الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في بلاغة المكان والزمان

أحميدة عياشي

2010 / 3 / 9
الادب والفن


لم أر المكان الذي فتحت فيه عيني على الدنيا منذ زمن، لم أر أناسه منذ زمن•• يا ترى هل هم على قيد الزمان، وعلى قيد المكان، هل المكان لا زال على قيد الزمان•• قد يكون تحول، والأناس أيضا يكونون قد تحولوا•• قد اختفوا، قد رحلوا إلى أمكنة أخرى مثلما أنا انتقلت وتحولت•• وقد يكونون قد تاهوا في المكان، وصاروا علامة واحدة متدثرة بالأطياف والأصوات والأصداء•••
كيف لي أن أملك من جديد كل ذلك المكان والزمان الذي انطوى مع الأيام؟! الإستذكار؟! لأحاول•• كان الشارع الذي فتحت عيني فيه أشبه بأفعى ملتفة حول نفسها، أو أشبه بهلال•• يطل مدخله على شارع اسفلتي عريض يؤدي إلى غابات بحيرة سيدي محمد بن علي وأيضا في الجهة المعاكسة إلى وسط مدينة سيدي بلعباس•• كان شارعا متربا، مرصوصا بالبيوت الحجرية المتلاصقة كالفقاقيع•• المنزل رقم واحد، كان بابه أزرقا وكانت تقطنه عائلة سي صالح، والدهم كان يتجاوز الخمسين، يرتدي لباسا أسودا ويضع على رأسه الأصلع بيري أسود، وبالرغم أنه يسكن في عمق شارع عتيق إلا أنه ربى أولاده على الطريقة الفرنسية، وفي مقابل المنزل رقم واحد، كان منزل جدي عياشي الذي توفي عن عمر يتجاوز الخامسة والتسعين، سافر وهو شاب إلى فرنسا وناضل في صفوف مصالي الحاج، كانت اللكنة الأمازيغية تطغى على كلامه بالعربية الدارجة، وكان محبا للمبارزة، زوجته فاطمة ذات البشرة السوداء كانت تركن إلى الصمت في جميع الأحوال، وكنت أتشوق إلى ضحكاتها التي كانت نادرة طيلة سنواتها الثمانين•• أما المنزل رقم ثلاثة، فكان مرتفعا، ذا لون أزرق، وكانت تقطنه عائلة غاسول، منذ أيام أخبرتني والدتي أن إحدى بناتهم ماما توفت، وأيضا والدتها رحلت عن دنيانا، والأبناء الآخرون؟! كلهم تفرقوا•• في حين أن يامنة، أيضا لم أعد أعرف عنها شيئا•• أتذكر ذلك اليوم الذي أحبت فيه أحد شبان الشارع العتيق، كانت تريد الزواج به، لكن أسرتها رفضت وأغلقت عليها البيت، فما كان من يامنة إلا أن وضعت الرهج في الحليب الذي كان يتناوله والداها•• وكادا أن يفارقا الحياة، وأتذكر ذلك اليوم كيف خرجنا نحن من بيوتنا وتجمهرنا أمام المنزل الذي امتلأ برجال البوليس الذين قادوها في سيارة بيضاء••• وبين منزل غاسول ومنزل المازوزي كانت تقبع زاوية صغيرة تضاء فيها كل مساء شمعة وذلك لطرد كل الأرواح الشريرة، وكانت الزاوية تسمى بزاوية سيدي محمد••• وكلما كنت أمر على الزاوية في الليل لأقضي بعض الحاجات من حانوت بوزيان، كان قلبي يخفق وتتصاعد دقاته من الخوف، كنت دائما أخشى أن تخرج الجنون من زاوية سيدي محمد التي طالما حكت لي عنها جدتي•• كان المازوزي سكيرا، والغريب أن منزله كان ملاصقا للعمري، وهو رجل موشم الذراعين، ثخين، كرشه متدلية، وكان يتنافس مع المازوزي على الأكل•• وكانا عندما يثملان يحولان الشارع إلى مكان للشجار والصراع••• ثم هناك بيت عمتي التي توفيت وتركت زوجها حمو وراءها وأولادها وبناتها•• كان حمو متسابقا في رياضة السيكليزم•• كانت ملامحه أقرب إلى ملامح الإسبان•• وكان هو أيضا يتحدث الإسبانية وعاشق للغجر••• يوم كان يحتضر كنت لا أفارق سريره•• كان يهذي، يغرق في كلام غائم، ثم يفتح عينيه ليسأل عن دراجته وعن أصحابه ثم يعود إلى هذيانه الطويل••• ويوم توفي خرج كل الشارع إلى جنازته، وكانت الجنازة الأولى في حياتي التي مشيتها خلف النعش الذي وضعوه على سيارة خضراء، كتب عليها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية••• كان الموكب مهيبا•• وكان الكبار يقرأون البردة بصوت جنائزي لا زالت أصداءه تتردد في مغاور ذاكرتي••• ثم هناك الحياة التي كنت أراها كل صباح تتجلى في تلك العادات والكلمات والعبارات التي قد تكون هي بدورها قد رحلت••• هل كان كل ذلك الزمن والمكان مجرد طيف؟! مجرد لحظات عابرة؟!
إن المكان مثل الزمان هو شيء غير خارج عنا، غير قابع هناك••• بل هو بمروره يزداد ثباتا واستقرارا فينا وفي أعماقنا••؟! إن المكان هو شكل من أشكال الروح التي قد يختفي ملمحها ويضمحل صداها ويتيه لكنها تبقى تتجدد كالعود الأبدي في كل ذرة من ذرات كياننا ووجودنا•••
احميدة عياشي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟