتع بحياة أطول ، فأصيب بجلطة دماغية وأصبح ( جثة ) ممددة على الفراش ، وتحطم ذلك القلب ، وأخذه الموت غيلة بعد صراع مع المرض شاق ، وأكاد أحياناً أحس بروحه تخفق من حولي .
في صحيفة ( العراق ) ، وكنت ما أزال طالباً أدرس الصحافة في المرحلة الأولى ، وجدت لي بيتاً وقد ضاقت عليّ البيوت ، وضاقت القلوب التي في الصدور ، وكان الفضل لصاحب الفضل ، الصحفي القدير الصديق والزميل الكريم صباح جليل اللامي الذي نشرت من خلاله أول عمود لي في الصفحة الأخيرة من هذه الصحيفة ، وكان النشر يومئذ أشبه بمعجزة ، وصباح اللامي صاحب أسلوب حلو المذاق ، نشيط في أنغامه ، رقيق في إيقاعه ، وشاعر تهيم روحه حيث يكون الجمال .
يقودني هذا المدخل ، وقد آثرت أن أكتب هذه المرة عن زميل قديم ، وصديق عزيز ، وصحفي وكاتب وسياسي بارز ، هارون محمد ، وهو بعيد ، بعيد ، هناك ، ولكن أين .. وكل الأوطان منافي ؟ ، كلمات مشبوبة بالعاطفة ، وذكريات عزيزة على نفسي ، تخفق مع أيام خوال ، ولعلها تدق قرب قلبي ، وقلبه ، عشناها معا في بلاط صاحبة الجلالة ، وفي حضرة ( العراق ) الصحيفة ، وقد عرفته أول مرة في الثمانينيات ، وكله أمل في الحياة ، وكان اندفاعه تلقائياً ملفتاً للنظر ، فقد بدا وكأنه متسابق يقفز الحواجز كلها في خط واحد متصل .. ثم تألمت لهذه الآمال التي انهارت ، والحواجز التي سقطت واحداً تلو واحد .
ذكريات أعادتني إلى عملنا المشترك في مجلة ( القمة ) التي كان يصدرها الأستاذ هارون بامتياز شخصي من قبرص ، وإلى أيام مضت كنا نلتقي عند صديقنا المشترك المفكر الراحل عزيز السيد جاسم ، وفي بعض الأحيان يكون معنا الشاعر الكبير الراحل عبد الوهاب البياتي ، وعشرات من ألمع الأسماء في السياسة والصحافة والثقافة ، وكان مكتب عزيز السيد جاسم في شارع السعدون في قلب بغداد أشبه بسوق الثلاثاء ، يلتقي به مثقفون وأدباء ، من كل لون وصنف واتجاه ، وشباب يتفجرون بالحماس والنشاط ، وفي أدمغتهم تدور أفكار جديدة ، ولديهم طموح من نوع خاص .. وعشنا زمناً بالطول وبالعرض ، وبالعمق أحياناً ، ولم تكن أحلامنا وهماً ، أو هلوسة ، وكانت تطلعاتنا محدودة ، ومطالبنا سهلة ، فقط أن نرى الناس يعيشون بسلام ، وضحكنا ساعات من حناجرنا، وفي ساعات رأينا جهنّم الحمراء في عيوننا .. وعرفنا الشوق واللهفة ، وكذلك عرفنا الألم والفراق ، وكنّا نحسب الأيام مثل حساب العصافير لحبّات البيادر .. وأحياناً كنا نشعر أن الدنيا أصبحت في عيوننا مثل ثقب الإبرة ، ومع ذلك كنا نريد ، أن ننفذ من هذا الثقب إلى العالم الآخر !.
وكان هارون دائماً في حيّز الأشواق ، يسكن ما يمكن تسميته بالوجدان ، وهو من قلة بين كثرة أثلجت صدري صحبتهم ، وكنا اثنين لا يفترقان ، حافظين لصلات وعهود تسبق في حسابنا أي حساب ، وصداقة حرصنا منذ البداية ، أن نحميها مثلما يجب أن تُحمى ، وألاّ نتأثر بما تحشو الببغاوات أفواهها ، ونصمّ آذاننا عن كل ذلك اللغو ، وكانت صداقتنا بريئة ، من دون مجاملات ، أو تزويق ، مما تصنعه المساحيق ، حتى يصحّ في وصفنا قول البحتري :
لقد صدق البشيرُ بما ابتهجنا
له .. لو كان يصدقنا البشيرُ
وهارون كان ، وما يزال ، صديقي وزميلي ، إلى درجة اختلطت فينا الزمالة بالصداقة ، فأنا لا أعرف بالضبط ، هل زمالتنا كانت مقدمة الصداقة ، أم صداقتنا كانت مقدمة الزمالة ، ومرّت فترة في علاقتنا توحّدت فيها مقاصدنا ، وشاركته بقلبي أفراحه وأحزانه ، وشاركني بقلبه هو الآخر ، فصار بيننا إرث من محبة ، وعرفنا نوعاً من البشر ، ليسوا إلا نوعاً من النحل ، أتيحت له فرصة أن يلسع ، وكانت كلماتنا كأنها حركة مجداف ، يضرب وجه الماء في هدوء ودعة وانسياب ، وذات جذور عميقة ومتبادلة ، تجربة مشتركة من العمل والودّ ، والحلو والمرّ ، عشناها معاً ، يوماً بيوم ، وساعة بساعة .
وأريد أن أقول ، وبمحبة خالصة مع الزمان وناسه ، إن صحبتي مع هارون محمد ، كانت مثل بواخر ، تقابلت بالليل في عرض المحيط ، واقتربت حتى كادت تتلامس ظلالها ، وبقيت ثابتة ، أمام تدافع الموج ، لم تدع التيار يجرفها إلى الهاوية ، ثمّ مضت كلّ باخرة نحو مقصدها إلى بعيد ، وأصبحت بيننا موانئ ، ومرافئ متباعدة ، بينها مسافات شاسعة ، في دنيا غير الدنيا ، وأيام اختلفت عن أيام ، برغم أني كنت ، ولم أزل ، أؤمن ، أن هارون محمد من إخوان أحقّ ببقاء المودّة ، وكان المتنبي العظيم هو القائل :
خليلك أنت لا من قلت خلّي
وإن كثر التجمّلُ والكلامُ
ولعلّ علة هارون محمد إن ذاكرته قوية ، والذاكرة بصورة عامة خطر على السياسة ، لأنها سهم متجه إلى الوراء ، لا سهم ذاهب إلى المستقبل .. وهو كاتب انقلابي ، استطاع أن يخرج من المألوف السياسي إلى اللا مألوف ، ويحلم بجمهورية عراقية لا تشبه جمهورية أفلاطون ، ولا بقية الجمهوريات .. وكذلك فانه يؤمن إن دور الكاتب المغني قد انتهى .. وهذا الوطن لم يعد يبحث عن كاتب يحرك فيه غريزة الطرب ، ويهز له سريره حتى ينام ، لكنه يبحث عن كاتب يؤرقه ، ويثير أعصابه ، ويغرز في جلده دبوسا من نار .. ويقص أرجل السرير الذي ينام عليه منذ خمس مئة سنة .. فربما إذا اصطدمت رؤوس النائمين بالأرض .. عرفوا قيمة الأرض .
لا ضاعت ذاكرته العربية ، ولا تبرّأ من تراثه القومي ، ولا تخلّى عن مواقفه .. ومن حقّنا أن نعتب على الأستاذ هارون ، لأنه لم يكشف عن خزانة من وثائق التأريخ العراقي ، وعن مفارقات الصحافة العراقية وتناقضاتها في خمسة عقود عاصرها والتحم في تياراتها ، كما أنه لم يكتب ، إلى الآن ، مذكراته الصحفية عن حركة القوميين العرب ، والحركة الاشتراكية العربية ، وعن تفاصيل عمله مع الراحل فؤاد الركابي ، وتجربة اعتقاله في قصر النهاية .. ومن حقّه أن يصدر أحكامه على الناس وعلى الحوادث ، حتى ولو كان الاعتماد على الذاكرة الشخصية ، وأن يضع كل أمر في نصابه ، وأن يظهر وجه الحقيقة ، وما حساب أولئك جميعاً ، سيما وأن الأحياء من جيله منهم من شاخ وكبر ، ومنهم من نسي ، أو تناسى ، وكان أجدى به أن يروي القصة كاملة ، كشاهد عيان أتاحت له الظروف أن يعيش الوقائع ، وهو مقتدر على روايتها بدقّة وتفصيل ، كما لو كانت هذه الأحداث قد وقعت له منذ لحظات !.
وهارون من الذين يصدق فيهم المثل القائل : ( حلب الدهر أشطره ) ، أي مرّت عليه صروفه من خير وشر، وتقلّبت به المقادير ، كشراع في مرافئها ، وسال له حبر كثير على الورق ، وله ذاكرة لا ينعم بها إلاّ الكمبيوتر ، وفي بعض الأحيان كنت أستنفر ذاكرته ، حين يستعصي عليّ النسيان ، وهو أدقّ من ذاك لفرط ما يضخّ فيها من عواطفه ، عكس آخرين ظلوا يستحلبون الذاكرة حد الاستنزاف ، فتقرأ ، وتسمع ، لهارون ، من أدق تفاصيل الذكريات ، عن حقب في الصحافة لها معنى ، ورجال في السياسة لهم أدوار ، بما تستحق النشر ، وتستحق أن يقبل الناس على قراءتها !.
ولقد أحببت رقته ووداعته ووفاءه النادر لأصدقائه ، وفاء قلّ أن يكون له نظير ، مثلما أحببت تلك الكلمة الضاحكة ، واللفتة الذكية ، والنكتة الحلوة ، حين كانت تجمعنا المجالس إلى جانب صداقات عزيزة وغالية ، وكان مستحيلاً أن يستقيم وصلنا بغيره ، وأن لا يكون هو ضمير المتكلم ، فلكي تبني جسراً مع الناس ، لا بدّ أن تكتشف لغة قادرة على التواصل ، ووجدته حضوراً منشرحاً متهلّلاً ، وراوية حكايات مشوّق ، وكانت النكتة سلاحاً من أسلحته ، وميزته أنه يستطيع أن يخلق حدثاً معيناً من الأحداث بمزاج صاف ، يشيع به على الحضور نوعاً من البهاء !.
صحبت الأستاذ هارون محمد ثلاثاً وعشرين سنة بالتمام ، فوجدته الرائي الذي رأى كل شيء ، واكتشفت أن أروع جوانب شخصيته وأحلاها ، تلك اللغة الصافية الساخرة ، التي تتدفق من لسانه عفو الخاطر بلا رقيب ، ومن دون تحفّظ ، وبلا أي تكلف ، وهو يعرف ، كيف يكون الصحفي ساخراً ، ومحترماً، وكان ، ولم يزل ، يثير الأسئلة المشاكسة التي لا طاقة للفتيان بها .. وعدا عن ذلك كله ، فهو مضياف ، متلاف ، لا وزن عنده لما سوف يحدث غداً ، شديد الأنفة والكبرياء ، يجوع ولا يسأل اللئيم .
وفي الصحافة العراقية عرفنا العشرات من الأدعياء ، الذين لا يعرفون الفاعل من المفعول ، ولم يكونوا من هواة القراءة ، ولم يكن لديهم كتيب ، وإنك لتعجب وتشعر بالغصّة ، نحو عدد من الأسماء ، والأصوات النشاز ، والظواهر الشاذة عن الطبيعة ، التي تشبه البالونات الملوّنة ، التي يطلقها الأطفال في مواسم الأعياد ، ثمّ ما تلبث أن تنفجر بعد دقائق من إطلاقها ، أو إنها مثل الفراشات ، تتحوّل إلى بيض يفقّس دوداً مرّة أخرى ( مشكلتنا في الصحافة كانت وما تزال ، هو هذا الدود ) !!.
ولقد قيل في هارون محمد كلام كثير .. قليله تميز بالعدل والإنصاف ، وأعطى ما لله لله ، وما لقيصر لقيصر .. وكثيره تميز بالظلم والإجحاف ، ولم يعط شيئا لا لله ، ولا لقيصر .
وأعلم أن الذين يهاجمونه ، هم أولئك العدميون ، الذين تضايقهم اللغة العربية ، لأنهم لا يستطيعون قراءتها ، وتزعجهم العبارة العربية لأنهم لا يستطيعون تركيبها .. إنهم يريدون أن يفتحوا العالم ، وهم عاجزون عن فتح كتاب ، وهم يريدون أن يحرروا العراق ، وهم عاجزون عن تحرير جملة مفيدة ، ويريدون أن يخوضوا البحر ، وهم يتزحلقون بقطرة ماء .. وهم يبحثون دائماً عن ضحية يفرغون فيها كل إسقاطاتهم ، وعقدهم ، وانحرافاتهم النفسية .
ومنذ نحو عشرين سنة وهارون محمد غريب في بلاد غريبة ، يطوف في الآفاق القصية كلها يبحث عن أجوبة لأسئلة راحت تلحّ عليه ، ويحلم بعودة بغداد هارون الرشيد ، لا عجمة فيها ، ولا عوج ، ولا برامكة .. ويدافع عن كل نخلة في بغداد تتكلم بجملة عربية ، وعن كل طير في بغداد ينطق بلسان عربي ويصبح طيراً أبابيل ، وعن كل شبر في أرض بغداد يحفظ قصة بطولة عربية .. وهو يؤمن إن كل وليد فصاله في عامين ، إلا بغداد ليس لها فصال عن الأرض العربية ، وكل وليد له فطام عن أمه ، إلا بغداد تأبى الفطام ، لأنها شاهدة على أن المدن الباسلة لا تموت .. في عصر عربي يصحّ وصفه بعصر الشظايا المبعثرة ، والمثقفين المنفيين !.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مبروك
نضال ( 2010 / 3 / 2 - 21:42 )
ان هارون محمد طائفي يكرة الشيعةمبروك لك صداقتك لة حيث الطيور على 00000


2 - اعوذباللة
وداد ( 2010 / 3 / 2 - 21:58 )
اعوذباللة من هارون محمد ومن احقادة وسمومة وخبثة وعنصرية هارون واضحة للعيان ان اغلبية الشعب العراقي يكرةهذا الهارون


3 - المكنون في الترهل والاستطارة
المهندس كاظم الساعدي ( 2010 / 3 / 3 - 07:06 )
في غياهب رؤى تتجذع في جذر لايستمد الا من حماقة اللواقط المتشعبة الى طفيلية تقتات لتنبت حتى ولو بين اجساد متعفنة لارواح غادرتها منذ سنين تتعكز الى بوح عسى ان يسد رمقك حتى ولو بايحاءات الجسد ولو كان على حساب شئ كنت قد فقدته حولا قبل حول
تحبو ام لاتحبو سيان في غور الارض وعندما تسير تتعكز على الاسماء وكلها غادرت دون ان تعرف من رباح حتى اطار ظله ومن بين الاسماء عبد الوهاب البياتي التقيته مرة في عمان لايعرفك بل انه لم يسمع باسمك والسبب انك ولدت بعد ان خط الشيب حقائقه في مفارق الرجل وبعد ان انطفات براكينه وحقا استغرب كيف له ان يلتقي بجسد ليس ظل وتريد ان نصدق الهراء بان الوردي يسير كالاسير
ثم ماهذه الفسيفساء التي لاتستند الى اصول الطيف في كتابتك تريد ان تلحق الحرف بنقيضه عسى ان تتشكل الكلمة وعندما تشكلت عدت الى غياهب رؤى مستديمة تمتد الى مراحل مراهقتك الاولى

اخر الافلام

.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لم أعتزل والفوازير حياتي.. -صباح العربية- يلتقي الفنانة المص


.. صباح العربية | في مصر: إيرادات خيالية في السينما خلال يوم..




.. لقاء خاص مع الفنان حسن الرداد عن الفن والحياة في كلمة أخيرة