الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل -تعلّق قلبي- لاٌمرئ القيس؟

رياض الحبيّب

2010 / 3 / 3
الادب والفن


تأتي هذه المقالة في محور الأدب والفن جواباً على مداخلتين كريمتين وردتا، تعليقاً على مقالتي الأخيرة {الشطرنج تاريخاً وعِلْماً وفنّاً وأخلاقاً- أوّلاً} في عدد الحوار المتمدن 2928 المؤرّخ في 2010 / 2 / 26 وقد تفضّل بهما كاتبان فاضلان هما الأستاذ ماجد جمال الدين- وهنا نصّ مداخلته: {وقبلتها تسعاً وتسعين قبلةً **** وواحدة أخرى وكنت على عجل. لم أكن أعرف أن هذه ألأبيات ألبديعة ألتي حفظتها من قرابة خمسين عاما هي لإمرئ ألقيس (وبألحقيقة هذا يثير ألشك عندي ـ لأن هذا ألنمط من ألشعر أقرب إلى ألعصر ألعباسي وكما أن الشطرنج نفسه كما أعتقد لم يرد إلى ألعرب قبل أٌلإسلام بل في ألعصر ألأموي وألعباسي بعد إحتلال ألعرب ألمسلمين للبلدان ألحضارية في ألعراق وألشام) وعتابي لك أنك توانيت عن ذكر ألبيت ألأجمل في ألقصيدة! (فكما يبدو كان يلعب معها ألبليتس ـ أللعب ألخاطف) تحياتي ألأخوية} انتهت.

وهنا نصّ مداخلة الأستاذ فيصل البيطار: {صباح الخير. جميل هذا المقال الذي يلقي بعض الضوء على لعبة ذهنية رائعة، لكن لي إعتراض على أبيات إمرئ القيس وهو ما أشار له السيد ماجد جمال الدين / تعليق 2. العرب لم يعرفوا لعبة الشطرنج إلا بعد إحتلالهم العراق وهي التي وصلتهم عن طريق الساسانيين هناك، بل أن شخصية اٌمرئ القيس (وهم كثر) مشكوك بها أصلاً، كما هو مشكوك بالكثير من شعراء وشعر ما قبل الإسلام حسب الدكتور جواد علي والدكتور طه حسين والكثير مما نحى نحوهم. هذا لا يقلل من جمال الأبيات وجمال موضوعكم بالطبع. دمت سيدي متألقاً كما عرفناك. سلام} انتهت

وجواباً على المداخلة الأولى قلت؛ بعد التحية والشكر على مرورك واهتمامك فقد أسعدتني مداخلتك وذوقك الرفيع في اختيار أجمل بيت في القصيدة المذكورة. والواقع أني اخترت أبياتاً من القصيدة ما تعلّق منها بالشطرنج فقط- أي موضوع المقالة. أمّا ما تفضلت به بقولك (وبألحقيقة هذا يثير ألشك عندي ـ لأن هذا ألنمط من ألشعر أقرب إلى ألعصر ألعباسي) فأظنّ أنّ المهتمّ بالشعر حين يجد تشابُهاً باللغة والمضمون والنمط ما بين قصيدة وأخرى أقدم منها أو أحدث، قد يلجأ إلى معاينة فروق في معلوماتية الحدث إمّا جغرافيّاً (كالإشارة إلى اسم موضع ما أو جبل أو وادٍ) أو تاريخيّاً (كالإشارة إلى أسماء شخصيّات معروفة كملك أو أمير أو قائد جيش) أو اجتماعيّاً (بذكر مناسبة ما أو شخصيّة معنيّة بالحدث كاٌسم حبيبة أو قوم أو رئيس قبيلة) أو دينيّاً أو سياسيّاً (كالإشارة إلى سلم أو حرب أو صلح) وغيرها. فللمقارنة بين قصيدتين قديمتين بالنسبة لعصرنا، لغتهما واحدة هي العربية الفصحى، غرضهما واحد كالمديح والغزل والهجاء أو متعدد الأغراض، قيلت إحداهما في العصر العبّاسي (750-1258 م) وأمّا الثانية فمشكوك في نسبها، فلا بدّ من ملاحظة أحد الفروق ممّا تقدّم. فإلّا توجد دلالات في الثانية لتميّزها عن الأولى فسوف تُقيَّد القصيدة باٌسم شاعر قديم أو مجهول. أمّا الآن فأرى أمامَنا مبحثين؛ الأوّل أن نجد قصيدة واحدة (أو اثنتين) لشاعر عاش خلال العصر العباسي، يُشبه طرازها (أو نمطها أو أسلوب كتابتها) طراز قصيدة (تعلّق قلبي) المنسوبة لاٌمرئ القيس- مع الأخذ بنظر الإعتبار أنها لم تُنسَبْ لغيره أو إلى شاعر مجهول- وسوف أترك هذا البحث للأخ الكاتب ماجد جمال الدين بما أنّه صاحب الفكرة القائلة (هذا النمط من الشعر أقرب إلى العصر العباسي)

أمّا المبحث الثاني- ممّا سأتولّى على عاتقي- فهو في المقارنة ما بين قصيدة "لِمَـن طَلَـلٌ بَيـن الجُدَيَّـةِ والجَبَـلْ" أو "تعلّق قلبي" وبين ما نسَبَ أعلامٌ في الأدب والتاريخ لاٌمرئ القيس من قصائد وأبيات؛ منهم أبو الفرج القرشي الأصبهاني (صاحب كتاب الأغاني) وابن عبد ربّه (العقد الفريد) وابن رشيق القيرواني (صاحب "كتاب العمدة" في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه) وياقوت الحَمَوي (معجم البلدان) وابن الأثير (الكامل في التاريخ) والأب لويس شيخو اليسوعي (شعراء النصرانية- الجزء الأوّل) ومنهم المستشرقون ليدي آن بلنت (1) ودبليو إي كلوستون. وهؤلاء لم ينسبوا القصائد لامرئ القيس إلّا بعد تفحّص وتدقيق وهم أقرب منّا إلى الحدث وأعرف بالأدب وأعلم بالأخبار؛ قال لويس شيخو في كتابه المذكور في نهاية ص 30 ما يأتي: {فقال امرؤ القيس (من الكامل): "طرَقتكَ هِندٌ بعْد طول تجنّب ٍ *** وَهْناً ولم تكُ قبل ذلك تطْرُقِ" قال صاحبُ الأغاني: وهي قصيدة طويلة وأظنها منحولة لأنها لا تُشاكل كلامَ اٌمرئ القيس والتوليدُ فيها بَيِّنٌ وما دوّنها في ديوانه أحدٌ من الثقات وأحسبُها ممّا صنعه دارم [أي دارم بن عقال] لأنه من وُلد السّمَوءَل (2) أو ممّا صنعه مَن روى عنه من ذلك فلم تُكتـَبْ هنا} انتهى. وأردت بهذا المثال أن أشير إلى ترفّع صاحب الأغاني عن تدوين قصيدة طويلة لاٌمرئ القيس مشكوكاً في نسبها له! وفي رأيي أنّ صاحب الأغاني في كتابه قد أنصف امرأ القيس بقوله (لأنها لا تُشاكل كلام امرئ القيس) فضلاً عن الغلط الإعرابي الواضح في البيت المذكور وتحديداً علامة إعراب الفعل "تطرُق" إذ وجب أن يُرفع لتجرّده عن الناصب والجازم- ولم أجد مثل هذا التجاوز في ما قرأتُ من شعر لاٌمرئ القيس، علماً أنّ الضرورة الشعرية- كما أشرت من قبل- يجب ألّا تضطرّ الشاعر إلى الوقوع في غلط نحوي أو صرفي فتفقده صفة التمكن من نظم الشعر.

أمّا بعد فأكتفي بتسجيل بضع ملاحظات في شعر اٌمرئ القيس، متصفِّحاً كتاب الأب لويس شيخو اليسوعي "شعراء النصرانية" وتحديداً في الجزء الأوّل- القسم الأوّل في شعراء اليمن- والذي عثرت عليه في مكتبة التمدن التي في موقع الحوار المتمدن، ذلك للمقارنة بين القصائد المنسوبة إلى امرئ القيس والتي وردتْ متفرّقة في كتب الأعلام الذين ذكرتُ عدداً منهم أعلى أو مجتمعة (وأقول هامساً: من المتوقع أنْ يجدَ غيري من المهتمّين سبيلاً آخر للمقارنة أو أوجُهاً أخـَر) فممّا لاحظت: إنّ قصيدة "تعلّق قلبي" التي وصَلنا منها خمسة وخمسون بيتاً ومطلعها: (لِمَـنْ طلـَـلٌ بَيـْن الجُدَيَّـةِ والجَبَـلْ *** مَحَلٌ قدِيمُ العَهْدِ طالـتْ بهِ الطِّيَـلْ) قد لفتت انتباهي إلى شؤون يبدو فيها التشابه جليّاً بينها وبين سواها من القصائد المنسوبة لاٌمرئ القيس:

أ- للشاعر قصيدة وصفيّة- من بحر الطويل- يبدأها البداية عينها أي "لِمَـن طللٌ" وهي تلك التي مطلعها:
لِمَـن طللٌ أْبْصرْتُهُ فشَجَاني *** كخطّ زبورٍ في عَسِيب ٍ يَمانِ
ديارٌ لهندٍ والرّباب وفـَرْتـَنا *** ليَاليَنا بالنعْفِ من بَدَلانِ
فنقرأ في كتاب "شعراء النصرانية" المذكور {1 قال ابن قتيبة: الزبور ههنا الكتب [قلت: بل هي سِفر المزامير في الكتاب المقدّس] وقوله (في عسيب يمان) كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة عهودهم وصكاكهم [قلتُ: هذا أحد الأدلّة على أنّ الشعر العربي قد أمكن تدوينه قبل ظهور الإسلام، سواء في اليمن والجوار] 2 قوله (ديارٌ لهندٍ) ذكر أنّ بهذا الطلل كانت هند وصواحبها مُقيمات فيه زمن الربيع. والنعف: ما انحدر من الجبل وارتفع عن الوادي والجمع: نِعاف. و(بدلان) موضع} انتهى
علماً أنّ للشاعر قصيدة من الطويل أيضاً، مذكورة أيضاً في ص 66 في كتاب "شعراء النصرانية" ذات قافية مشابهة ولكن بتفعيلة مختلفة، تذكّرنا بمعلّقته "قفا نبكِ" وبالزبور وغيرها وقد أنشدها (وكان معتلّ الصّحّة) بطريقه إلى قيصر ملك الرّوم: قفا نبكِ من ذكرى حبيب وعِرفانِ *** ورسْمٍ عَفتْ آياتهُ منذ أزمانِ
أتتْ حِجَجٌ بعدي عليهِ فأصبحَتْ *** كخطّ زبور في مَصَاحِفِ رُهبانِ

وقال يصف داءه بأنقرة- ص 50 في الكتاب ذاته- من بحر المتقارب:
لِمَـن طللٌ داثِرٌ آيُهُ *** تقادَمَ في سالف الأحرُسِ
فإمّا ترَيْنِيَ بيْ عُرّة ٌ *** كأنّي نكِيبٌ من النّـِقرِسِ
وصَيّرَني القـَرْحُ في جُبّةٍ *** تُخالُ لبـِيساً ولمْ تُلبَسِ
ترى أثر القرحِ في جـِلْدِهِ *** كنقش الخواتمِ في الجـِرجـِسِ

ويذكُرُ الشاعرُ الطللَ في مطلع قصيدة أخرى تُعَدّ من محاسن قصائده:
ألا عِمْ صباحاً أيّها الطلل البالي *** وهلْ يَعِمَنْ مَن كان في العُصُر الخالي
وقد أشاد بها د. طه حسين (1973-1889) ص 153 في كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أنجزه بتاريخ 18 مارس سنة 1926 بقوله: {ولعل أحقّ هذا الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان: الأولى "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" والثانية "ألا اٌنعمْ صباحاً أيها الطلل البالي" فأمّا ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بيِّن والتكلّف والإسفاف فيه يكادان يُلمَسان باليد... إلخ} انتهى. وتكفي هذه الإشادة من عميد الأدب العربي شهادة بأنّ امرأ القيس شخصيّة حقيقيّة، حتى لو اعتبر القصائد الأخرى المنسوبة له منتحلة [ومن هنا سأبدأ حديثي جواباً على ما ورد في المداخلتين أعلى حول الشعر المشكوك به أو المنحول] فإنّ لعميد الأدب نظرة خاصّة أحترمها وهي قوله في مقدّمة كتابه المذكور: {نعم، يجب حين نستقبل البحث في الأدب العربي أن ننسى عواطفنا القوميّة وكلّ مشخّصاتها، وأن ننسى عواطفنا الدينية وكلّ ما يتصل بها، وأن ننسى ما يضادّ هذه العواطف القومية والدينية. يجب ألّا نتقيّد بشيء، ولا نذعن لشيء إلّا لمناهج البحث العلمي الصحيح...} انتهى. وهذا القول جدير عندي بالإحترام من حيث المبدأ، قلت: عسى أن يكون الكاتب أميناً في طرحه وصادقاً في عواطفه، لقد قرأت كتابه على هذا الأساس فاتفقت معه في محلّ ما واختلفت في محلّ آخر. وإنّ لعميد الأدب ظرفاً خاصّاً (في ذلك الزمان) جديراً بالتقدير وموقفاً ذكيّاً وشجاعاً ومحدّداً وقفهُ سواءٌ بكتابه المذكور (الذي عُدِّل اسمه إلى "في الأدب الجاهلي" بعد حذف أربعة مقاطع من فصول كتابه الأصلي أو خمسة والتي- نقلاً عن ويكيبيديا- قاضى بها عددٌ من علماء الأزهر طه حسين، إلا أنّ المحكمة برّأته إذ لم يثبت تعمّد الكاتب الإساءة للدين أو للقرآن) وموقفه الذي ثبت عليه في ما بعد انتشار الكتاب. أمّا موضوع اعتبار د. طه حسين أكثريّة الشعر الجاهلي منحولاً فقد كان للعميد رأيٌ فيه وأسباب ودلائل وكان له مؤيّدون ومعترضون (من وزن ثقيل أدبيّاً ودينيّاً وسياسيّاً) ويبقى تالياً لكلّ باحث غيره رأيٌ حُرّ أو مقيّد!
لكنّي لاحظت أنّ العميد (آنذاك) قد تعرّض بشدّة لشعراء “جاهليّين” يُعتبَرون من شعراء النصرانية كاٌمرئ القيس وعمرو بن كلثوم التغلبي ولأميّة بن أبي الصلت المعروف من الحُنفاء وللسّمَوءَل وهو شاعر جاهلي يهودي، في وقت أثنى على شعر زهير بن أبي سُلمى {الذي دخل ابنه كعب في الإسلام (تائباً) فأنشد قصيدة البُرْدة} وشعر لبيد بن ربيعة العامري المعروف من “المؤلّفة قلوبهم” والقارئ اللبيب يعرف مقصدي بعد ما تقدّم. ليس ذلك فحسْب، بل أنظر كيف نقل طه حسين في الكتاب عينه معلومة مهمّة وهي مقولة (ما لسان حِمْـيَر وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيّتهم بعربيّتنا) المنسوبة إلى أبي عمرو بن العلاء (ت 154 هـ) نقلها محمد بن سلام الجمحي (ت 232 هـ) في كتابه (طبقات فحول الشعراء) فجَعَلها طه حسين هكذا {ما لسان حِمْيَر بلساننا، ولا لغتهم بلغتنا} لكي يزيد في الإختلاف بين لغة حِميَر خصوصاً والقحطانيين (العرب العاربة) عموماً وبين لغة العدنانيين (العرب المستعربة، المُستعارة لغتهم من القحطانيين- بحسب د. طه حسين في كتابه) ما تمّت مؤاخذته عليها في المحكمة ذاتها التي برّأت ساحته.

وبالعودة إلى كيفية امتداح لبيد، نقرأ في كتاب "حديث الأربعاء" الذي أنجزه د. طه حسين بتاريخ 17 يناير 1925 "ساعة مع لبيد" ص 32-33 : {فأمامك قصيدة لبيد هذه، فأرني كيف تُقدّم فيها وتؤخر؟ وكيف تضع فيها" بيتاً مكان بيت دون أن تفسد معناها إفساداً، وتشوّه جمالها تشويهاً؟ أنظر إليها، فسترى أنها بناء مُحْكم، لا تغيّر منه شيئاً إلّا أفسدت البناء كلّه ونقضته نقضاً...} إلى قوله: {وأنت تستطيع أن تقرأ هذا القسم من أقسام القصيدة، فسترى أنك لا تستطيع أن تقدّم فيه ولا أن تؤخّر، وإنما أنت مضطرّ إلى أن تدعه كما وضعه صاحبه:
عَفتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فمُقامُهَا *** بمِنىً تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فرِجَامُهَا
فمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا *** خلقاً كمَا ضَمِن الوُحِيَّ سِلامُهَا
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدِ أنِيسِهَا *** حِجَجٌ خلوْن حَلالُهَا وحَرَامُهَا
[قوله (وإنما أنت مضطرّ إلى أن تدعه كما وضعه صاحبه) يدلّ على أنّ لبيداً- في نظر عميد الأدب العربي شاعرٌ حقيقي وأنّ شعر لبيد غير منحول]
أضاف د. طه حسين: {لا تجزع لهذه الألفاظ والأسماء التي تراها في هذه الأبيات، فالله عزّ وجلّ لا يكلّف نفساً إلّا وسْعها. وقد كان لبيد يعيش في بادية نجْد، ولم يكن يعيش في مدينة القاهرة ولم يكن قادراً على أن يسمّي أماكن نجد بغير أسمائها... إلخ} انتهى.

أمّا عن ثنائه على شعر زهير وإطرائه فنقرأ "ساعة مع زهير" في "حديث الأربعاء" أيضاً ص 86-87 ج1: {ولستُ أحِبّ أن أقف من كلّ هذا القسم الجميل من قصيدة زهير إلّا عند قطعتين اثنتين، إحداهما هذه التي يصف فيها الحرب فيقول:
فمِن مُبلِغ الأحْلاَفَ عَنِّي رِسَالَة ً *** وَذُبْيَان هَلْ أقسَمْتمُ كُلَّ مُقْسَمِ
فلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفوسِكُم *** لِيَخفى وَمَهْمَا يُكتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤخَّرْ فيُوضَعْ في كِتَابٍ فيُدَّخَرْ*** لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فيُنْقَمِ
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتمْ وَذقتُمُ *** وَمَا هُوَ عَنْهَا بالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذمِيمَةً *** وَتَضْرَ إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فتَضْرَمِ
فتَعرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفالِهَا *** وَتَلقح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فتُتئِمِ
فتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَان أَشْأَمَ كُلُّهُمْ *** كأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فتَفْطِمِ
فتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِلُّ لأَهْلِهَا *** قُرَىً بالْعِرَاقِ مِنْ قفِيزٍ وَدِرْهَمِ

وأمّا القطعة الثانية فهي قصة حُصَيْن بن ضَمْضَم هذه التي صوّرها أجمل تصوير وأروعه وأصدقه في تمثيل حياة أهل البادية، فحصين بن ضمضم هذا موتور، قد قُتِل أخوه في بني عبس، وقد تصالح القوم، واستقرّت بينهم السّلم، ولكنه لم يرض عن الصلح، ولن يرضى حتى يثأر لأخيه، فهو يكتم أمره في نفسه، وينتظر حتى تسنح له الفرصة، وما أسرع ما تسنح له الفرصة! وإذا هو يظفر برجل من عدوّه فيقتله، لا خائفاً ولا متأثماً، فهو يعلم حق العلم أنّ قومهُ لن يخذلوه، وكان يعلم حق العلم أنّ قومه سيمنعونه من اقتراف الإثم إن علموا به قبل وقوعه، فليكتمهم الأمر إذن، وليضعهم أمام الأمر الواقع كما يقول المحدثون؛ وها هو ذا قد فعل، وهؤلاء عدوّه قد ركبوا يطلبون القصاص، وهؤلاء قومه قد أزمعوا نصر صاحبهم، ولكنّ هرماً والحارث يكرهان الحرب، ويريدان لقومهما السلم، فهما ينهضان بجناية حصين حتى يُرضيا عبساً. فانظر كيف صوّر زهير هذه القصّة:
لَعَمْرِي لـَنِعْمَ الحَيُّ جَرَّ عَليْهِمُ *** بمَا لاَ يُوَاتِيهِم حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَمِ
وَكان طَوَى كشْحًا عَلى مُسْتكِنَّةٍ *** فلاَ هُوَ أبْدَاهَا وَلَم يَتجمجم
وقالَ: سَأَقضِي حَاجَتِي ثُمَّ أَتَّقِي *** عَدُوِّي بأَلْفٍ مِنْ وَرَائِيَ مُلجَمِ
فشَدَّ وَلَمْ تفْزَعْ بُيُوتٌ كثِيَرةٌ *** لَدَى حَيْثُ أَلْقتْ رَحْلَهَا أُمُّ قشْعَمِ
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِلاحِ مُقذَّفٍ *** لهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقلَّمِ
جَرِيءٍ مَتَى يُظْلمْ يُعَاقِبْ بظُلْمِهِ *** سَرِيعاً وَإلّا يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
ألست ترى في هذه الأبيات أجمل صورة وأكملها للرجل البدوي، الذي يجمع إلى الشجاعة والإقدام، مكراً ودهاءً وثقة بالنفس، واعتماداً على القبيلة وقدرة على الكتمان؟} انتهى. ولديّ المزيد ممّا يمكن إثارته، أحتفظ به للمستقبل وأتحفظ على بعضه، لكني أدعو إلى قراءة كتابَيه المذكورَين- في الشعر الجاهلي وحديث الأربعاء- لما فيهما من فوائد لغوية وأدبية وعلمية جمّة. أمّا العلّامة د. جواد علي (1907-1987) المفكر العراقي والمؤرخ فيؤسفني أني لم أتفرّغ إلى قراءة كتبه حتى مناسبة أخرى.

ب- إنّ لاٌمرئ القيس أبياتاً في مدح بني ثـُعَل (مذكورة في ص 56 في كتاب شعراء النصرانية) من وزن "تعلّق قلبي" ذاته والقافية عينها وحرف الرّويّ كذلك، أوّلها: أواثُعَلاً وأين منّي بنو ثُعَلْ *** ألا حبّذا قومٌ يَحُلّون بالجَبَلْ
وآخرُها: فأبْلِغْ مَعَدّاً والعِبادَ وطيّئاً *** وكِندة أنّي شاكرٌ لبنيْ ثعلْ
نلاحظ أنّه ابتدأ بثعل وانتهى بثعل وسنرى انتهاءه بمثل ما بدأ به في قصائد أخرى، بالإضافة إلى ملاحظات أخرى وما تبقى لديّ من أجوبة على المداخلتين المذكورتين في بداية المقالة، لكنْ في القسم الثاني من هذا البحث- قريباً جدّاً
_____________________

(1) ليدي آن بلنت: حفيدة الشاعر البريطاني الشهير لورد بايرون- الوحيدة- كانت من أهم الرحّالة في القرن التاسع عشر وأوّلهم في جزيرة العرب. رافقت زوجها (فلفريد شافن بلنت) في رحلته إلى العراق والجزيرة العربية ودخلت حائل في عهد إمارة الأمير محمد بن عبد الله الرشيد وسجّلت مذكراتها التي لا تزال تعتبر من أهم المصادر التاريخية عن تلك الفترة. كانت رسّامة وشاعرة ومُحبّة للعالم العربي، حتى انتهت حياتها في مصر حيث توفيت ودفنت.

(2) في ويكيبيديا: {هو السموأل بن غريض بن عادياء الأزدي شاعر جاهلي يهودي حكيم واسمه مُعَرّب من الاسم العبري شْمُوئِيل שְׁמוּאֵל من شِيم: اسم، إيلْ: الله، أي سمّاه الله. عاش في النصف الأول من القرن السادس الميلادي. من سكان خيبر، كان يتنقل بينها وبين حصن له سمّاه الأبلق وكان الأبلق قد بُنِي من قِبَل جدّه عادياء. أشهر شعره لاميّته وفيها:
تعَيِّرنا أنّا قليل عديدنا *** فقلت لها إنّ الكرامَ قليلُ
وما ضرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا *** عزيز وجارُ الأكثرين ذليلُ
إذا المرءُ لم يدنس من اللؤم عِرْضَهُ *** فكـلّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ

البعض ينسب القصيدة لغيره [تعليقي: لمن ينسبونها ولماذا!؟]
له ديوان صغير. وهو الذي تنسب اٍليه قصة الوفاء مع امرئ القيس. حيث قدِم اليه كبيرُ شعراء الجاهلية (امرئ القيس بن حجر الكندي) وكان قد عجز عن الاخذ بثأر أبيه وكان قد عزم الذهاب إلى قيصر الروم ليستنجد به لعلّ قيصر الروم يُخرج معه جيشاً يساعده على ذلك، فذهب أوّلاً إلى السمؤال وأمّنه أدراعاً ثمينة لا مثيل لها، كما ترك عنده أهله. وسار بعد ذلك امرؤ القيس إلى قيصر الروم. وبعد حين طوَّق حصن السمؤال أحدُ الملوك ممن له ثأر على امرئ القيس، فسأله السمؤال عن سبب تطويقه لحصنه؟ فقال الملك: سأغادر الحصن بمجرد تسليمي أدراع امرئ القيس وأهله، فرفض السمؤال ذلك رفضاً قاطعاً، وقال: "لا أخفر ذمّتي وأخون أمانتي" فظلّ الملك مُحاصِراً الحصن حتى ملّ. وفي أثناء ذلك جاء أحد أبناء السمؤال من رحلة صيد وفي طريقه إلى الحصن قبَضَ عليه الملكُ ونادى السّموءَل: هذا ابنك معي فإمّا أن تسلّمني ما لديك وإمّا أقتله! لكنّ السَّموءَل- على رغم عنف التهديد- رفض تسليم الأمانة فذبح الملك ابنه أمام الحصن وعاد بجيشه من حيث أتى، من غير أن يحصل على بُغيته. فقال السمؤال [من بحر الوافر]:
وفيتُ بأدرُع الكنديّ إني *** إذا ما خان أقـوامٌ وفيـتُ} انتهى.
ويجد القرّاء الكرام في سيرته التي في ويكيبيديا مثالاً آخر عن الوفاء عندما أجار الأميرة ابنة الملك المنذر.

* تنويه لطفاً- رُبّ سائل يسأل: (لماذا كتبتَ اسم الشاعر هكذا؛ مرّة هو "امرؤ القيس" وفي أخرى "امرأ القيس" وبشكل "امرئ القيس" في ثالثة؟) قلتُ: بحسب إعراب الإسم فالأوّل لأنّه في حالة الرفع والثاني لأنّه كان منصوباً والثالث لأنّه كان مجروراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الخارجية السورية: العمل مستمر في جميع الممثليات الدبلوماسية


.. لما أحمد أمين وحمدي المرغني يمثلوا في فيلم واحد ?? يا ترى هي




.. السيدة انتصار السيسي وقرينة سلطان عُمان تزوران دار الأوبرا ا


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: على الحلوة والمرة أشت




.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت- الشاعر سيد مرسي - الأحد 8