الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإبداع بين قيد التوظيف، وفضاء التحرر

خالد إبراهيم المحجوبي

2010 / 3 / 2
الادب والفن



إن من شر أنواع الاستعباد والكبت ، تلك القيود التي تفرض على ما لا يقبل بطبيعته الكبت ، وبخاصة ما كان صادراً من لباب الروح ، وأعماق النفس المبدعة.
تجيء العملية لإبداعية وسط الأشياء التي ترفض بلا مساومة فرضية الحصر والتحديد، فضلاً عن إقامة هذه الفرضية واقعاً؛ فما الإبداع إلا وليد فكرة ورؤيا، كان من شروط انبثاقها من مكمنها أن لا تخضع –ولو احتمالاً- لمساومة أو محاصرة، أو توجيه قسري من طرف لا مؤهل له فوق كونه –هو الآخر- صادراً عن مكمن أفكار عند غير صاحب الأفكار المخالفة له. ولا شيء يسوّغ دوره في المحاصرة أو الكبت، إلا كونه حائزاً قصب السبق في سياق جدليّة القبول والرفض، لسبب أو لآخر.
وعلى الرغم من كون هذا مما لا يصح الجدال بأمره. فإنه لم يكن مسلماً به من بعض الجهات التي مارست –بلذة عارمة- ذلك الكبت الفكري والتقييد الإبداعي .
ومما يزيد الحال سوءاً أن هذا كله يمارس مشفوعاً بنظرية تعضّده، وتنسب للمجال الأدبي والنقدي، وهي لمَّا تكتسب بعدُ الشرعية الأدبية أو النقدية.
ولا أدل على هذا مما نادى به أصحاب المدرسة الواقعية الاشتراكية فيما حفلت به طروحاتهم في مضمار النقد، وإنشاء العمليات الإبداعية، وما حوته من ضوابط ما كان لها أن تحقق أي نوع، وأي درجة من التوازن والانسجام مع الحق الإبداعي في الانطلاق والتحرر بحكم أصل المنشأ، ومقاصد الهدف الذي يتوجه تجاهه الإبداع.
في هذا النطاق تدخل تلكم الممارسات المخجلة، التي ستبقى وصمة مزرية في تاريخ العوالم الأدبية والإبداعية، وهنا أعني ممارسات الثورة البلشفية 1917م، بحق جماعة الأبوجاز (opojqz) وحلقة موسكو اللغوية، ومدرسة الشكلانيين الروس ومدرستهم الفتية في ذلكم الوقت، المولدة للمدرسة الشكلية التي صار الانتساب إليها جريمة.
في هذا السياق يقول الشاعر (كرزانوف) في المؤتمر الأول للكتاب 1934 "أصبحنا مهددين جميعاً بأن نتهم بجريمة الشكلية"(1).
لقد كان من دوافع ذلك الاضطهاد النظر إلى الظاهرة الإبداعية بوصفها وسيلة تستثمر بذاتها، وعدم اعتبارها غاية ، ومصادرة حقها في أن تكون منتجاً بشرياً مجرد عن الإغراض والأطماع الضيقة المصادمة لانطلاقة الروح المبدعة .
انطلاقاً من هذه النظرة المجحفة لغرضية الخلق الإبداعي؛ رأى هؤلاء الكاتبون أن الإبداع والخلق الأدبي بذاته ليس له حق في الاهتمام إلا ما نزر، مقابل ما منح لما رأوا أن الأدب والفن ينشآن لأجله ، سواء تلكم الأهداف الأخلاقية والتربوية مما تكلفت البرناسية وغيرها بالاعتراض عليه، أو تلكم التوظيفات المجعولة للبلوريتاريا، ومكونات البنية التحتية للمجتمع بعامة، أو غير ذلك من الأمور التي أُسر الإبداع واضطُهد الخلق الأدبي؛ في سبيل إرضائها بجعلها مخدومة؛ فسُخّر لها الفن وإمكانات أهله ومنشئية.
وبناء على هذا سوغ أولئك لأنفسهم وضع قيود حدّية، وحدود قيدية؛ كان ضحيتها الأولى الإبداع، والمبدعون.
إن الدعوة إلى التقييد المجالي الموضوعي والنوعي للعمليات الأدبية ليست بدعاً من الطروح في عالم النقد الأدبي وقضاياه، والواضح أن منشأ هذا كله تلك الطروحات والرؤى المفضية لمذهب الفهم الاجتماعي للأدب والفن.
ولا أعلم أن النقاد اختلفوا في كون الأدب ظاهرة اجتماعية ، لكن نشأ الاختلاف في بضعٍ من الأسئلة انتابت عالم العملية الإبداعية وإنشائها. من تلك الأسئلة: هل الأدب انعكاس للحياة والمجتمع، أم أنه يقوم بتحوير المظاهر الحياتية عن الأصل؟ أم هو مستوحٍ لتلك المظاهر استيحاء؟ أم أن من شأنه إنشاء عالم آخر قائم بعينه، مواز لعالم الواقع ومخالف له في آن معاً، قوامه التراكيب اللغوية؟.
في سبيل الإجابة على كل هذه السؤالات وغيرها؛ نشأت وظهرت العلميات الاقترابية، والمناهج النقدية، على اختلاف مواردها ومصبّاتها.
إن الفهم الاجتماعي للظاهرة الإبداعية ليس حديثاً ولا قريب عهد في ظهوره، بل هو عائد -في تاريخه- إلى عصر أفلاطون، الذي أراد من الشاعر أن يكون واصفاً ومعبراً عن أفراد جمهوريته المثالية التي لم تنشأ في عقل أفلاطون وحده لسوء حظه.
إذاً رأى أفلاطون أن من وظائف الشاعر وواجباته أن يؤدي دوراً اجتماعياً محدداً؛ ولما لم يكن ذلك ممكناً ولا سائغاً. أخرجه أفلاطون من جمهوريته.
وكان في إخراجه إبعاد صريح للرؤى الجمالية، والتلقائية الإبداعية المستعصية عن التوظيف ، وإرهاصات ببدء عمليات التوظيف القسري ، والتضييق على العملية الإبداعية.
ولم يكن موقف أرسطو من بعد أستاذه بأفضل ولا أقوم فقام بتقليص مسافة العملية المحاكاتية التي وضع أفلاطون نظريته عليها؛ فرأى آرسطو أن مهمة الأدب تتحدد بمقدار الأمانة في وصفه ومحاكاته.
ليس هذا فحسب بل ألزمه بتقمص دور المعلم وتسخير إبداعه وفنه لإتقان دوره التهذيبي التثقيفي المنوط به بمقضى ما قررته نظرية التطهير الأرسطية، القائلة إن عرض الأدب للرذائل رسالة محذرة للمتلقي؛ تهدية لتجنبها.
من هنا شد آرسطو الفنان لمجتمعه ؛ في محاولة لإبعاده عن مجال التخييل والإبحار الماورائي الذي يحلو له سبر غياباته، واستغوار أعماقه، إذا ما أطلق سراحه، ووهب حريته.
لقد لاقى هذا الفهم والتطوير الآرسطي للوظيفة الأدبية الفنية رواجاً ذريعاً على مساحة زمن العصور الوسطى وبخاصة عند المسلمين، كما هو ظاهر عند ابن حزم، وابن قتيبة. وبلغ ذلك سَوْرته في النطاق الغربي حين ظهر (تين) بنظرية البيئة والجنس والعصر. ومن بعده (سانت بيف) الذي شارك سابقيه في إقرار الضرورة الوظيفية الاجتماعية للأدب وإرساخ الاعتقاد بكونه نتاجاً اجتماعياً.
لقد شكلت هذه الطروحات إرهاصاً لما قدره الماركسيون بعد ذلك في قولهم بنظرية الانعكاس القائلة :إن البنية الفوقية بآدابها وفنونها ، تعكس بأمانة ما تنطوي عليه البنية التحتية من علائق اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وإلى هذا تعدُّ هذه النظرية كلَّ من لا يلتزم بهذا الطرح رُجعياً متحللاً.
ورغم ما قرره ونادى به لوكاتش ، وغولدمان ، فإن هذا الفهم ظل مجحفاً بحق حرية الإبداع وخانقاً لإمكانياته ، كابتاً لمبدعيه، الذين يرون أنه عصي عن قيود التوظيف ، وحقيق بفضاء التحرر.
----------------------------------د. خالد إبراهيم المحجوبي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي