الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلامتك .. يا وطن

سعد هجرس

2010 / 3 / 11
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


يوم الجمعة الماضي، بثت وكالة أنباء الشرق الأوسط خبراً مختصراً يقول بالنص: "يجرى الرئيس حسنى مبارك اليوم (السبت) عملية جراحية لاستئصال الحوصلة المرارية بمستشفى هايدلبرج الجامعي بألمانيا. وقد أكدت الفحوصات الطبية التى أجراها الرئيس مبارك وجود التهابات مزمنة بالحوصلة المرارية .. وقد أصدر الرئيس مبارك قراراً جمهوريا هذا نصه:
قرار السيد رئيس جمهورية مصر العربية رقم 60 لسنة 2010
رئيس الجمهورية
بعد الإطلاع على الدستور وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 424 لسنة 2005 بتشكيل الوزارة قرر:
يتولي السيد الدكتور أحمد محمود محمد نظيف رئيس مجلس الوزراء جميع اختصاصات رئيس الجمهورية طبقا للمادة 82 من الدستور إلى حين عودته إلى مباشرة مهامه".
هذا الخبر "القديم" والذى شبع نشرا فى كل وسائل الإعلام – والذى تجاوزته الأحداث بإعلان آخر عن إجراء الجراحة بنجاح وتماثل الرئيس للشفاء- يتضمن رسائل "جديدة" ومهمة تتعلق بالسياسة المصرية.
وربما كانت رسالته الأهم هى أن نشر الخبر، بهذا النحو وفى هذا التوقيت، يمثل نهجاً جديداً فى التعامل مع الحالة الصحية لرئيس الجمهورية، لم نألفه من قبل، ليس فقط مع الرئيس حسنى مبارك طيلة توليه منصب الرئاسة منذ ما يقرب من ثلاثة عقود متصلة، وإنما أيضا مع سلفه الرئيس الراحل أنور السادات، وكذلك مع الرئيس جمال عبد الناصر.. حيث ظلت صحة رئيس الجمهورية سراً من أسرار الدولة العليا ومحظوراً من محظورات الأمن القومي التى لا يجب الاقتراب منها.
الآن.. ولأول مرة.. يصدر بيان رسمى .. يقول أن رئيس الجمهورية مريض، ويحدد نوع المرض، ومكان العلاج.
وهذه مسألة طيبة تستحق التنويه والإشادة مقارنة بسياسة التعتيم السابقة التى كانت أحد الأسباب الرئيسية لتفشى الشائعات وما تثيره من بلبلة سياسية واقتصادية.
وليس مناخ الشائعات هو مربط الفرس أو المشكلة الوحيدة لسياسة التعتيم المشار إليها، بل إن سلوك أى دولة من دول العالم فيما يتعلق بالإفصاح عن الحالة الصحية لرؤسائها أو وضعها خلف ستار من السرية، هو مؤشر على مدى تمتع هذه الدولة بالديموقراطية من عدمه.
ففى كل الدول الديموقراطية لا تعتبر صحة الرئيس شأناً شخصياً يخص أسرته فقط، وإنما شأناً يهم جميع المواطنين، لأن قرارات هذا الرئيس – خاصة فى النظم الرئاسية التى يتمتع فيها الرئيس بصلاحيات واسعة – تؤثر بصورة مباشرة على مصالح الناس.
ولذلك جعلت النظم الديموقراطية حياة الرؤساء ومرضهم وصحتهم قضايا عامة يجب التعامل معها بشفافية كاملة، لا لشئ إلا لكى يطمئن المواطن إلى سلامة من يقودون سفينة الوطن.
ولم يأتى التشديد على حق الشعوب فى التأكد من سلامة الحالة الصحية لحكامها من فراغ، بل إنه جاء نتيجة خبرات متعددة، بعضها بالغ المرارة، وعلى سبيل المثال فان اللورد ديفيد أوين قام بتأليف كتاب بالغ الأهمية بعنوان رئيسي هو "مرض فى السلطة" وعنوان فرعى "المرض فى حياة رؤساء الحكومات لأكثر من مائة عام"، تضمن وقائع مذهلة من بينها – مثلا- انه فى الفترة من 1906 إلى 2006 واجه سبعة رؤساء أمريكيين أزمات صحية أدت إلى إصابتهم بأمراض خطيرة أثناء توليهم مناصبهم هم تيوردور روزفلت، ووليم هاورد ثافت وديدرو ويلسون وكالفن كوليدج وهربرت هوفر وليندون جونسون وريتشارد نيكسون. حيث ثبت أن معظم هؤلاء قد أصيب بهوس اكتئابي أو اكتئاب حاد.
كما أن عددا من القادة فى دول أخرى قد أصيبوا بأمراض متنوعة، وبعضهم استطاع أن يخفى مرضه عن المقربين منه، وعن عامة الشعب.
وكانت نتيجة هذا التعتيم وخيمة فى كثير من الحالات ودفع من تورطوا فيه ثمناً باهظاً.
****

هذا يحدث فى النظم الديموقراطية، أما لدنيا فأن الحاكم - سواء فى العهد الملكي أو فى النظام الجمهوري- ظل محصناً ضد المرض والوهن لا يجوز عليه ما يجوز على باقي خلق الله. فلم نسمع عن رئيس أو ملك قد أصيب بعارض ما، اللهم إلا عند عودته من رحلة الاستشفاء والتى عادة ما تكون خارج البلاد!!
بعدها فقط يتوافد عليه المهنئون، ومن خلال هذه التهاني التى لا تخلو من النفاق نعرف – نحن الرعايا - أن الملك كان يعانى من شيء ما، لكنه تغلب على هذا الشيء الذى لا نعرفه!
****
لذلك كله.. نرحب بالخبر الموجز عن حالة الرئيس مبارك الصحية، رغم انه لم يشبع فضولنا الصحفي بالكامل ولم يجب على كثير من الأسئلة التى نحتاج إلى معرفتها.
وتبقي – بعد الإشادة- ملاحظتان، إحداهما جوهرية والثانية فرعية,.
الملاحظة الأولي أن البيان المقتضب عن الحالة الصحية للرئيس مبارك – متعه الله بالصحة والعافية وأتم عليه الشفاء- قد حظي باهتمام استثنائي فى الداخل والخارج على حد سواء.
والسبب فى ذلك ليس خافياً.. وهو باختصار أن عقدة "الخلافة" لهذا المنصب الرئاسي الرفيع الذى يتولاه مبارك منذ ما يقرب من ثلاثة عقود مازالت بدون حل، رغم أن الدستور يقدم حلا نظرياً لهذه المعضلة. لكن الخطاب النظري والرسمى شيء والواقع السياسي شيء آخر تماماً.
فمازالت كل السيناريوهات مطروحة، بما فى ذلك سيناريو تصاعد الضغط الذى تقوده المعارضة من اجل دستور جديد أو على الأقل تعديل الدستور الحالي سعيا وراء توافق وطني حول قواعد جديدة للعملية الديموقراطية.
وبما فى ذلك أيضاً سيناريو بقاء الحال على ما هو عليه وترشيح الرئيس مبارك نفسه مرة أخرى.
وكذلك سيناريو التوريث وتمهيد الأرض أمام جمال مبارك لخلافة والده.
وليس من باب الصدفة أن كل أصحاب هذه السيناريوهات المتضاربة قد وقفوا على أطراف أصابعهم لدى سماعهم بيان الحالة الصحية للرئيس (شفاه الله).
وغنى عن البيان أن هذه السيناريوهات المتضاربة لا تؤدى فقط إلى بدائل متنوعة فيما يتعلق بـ "شخص" الرئيس القادم، وإنما أيضاً إلى وضع البلاد على مسار مختلف لسنوات ليست قليلة.
****
أما المسألة الفرعية – التى لم يفسرها لنا البيان المشار إليه- فهى لماذا يجرى الرئيس حسنى مبارك عملية استئصال الحوصلة المرارية فى ألمانيا بعيداً عن حضن الوطن؟
ألا ينطوي هذا القرار على إقرار ضمني بان مؤسسة العلاج فى مصر ليست على المستوى المطلوب، وان الثقة فى المنظومة الطبية فى بلادنا ليست كاملة؟ وألا بماذا نفسر أن عملية يفترض أنها بسيطة نسبياً- مثل عملية استئصال المرارة- لا نخاطر بإجرائها فى أحد المراكز الطبية المصرية؟!
هل لدى وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلي تفسير؟!
****
وسلامتك يا ريس ... وسلامتك يا وطن.
وتتبقي نقطة أخيرا تتعلق بتفويض الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء للقيام بكل صلاحيات رئيس الجمهورية.
صحيح أن هذا التفويض ينسجم مع التعديل الأخير للدستور، لكنه يبقي تفويضاً من شخص يفترض أنه شغل منصبه نتيجة انتخابات مباشرة، إلى شخص – مع كل الاحترام له – ليست له أية صفة تمثيلية ولم يصوت الناس لصالحه بأى صورة من الصور.
فكيف يوضع مصير البلاد فى يد "موظف" جاء بالتعيين؟!
****
وسلامتك يا ريس.. وسلامتك يا وطن








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لعبه توم وجيري
محمد البدري ( 2010 / 3 / 11 - 07:43 )
دعونا من كل هذا الخيال عمن يمكن ان يحكم مصر بعد مبارك الذي تبدو رئاسته شبه منتهية لاسباب كثيرة اضيف اليها مؤخرا الحالة الاكلينيكية بعد الجراحة الاخيرة. فليس هناك افضل مني انا شخصيا لتولي المنصب ولو ان هناك شك فالمثل يقول -الميه تكدب الغطاس. انتخبوني ولو بتزوير الانتخابات او آتوا بي علي ظهر دبابة او بانتخاب حر نزيه وسوف ترون ما لا عين رات ولا اذن سمعت. اما موضوع ولاية نظيف اثناء غياب مبارك في المانيا فهي لعبة توم وجيري بين مبارك والامريكان. مبارك يحاول تحييد امريكاعن التدخل وهو تحت تاثير البنج في المانيا باسناده الرئاسة لشخصية مدنية تمويها للامريكان عن نواياه ببقاء العسكر في السلطة الي الابد، لانه يعلم ان القط يحسن اللعب والفأر خارج جحره. ولنا في ازاحة النميري وهو في خارج السودان أسوة حسنة. وان كنت ناسي افكرك.


2 - رائع يااستاذ هجرس
لطيف شاكر ( 2010 / 3 / 12 - 02:42 )
السيد هجرس انا من عشاق كلماتك الذهبية فانت كاتب عظيم وتملك شفافية وصدق وامانة رجل في وقت ندر فيه الرجال اشكرك علي كلماتك الرائعة التي نتعلم منها الكثير
اما بالنسبة للسيد محمد البدري فقد كسبت اليوم صوتي ...وفعلا لعبة من الاعيب السلطة الرخيصة لكن صدقني لاينطلي علي احد فجميعنا كرهنا العسكر وعائلاتهم


3 - ساعة الحسم تعرف معادن الرجال
محمد زكريا توفيق ( 2010 / 3 / 12 - 12:22 )
شكرا أستاذ هجرس على هذا المقال المتميز.
عندما كان كمال أتاتورك على فراش الموت، قام بترشيح عصمت أنونو ليحل محله في رئاسة الجمهورية. المعروف أن عصمت أنونو كان خارج الحكم بعد اختلافه مع أتاتورك واتهام أنونو له بالسكر والعربدة. لكن في ساعة الحسم، تعرف معادن الرجال وتبدى مصلحة الأوطان على مصلحة الأفراد. لا يتبقى لنا سوى قول الأستاذ هجرس، سلامتك يا وطن.

اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟