الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر مسافر

رباح آل جعفر

2010 / 3 / 13
الادب والفن


إذا كانت قهوة محمود درويش في الغربة قد صارت جغرافيا ، بقوله : ( ورائحة البُنّ جغرافيا ) .. فلأن قهوة أمه في فلسطين مثل قهوة أمي في العراق .
الأم هي حبنا الأول .. وعندما ترحلُ ، أو تموتُ ، لا نجدُ بين جميع نساء العالم امرأة واحدة ، تستحق أن تكون أمنا .
والأمّ جنة .. لا بل ، أخافُ إذا شبهتها بالجنة أن أكون قد نلتُ من مقامها ، فما الجنة إلا تحت أقدام الأمهات ، وكنت كلما اشتاقت نفسي إلى الجنة قبلتُ قدمي أمي .
والمنفى هو التعبير المهذّب لكلمة موت .. والمنافي كلها لها مذاق واحد .. ولكن حتى الجنة ، لو أخذت شكل المنفى لكانت مرفوضة .
فما هذا الاختلاف الكبير بين وجه أمي .. والمنفى ؟.

  

أخطّ ما يعنّ لي من خواطر حول حياة كل يوم ، وأعتبرها أقرب إلى ( الذات ) منها إلى ( الموضوع ) .. فهذه الخواطر ( الدَوْزَنات ) الموسيقية الأولى ، التي تسبق دخول المغني ، وانفتاح الستارة ، وانتظار الجمهور .
ثم إنني اعتقدتُ ، وما زلت أعتقد ، إن كل إنسان لديه كتاب نائم في موضع ما من ذاكرته ، ولو أنه فكرَّ وقدّر ، وراجع بطريقة جدية لعثر على موضوعه .. ولو أنه عرف كيف يقترب منه ، لوجد عنده بالفعل ( خواطر ) تمسّ نياط القلب ، وتستحق النشر ، وتستحق أن يُقبل الناس على قراءتها .
وهكذا تراني أكتب ( خواطري ) كلّ يوم ، وأذهب إلى لقاء الكلمة ، كما يذهب العاشق إلى موعد غرام .. مع أنني أدرك إن الكتابة هي نوع من الانتحار ، أو الحفر على آنية القلب .. يبدأ بالنقش الخارجي على سطح الإناء ، ثمّ ينتهي بالحفر الداخلي ، حتى ينتهي الأمر بتحطم الإناء .
على صدر ورقةٍ بيضاء ، نضع رؤوسنا المُتْعَبة ، المُرهقة ، ونستجمعُ نثارات ذكرياتنا ، ونستردُّ صور طفولتنا ، ونرتّل صلاتنا ، لعلنا بالكلمة نقترب قليلاً من الملكوت ، ومن القداسة .
فالكلمة ، التي كانت في البدء .. هي أول شجرة زرعها الإنسان على باب بيته ، وأول نجمة في السماء اهتدى بها قبل اختراع الشمع والقناديل .. والكلمات جنيّات رائعات الفتنة ، يخرجن مرة من عتمة الظنون ، ومرة من عتمة الدفاتر .
وأريد أن أسأل ، هل هناك رجل في العالم ، بقي أربعين سنة ، يشرب حبر الرسائل ، وهو مقتنع أن ما يشربه ، هو أرقى أنواع الشهد ؟!.

  

الليل إيقاع أسود .. مطر أسود .. كتابة ، أو كآبة سوداء .
والسماء بيت العصافير ، والسحب ، والكواكب ، والملائكة ، والشهداء ، والذين انتقلوا إلى رحمة الله ، قبل أن يشبعوا من الحياة .
وبلادي مجموعة كلمات جميلة .
هبوني وطناً مثل العراق.. وخذوا لكم بقية الأرض ..
هبوني قلعة مثل بغداد .. وخذوا لكم بقية العواصم ..
وإذا كانت الجنة ليست في العراق ، فأني أؤمن إن العراق هو الجنة .
كل عين هي عين ماء ..
كل راءٍ هي روح وريحان ..
كل ألف هي مئذنة عباسية ..
كل قاف هي قارورة عطر ..
وعندما تخرج اللغة العربية من هدنتها الطويلة ، لتلبس ملابس الميدان ، وتقود مواكب الفتح ، يتغير شكل الحروف الأبجدية ، وتصبح الثمانية والعشرون حرفاً ، ثماني وعشرين كتيبة ، بمشاتها ، ودروعها ، وناقلات جنودها ، ومدفعيتها ، وطيرانها .

  

أحياناً ، أقول أحياناً ، أتأمل نفسي وكأنني خارجها ، أطلّ عليها من بعيد ، وأتعجب من النفس البشرية وطبائعها .. وفي أحيان أخرى يبدو لي كل شيء مسطحاً وفارغاً ، حتى منظر الشوارع والمدن ، بألوانها ، وأضوائها ، ولئلائها .. وحتى البشر ، مجرد تماثيل ، ومجرد صور !.
الصور هي هي ، والنجوم نفس الوجوه ، والحوار تسلسلٌ طبيعي ، والمغزى ، أو المعنى ، أو الهدف ، متقارب .
ليست لديّ مناطق جغرافية للحب ، ولا أقاليم .. فأنا حين أحب ، أعانق العالم بجميع جزئياته وتفاصيله ، وأركض إلى الحد الأقصى للعشق ، وأؤمن إن الحب يطير دائما فوق الجغرافيا ، وإن وجه الحبيبة وخارطة الوطن لهما شكل واحد .
بالحبّ وحده ، تصبح عيون الحبيبات أشدّ سواداً .. وتخرج الكلمة من مخدعها ، كما تخرج العصافير إلى الحرية .
حقائب الشعراء صغيرة ، والبُعد ، في حد ذاته ، عذاب .
وحين تسأل المنازل عن أصحابها الغائبين في رياح الهجرة والمنافي ، وحين تخرج بغداد منك بلا قبلة ، أو وداع ، أو وصية ، أو تذكار ، ويدك تمتدّ إليها ولاتصل .. تنظم على روحها ديواناً من المراثي ، وتقصد قبر فاتحها الرخاميّ كل عام ، بأكاليل الزهر ، وملابس الحداد .
ليس الماضي من صنع يديك وأخطائك ، ولكنه تأريخك ، وميراثك .. وأنت ترى في بغداد أندلساً جديدة ، فهل ستكتبُ ، في وداعها ، موشحات جديدة .. وليس هذا زمن ابن زيدون ، وابن المعتز ، وابن نباتة الأندلسي ، لأن الأندلس ، كما بغداد ، كلتاهما صارت في ذمة الله .
وماذا يحدث لو وقف مؤذّن ونادى ( حي على الصلاة ) .. وامتلأت مساجد قرطبة بالمصلين .. والمشيّعين ؟!.
آخٍ من دمعة صامتة ، تستطيع وفي لمحة بصر ، إظهار ما تعجز عنه آهات النفخ في الأبواق على حواف القبور .

  

الليل مُقبض ، والنهار مزدحم ، والفصل صيف ، والمساحة المتاحة لهذا الحديث وصلت إلى نهايتها ، ولم تصل ( خواطر مسافر ) إلى حكاياتها ، وتأملاتها .
وقد تمنيّتها .. إلى صديق ( هناك ) .. طوفان دموع تسبح فوق النعش .
إنني لا اعرف بالضبط أين تقع ( هناك ) هذه التي أقصدها ، ولا أين عنوانها ، لكنها ليست بعيدة .. إنها ( هناك ) .
وفي المبتدى ، وفي المنتهى ، فإنها أطياف ، ومشاهد ، وصور .. اختلط فيها العتاب ، والحب ، والحزن .. حاولت استجلاءها قبل أن تتلاشى إلى النسيان .
وربما إن ذلك فيه كفاية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
سومري ( 2010 / 3 / 12 - 22:54 )
حياك الله والحمد لله على السلامة أنا منذُ فترة مفتقد كتاباتك أيها المعلم والمربي والمتنور|في هذه الخواطر أبكيتني وعصرت قلبي اللذي لايحتمل اي ضغط ,العراق يعيش فينا ونحنُ لانعيش فية يقول سقراط لاتوجد وسادة أنعم من صدر الام رحمة الله على أمهاتنا.

اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو