الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرائم الياقة البيضاء

مرح البقاعي

2010 / 3 / 4
العولمة وتطورات العالم المعاصر


قام عالم السوسيولوجي الأميركي إيدوين سوذيرلاند، وهو الأشهر بين المختصّين في علم الجريمة في القرن العشرين، بتعريف الجرائم التي ترتكب بشكل مهني عالٍ، ومن داخل مقرّات ومكاتب العمل، بجرائم "الياقة البيضاء"White Collar Crimes . هذا كان في العام 1949.

ومنذ شرعت وزارة الدفاع الأميركية في استخدام الإنترنت للمرة الأولى، في العام 1969، لأغراض عسكرية حربية تهدف إلى حفظ خطوط الاتصال وإمكانية استمرار التواصل في حالة تدمير بعضها، ومن ثم تحوّله إلى أغراض الاستعمال المدني في العام 1983، واكبت ثورةَ الاتصالات العولمية تلك ثورةٌ معرفية ساهمت في انتقال لحظي للمعلومة بين مستخدمي الإنترنت في جهات الأرض الأربع.

موازاةً للطفرة المعرفية والعلمية للإنترنت، ظهرت أعمال تخريبية عبر الشبكة العالمية، تطورت إلى ما يشبه الجريمة العالمية المنظّمة، وانسحبت عليها تسمية "جرائم الياقة البيضاء". أما الشكل المبسّط والفردي من هذه الجرائم فلا يتطلب ارتكابه سوى معرفة مبدئية باستخدام جهاز الكمبيوتر وكيفية توجيه رسائل إلكترونية إلى الجهة المستهدفة أو نشر معلومات مسيئة بشكل غير قانوني عبر مواقع شبكة الإنترنت. من هذه الجرائم، على اختلاف حجمها وضررها، تقع جرائم اختراق الخصوصيّة والقرصنة المصرفية وانتحال الشخصية وخدش الأخلاق العامة. ولمكافحة تلك الجرائم وملاحقة مرتكبيها ومعاقبتهم، سُنّت قوانين صارمة وأحكام قضائية رادعة؛ فمكتب التحقيق الفيدرالي في وزارة العدل الأميركية، على سبيل المثال لا الحصر، أسّس هيئة خاصة للجرائم الإلكترونية وموقعا إلكترونياً أشبه بغرفة طوارئ للتدخل السريع في شكاوى جرائم الإنترنتThe Internet Crime Complaint Center (IC3). ومن أحدث الجرائم الدولية لاختراقات الإنترنت هو ما ارتُكب في الصين مؤخراً من هجمات إلكترونية منظمّة على محرك البحث العملاق غوغل، ما أدى إلى أزمة حقيقية بين الولايات المتحدة والحكومة الصينية، ولجوء القائمين على موقع غوغل إلى التعاون مع وكالة الاستخبارات الأميركية من أجل حماية المعلومات على الموقع، وكذا خصوصية الملايين من المشتركين في خدماته.

ما قادني إلى الكتابة عن هذا الموضوع هو تلك الحملة الإلكترونية التي تعرّضتُ لها مؤخرًا، على غير موقع إلكتروني، تم خلالها انتحال اسمي، واستخدامه زوراً، في تعليقات متضاربة وركيكة مبنىً ومعنىً، ذُيّلت بها مقالات تناولت قضايا الشعب الكردي الذي يربطني به مدّ عاطفيّ إنسانيّ يجعلني متناغمةً مع موروثه الثقافي الثّر، مؤيّدةً لحقه كاملاً في ممارسة لغته وطقوسه وأعياده، وكذا امتلاك مقادير حاضره ومستقبله على أرضه التاريخية.

أثار انتباهي إلى هذه التعليقات اتصال هاتفي تلقّيته في منتصف ليل يوم الخميس الفائت من صديقة "غيورة" على اسمي، تسألني، متوجّسة، في ما لو كنت أنا من كتب تلك التعليقات ـ التي كانت قد انتشرت وتناقلتها الدياسبورا الكردية في المغترب بسرعة متناهية ـ أم أنها تعليقات مدسوسة باسمي؛ ووجدتها تجيب بنفسها عن تساؤلاتها حين قالت: "مرح، لقد استُخدمت مفردات ومصطلحات هي من ضمن قاموسك اللغوي الذي يحمل بصمتك وحدك، ولكنها صيغت في عبارات ركيكة لا تَمُتّ إلى لغتك بِصِلة".

سارعت في الليلة ذاتها إلى إرسال إيميل عاجل إلى محرر القسم الذي نشر التعليقات المعنية على الموقع الأكثر شهرة بين المواقع الإلكترونية الإعلامية العربية، أطلب منه حذف التعليقات لأنها مزورة أصلاً، وهي منافية لنهجي السياسي والفكري وتسيء بشكل مباشر إلى موقفي من القضايا الإنسانية التي أتبنّاها وأدافع عنها.

لم يلتفت القائمون على الموقع إلى رسائلي، ولم يراعوا خطورة الموقف الإعلامي والسياسي لانتحال اسم شخصية عامة والإدلاء بتصريحات باسمها، دونما علم منها، واستمروا في نشر هذه التصريحات، ليطّلع عليها "الآلاف" من قرائه ـ والرقم منسوب إلى عدد متصفّحي الموقع الذي وصل إلى 924,312 متصفح، كما وصل عدد الصفحات المقروءة إلى 14,169,792 صفحة في شهر كانون الثاني 2009 حسب إحصاء أجرته مؤسسة Audit Bureau of Circulation، ما يجعل الضرر الواقع عليّ وعلى اسمي مؤلَّفاً!

فصل المقال يقع في نقاط ثلاث:
1- إن العمل الصحافي، وما يتأسس عليه من ضرورة إتباع السياقات المهنية والأخلاقية في نشر المواد الصحافية والتعليقات الخاصة بالقراء، إنما يفرض على المشتغلين فيه الالتزام بالدّقة والمصداقية في نقل المعلومة وتداولها عبر وسائل الإعلام المكتوبة أو المرئية أو المسموعة، وعبر تلك الأعلى خطورة والأوسع انتشاراً ـ الإنترنت.
2- إن سوء استخدام الإنترنت، سواء كان نتيجة سذاجة معرفية أو جهل مهني، أم جاء عن عمد وترصدّ بهدف الإساءة وإلحاق الضرر، إنما هو جريمة مكتملة الحيثيات، فاعلها (في حالة انتحال الشخصية) كائن عصابيّ يعاني من أوهام الكبت والشيزوفرينيا المزمنة، ما يدفعه إلى إخفاء عجزه خلف أقنعة مختلسة من عالم "الافتراض" المنشور عبر القارات.
3- إن الرجاجة المهنية وغياب المسؤولية الأخلاقية في تسيير بعض وسائل الإعلام، وغياب القوانين والتشريعات الجنائية والمحاسبات القضائية موازاةً مع تراجع الضابط الأخلاقي والرادع الضميري لمرتكبي هذه الجرائم، إنما هي إشارات ناذرة، تشكّل مجتمعة بيئة خصبة لنمو الطفيليات الضارة التي تعتاش على جسد شجرة المعلومات الكونية الوارفة، والتي هي ملك المجتمعات البشرية قاطبة، ومن واجب هذه المجتمعات، أفراداّ ومؤسسات، حمايتها من هجمات أصحاب الياقات البيض.

قرأت أمس خبراً مبشّراُ مفاده أن المستشار القضائي المصري، رشدي عيد، حصل في وقت سابق من هذا الشهر على درجة الدكتوراه بامتياز عن دراسة قانونية مقارنة تحمل عنوان: الحماية الجنائية للمعلومات على الإنترنت. عنيت هذه الدراسة بكيفية تطبيق الحماية الجنائية للمعلومات على الإنترنت، وذلك من خلال بيان مفهوم الإجرام المعلوماتي على الشبكة، وتحديد المقصود بالجرائم المعلوماتية والمجرم المعلوماتي، وبيان جرائم الضرر وجرائم الخطر، مع عرض لموقف الفقه والقضاء والتشريع المقارن من حماية المعلومات، وكذا تحديد نظم المسؤولية الجنائية من جهة، والمعنوية من أخرى، عن جرائم المعلومات.
هذه خطوة أكاديمية رصينة، والتفاتة طامحة، قد توازي حجم الضرورات التي أنتجتها، وتواكب فداحة الخطر المترتّب عن جرائم متّصلة، تقترفها خفافيش الفضاء الإلكتروني، بلا رادع ولا حسيب.

سلام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصائل المقاومة تكثف عملياتها في قطاع غزة.. ما الدلالات العسك


.. غارة إسرائيلية تستهدف مدرسة تؤوي نازحين بمخيم النصيرات وسط ق




.. انتهاء تثبيت الرصيف العائم على شاطئ غزة


.. في موقف طريف.. بوتين يتحدث طويلاً وينسى أنّ المترجم الصينيّ




.. قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مخيم جباليا