الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المتقاعد

نضال الصالح

2010 / 3 / 10
الادب والفن


رن جرس المنبه في الساعة السادسة صباحا كالمعتاد، نهض من فراشه وذهب إلى الحمام، وقف تحت الدوش طويلا ثم نشف نفسه، حلق لحيته وسرح شعر رأسه وعاد إلى غرفته. أخرج من الخزانة قميصا أبيضا نظيفا وبدلة داكنة وانتقى ربطة عنق ملائمة، لبس القميص وربط ربطة العنق ثم لبس البدلة . نظر إلى نفسه في المرآة وابتسم إبتسامة الرضى ثم خرج من غرفة النوم بهدوء حتى لا يزعج زوجته. سمعها تناديه سائلة: "إلى أين أنت ذاهب في هذا الوقت المبكر؟" أجابها متعجبا من سؤالها: " إلى العمل". صاحت من داخل الغرفة المغلقة:" ولكنك أحلت على التقاعد وانت الآن متقاعد والمتقاعد لا يذهب إلى العمل ولكنه ينام إلى وقت متأخر ولا يقوم مبكرا. إرجع إلى السرير يا رجل وأرح جسدك فلقد عملت أعواما طويلة وآن لك أن ترتاح."
صمت قليلا ثم قال: " لقد طلب مني المدير الحضور، يريد أن يستشيرني بأمر هام وعلي أن أذهب ولا أريد أن أتاخر".
خرج من البيت واضعا حقيبة العمل تحت إبطة، لاعنا نفسه على كذبه على زوجته وهو الذي لم يكذب عليها في حياته أبدا. تذكر كيف طلبه أمس المدير وقدم له ضمة ورد وعلبة حلويات وشكره على خدماته، تمنيا له تقاعدا سعيدا. جاءه زملاءه في العمل وودعوه وتمنوا له الخير والصحة والسعادة وعلق بعضهم أنهم يحسدوه، فلم يعد مضطرا للقيام في الصباح الباكر والتنقل في الباص المزدحم بالموظفين المسرعين إلى وظائفهم وأضاف " نيالك يا عم."
ركب باص البلدة، إشترى تذكرة من السائق وجلس على مقعد في الخلف. كان يشعر كأنما جميع من في الباص يراقبونه ويتسائلون،" ما الذي يفعله هذا المتقاعد في باص الصباح وأين هو ذاهب؟
وقف الباص كالمعتاد في المحطة المقابلة لمكان عمله، قام من مقعدة وتوجه نحو باب الباص وخرج متسللا وتوجه نحو مكان عمله. وقف مترددا وشعر بالرجفة في ساقيه وأن ساقية ماعادت قادرة على حمله. " ماذا تريد، فلم تعد تعمل هنا؟" سأل نفسه وحاول أن يجد لزيارته تبريرا. " زيارة ودية للزملاء، أكيد أنهم سيرحبوا به." جمع قواه، فتح الباب ودخل إلى القاعة الصغيرة حيث مكتب الإستعلامات والحارس. سأله موظف الإستعلامات عن هوية العمل ولكنه لم يكن يحمل هوية العمل فلقد سلمها عند مغادرته العمل بعد إحالته على التقاعد. سأله الموظف عن هويته الشخصية وسبب زيارته وإسم الموظف الذي يرغب في زيارته. أجاب بأنه يعمل هنا منذ ثلاثين عاما. سأله الموظف عن إسمه وطلب من جديد هويته الشخصية فقدمها له. نظر الموظف في الهوية وبحث في الحاسوب الذي أمامه ثم نظر إلى صاحبنا وقال:" أنت متقاعد وما عدت موظفا هنا، إن كنت تريد زيارة أحد هنا أعطني إسمه وسأتصل به ليأتي إليك." نظر صاحبنا إلى موظف الإستعلامات بإستغراب ثم خطف من يده هويته الشخصية وهرول خارجا إلى الشارع ودموعه تنهمر من عينيه. " كل تلك السنين لم تسمح له بالدخول وزيارة زملائه." وقف في وسط الشارع تائها محتارا وكان الناس يمرون من حوله في كل الإتجاهات، كل مسرع إلى عمله.
وجدته جالسا على مقعد خشبي في الحديقة العامة. كان الطقس باردا وكان ملتفا بمعطفه، محني الظهر، متكئا بلحيته على عصا. طرحت عليه السلام فأشار لي أن أجلس دون أن ينطق بكلمة، فجلست إلى جانبه. سألته ما الأمر وإن كان مريضا لأنني شعرت من صوته حين هاتفني بأنه في مشكلة لم أدر كنهها. قال: " لقد أحالوني على التقاعد." قلت له: مبروك"، فأجابني بحدة: " أي مبروك هذا الذي تقوله. لقد عملت طيلة حياتي والآن لا أدري ماذا أعمل وكيف أقضي وقتي." قلت له بأنه وقد أحيل على التقاعد، يمكنه القيام بكل هواياته الخاصة التي لم يسمح له إنشغاله بعمله بالقيام بها. أجابني بأنه ليس لديه أي هوايات خاصة غير عمله، فلقد كان عمله هوايته الوحيدة والآن ليس لديه ما يقوم به. أجبته بأنه يمكنه زيارة أحد نوادي المتقاعدين وهي كثيرة. ضحك بتهكم وقال لي:" يا صديقي أنسيت أن الإشتركية قد زالت وزال معها نوادي المتقاعدين وكل المكتسبات التي كانت للمتقاعدين مثل الذهاب مجانا لدور النقاهة والعلاج الطبيعي، لقد ألغته كله هذه الرأسمالية الجديدة المتوحشة."
لم أكن أعرف أن الأمر بهذا السوء، فلقد كنت أعرف أن كثيرا من المكتسبات قد ألغاها النظام الرأسمالي الجديد ولكن لم أكن أعرف أنها طالت حتى نوادي المتقاعدين ومكتسباتهم. نظرت إليه وسألته ما هذه العصا ومنذ متى يحمل عصا؟ فأجابني، منذ اليوم وأنها تمثل المرحلة الجديدة، مرحلة التقاعد.
كان البرد قد بدأ يدخل عظامي فطلبت من صديقي أن نذهب إلى مقهى ونحتسي بعض القهوة أو الشاي. هز رأسه وقال: " هل نسيت أنني متقاعد وأن تقاعدي البسيط لا يسمح لي بزيارة المقاهي." أجبته بحدة: " أنا أدعوك يا صديقي وعلى حسابي." أجاب:" اليوم على حسابك وماذا سافعل غدا وبعد غد والذي بعده؟
لم أعد أطيق البرد فوقفت قائلا:" قم يا صديقي ودعنا نتمشى فالبرد قارس وستمرض." ولكنه هز رأسه رافضا وقال لي: " إذهب أنت، فأنت إبن الشرق الدافئ ولم تعتد على البرد أما أنا فلقد إعتدت على البرد وسأبقى قليلا ثم أغادر."
ودعته قائلا:" أنا أدعوك لشرب القهوة العربية في بيتي، وبيتي مفتوح لك في أي وقت، فقط إتصل بي حتى تتأكد من أنني في البيت." شكرني وقد بان الإنشراح على وجهه ثم تركته وغادرت. بعد أن سرت عدة أمتار إلتفت ناظرا إليه. كان جالسا محني الظهر، زائغ النظرات، لحيته متكئة على يديه القابضتين على العصا الجديدة، العصا التي أخذت بعدا فلسفيا عند صديقي والتي تعلن أن حياته اليوم قد تغيرت إلى الأبد وأنها أصبحت مربوطة بهذه العصا.

د. نضال الصالح/ فلسطين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة من واقع حياتنا
محمد سوادي العتابي ( 2010 / 3 / 10 - 10:30 )
كان استخدامك للمذهب الواقعي جليا وواضحا ولقد اجدت فيه فالى كتابات اخرى وحظا موفقا

تحية عراقية

عراقي وافتخر

اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال