الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية جفاف الحلق – 10 –

غريب عسقلاني

2010 / 3 / 13
الادب والفن


رواية جفاف الحلق – 10 –



[10]

تأجل ختاني ثلاث مرات.. الأولى بعد أن اختطفت الحصبة أخي يوسف قبل أن يكمل الحول على صدر أمه، والثانية بسبب اجهاض زوجة خالي جنيناً ذكراً في شهره السادس على اثر انزلاق قدمها وهي تشطف بلاط الدار، أما الثالثة فقد أوجبها "شد" خاطــر الجيران وقد فقدوا عزيزاً عليهم مات عن مائة عام أو يزيد..
وفي كل مرة تجهض خطط أمي لفرحتها فلا تجد مندوحة عن التشبث بحكمة الأيام "لعله خير وكل تأخيرة فيها خيرة"
وبانتظار الخير دخلت عامي السابع، وقطع أخي أحمد عامه الثالث، وزال تخوف أبي من ختانه، ويوم عدت من المدرسة بشهادة الصف الأول زغردت أمي، وداعبتها فرحة الختان.. فاستجاب أبي بسرعة، وأوعز لجدي بشراء خروفٍ من سوق الجمعة على أن يكون الختان يوم الجمعة التي تليها، لأخذ الوقت اللازم للإستعدادات وتفصيل جلابيات الطهور وتطريزها، وعزومة الأقارب والأصدقاء على امتداد رقعة القطاع..
وعلى مدار الأسبوع استضفنا فحلاً حولياً كث الصوف، ربط في جذع الدالية بحبل قصير لا يتيح له الخروج من حوض الدالية، وعاش الخروف معززاً مكرماً على قشر البطيخ والصبر وحسنة الدار من الخبز الجاف اضافة الى الشعير المقرر.. نلاعبه ونعلفه ونطعمه من أيدينا، ونحاول امتطاء ظهره الصوفي ننجح ونخفق، ولا نستطيع الثبات على ظهره اللحيم.. يعلو صراخنا فيجفل الخروف، ويصاب خالي المنكبّ على عمله بالصراع، فيوسعنا ضرباً على أقفيتنا، ويلعن أمهاتنا الغافلات عنا، تخلصنا منه جدتي فاطمة بعد أن تمتص غضبه.
- خليهم يلعبوا، هو كل يوم عندنا طهور، ربنا يطعمك بولد ونقطع له في حياتك.. يا رب يا كريم.
وفي منتصف الأسبوع هاجت الدار وماجت، وانفلت عيارها مع حضور الخالة أم بشير وزوجها من مخيم رفح، وطرحت على عقلي الصغير معضلة الأنساب، فكل من في الدار ينادينها "يا خالة“ أمي وأبي وخالي وزوجته وحتى اخواتي الكبار ..
خالة من هي، جدتي فاطمة تناديها يا أختي مرة، ويا لطيفة مرة أخرى، وعرفت أن لأم بشير اسماً آخر هو لطيفة، وعلمت بقدر ما استوعبت أنها أخت جدتي من أمها تربت في حضانة زوج أمها، والخالة أم بشير هي قابلتي التي سحبتني إلى الدنيا ،وبشرت بي، وهي التي سحبت اخواتي وكذلك هيجر تحت التوتة، وكتمت دمعتها من نصيب ابن أختها، ووقفت بالمرصاد لأمي كي لا ترضعها حتى لو فقعت من الجوع والصراخ، حتى لا تكون "قطاعة نصيب" وتدخل النار بقدميها وعملها.. تؤكد وتحذر (اذا مصت بزك ثلاث مرات مشبعات تصبح أخته وتحرم عليه.. اذا أعطيتها بزّك يلحقك غضب الأب في الدنيا وغضب الرب في الآخرة ..اتركيهم لوقتهم ونصيبهم..)
بعد العصر تهدأ القاعة في الدار التحتا وتتوقف الأنوال، وتنزوي الدواليب في الدار "الفوقا" ويشطف البلاط، وتتحلق النساء حول أم بشير بطبلتها.. يبدأ الغناء "والتسحيج " يلعلع صوتها، فتتوافد صبايا ونساء الجيران ويعمر الفرح، وفي الليل تتحول الدار إلى فندق، وتشمر جدتي عن ذراعيها لإطعام الضيوف المقيمين والمغادرين.. وفي أسبوع الفرح أوقف خالي أعماله في الدار والتحق بالدكان، لم يأبه لاضطراب الأحوال في القاعة ونقص الخدمان وانشغال النساء عن المواسير والدواليب، لم يتذمر العمال، فمنهم من أجاز نفسه طوعاً، ومنهم من اندمج مع جو الدار ووجد ما يشارك به في الفرحة.. وسمح أبو حسنة لابنته أن تقيم في البيت طيلة أيام الأسبوع، أما أحمد شمعة فقد وضع نفسه وهمته رهن اشارة أمي واحضار ما يلزمها من السوق حتى كان يوم الجمعة، فتحولت الدار الى خلية نحل، استيقظ الجميع مع آذان الفجر، وقامت النساء على كنس وشطف الدار ورش حوش الدار التحتا بالماء.. وقام خالي إلى البلطة يكسر ويصلح الحطب لموقد الطهو ووجاق القهوة السادة, وهيأت النساء الليوان الغربي للصمدة، وأما الليوان الشرقي فقد خصص لأعمال الطبيخ ولقانات المفتول.. وقبل الضحى كان جدي وأبو رباح قد سلخا الخروف، وقطعاه، وسلماه الى جدتي فاطمة ، أفطرنا أهل الدار والمعازيم على الجبن والعسل والمطبق الذي تفننت زوجة خالي في إعداده.. وبعد الإفطار قامت النساء الى لقانات المفتول وافترش الرجال الحشايا في حوش القاعة يتنادرون في الحكايات والسير .
وبعد الظهر عادوا من صلاة الجمعة في مسجد السيد هاشم بن عبد مناف, ولما اكتمل النصاب قدمت الصواني للرجال المعازيم أولاً ثم للنساء والأطفال ...
وعند العصر ألبسوني وأخي الجلابيات البيضاء المقصبة والمطرزة بالعصافير والنخيل، وقلدونا ما توفر من مصاغ (حبيه امي ومشخلع زوجة خالي ، وعقد جدتي فاطمة ومجيدية من شطوة جدتي نفيسة...) وبدأت حلقة الرقص..والنساء مكحلات مزوقات (على سنجة عشرة) ووزعت أم بشير بياناً تحذيرياً :
- اللي مش متزوقة تقوم تزبط حالها بلا لكاعة
وتكسر حاجز الحياء عند بعضهن وخاصة الصديقات والنسيبات البعيدات :
- الواحدة لها في حياتها ثلاث فرحات ، يوم دخلتها ويوم ما نقطع لبكرها ويوم ما تدخل عليها كنتها في الدار.
ترشدّها احدى العجائز:
- خافي ربك يا أم بشير ،ويوم زيارتها للحبيب المصطفى
- وايش جاب فرحة الدنيا لفرحة الآخرة، فرحة الحج حاجة ثانية الله يطعمها لكل مشتهي..
وأطلقت زعرودة طويلة مسحوبة من قاع قلبها "وهاهت" وعددت رجال الحمولة مبتدئة بأبي بشير تاج رأسها وغرة رجال المجدل، وأسبغت على الرجال ما طاب لها من الكرم والشهامة والرجولة تتناغم مع زغاريد النساء مع كل مهاهاة وشوباش وترديدة ، ورد أبي التحية مؤهلاً مسهلاً بالمعازيم وأطلق مشط رصاص من أمشاطه الثلاثة وسمع صوت الالمانيه لأمره مرة منذ خرج بها من المجدل.. ورد عليه محمد فارس بصلية من رشاش الكارلوستاف ،وحلف يميناً أنه "قشّطه" من دليل بدوي غدر بهم وكاد يسلمهم لليهود، فجردوه من سلاحه وذخيرته، وشبحوه على جذع شجرة جميز، وعادوا ولم ينفذوا العملية، فقد هجسوا أن الدروب مرصودة والكمائن منتشرة.. همس في أذن أبي:
- النصيب. رصاص البدوي كان مفروض يقتلنا واليوم نطخه في طهور الأولاد ..عمر الشقي بقي يا ابن عمي
سحبت زوجة خالي أمي وأخذتا ترقصان متقابلتين في انسجام غريب على دقات خفيفة أخذت تتسارع مع نغم الأهزوجة..
آه ياللي يا للي...
جابلي الكردان يا للي. .
والشمعدان يا للي،
جاب لي الهدية يا للي..
حلق وحبية يا للي ..
جاب لي المشخلع يا للي
من ذهب الشام يا للي
رقصتا بالشمعدان والأباريق المسدودة فوهاتها بعروق الريحان والنعنع البلدي ونوار الرمان الأحمر.. فاعت الطبلة ونزلت النساء والصبايا الراغبات إلى الحلقة، ووصل الفرح ذروته عندما داهم صابر الحلقة ومعه ياسمين "النورية" ، رقص معها فاصلاً هبل النساء وطيّر غيرتهن.. حتى قرصته أمي من خاصرته فرحة..
- ولك يا مدَهوّن جايب النورّية يا أبو الفضايح..؟!
- ليش فضايح، حرام نُرقص في طهور اولاد عمي، خلينا نفرح، احنا عارفين وقتيش يصير فرح في العيلة ونلتم على بعض.
نز عرقه من كل جلده، ودارت ياسمين ذات العيون السود، والشعر الخيلي من حوله، قبلت ذراعه عند الكتف، وكشفت للنساء "المبهورات من جرأتها " على وشم رسمته على ذراع الفتى فارس على حصان يحتضن صبية ترسل شعرها الطويل مع الهواء ، وكتابه تعلن بؤس الحالة وحرارتها "صابر أبو عوض بطل يبيع الدم".. وصابر داهمه الصداع يوماً ، فطرحه في خيمة روجينا، شهقت النورية الأم، وضحك زوجها القهقير صانع المناجل والشواكيش والمناسيس ومشذب البلطات والفؤوس والطواري.. قلب جفن الشاب الطريح وعاين بياض عينه ، ورشق ياسمين شزراً ، فانزوت تحبس دمعة ساخنة
استنجد القهقهير بالناس ونقلوا صابر إلى المستشفى، حتى لا يقعوا في دمه واسئلة الحكومة وانتظروا بيان الطبيب
- الولد مثل الفحل، قوة دمه سببت الصداع والإغماء، زوجوه أو خلوّه يتبرع بدمه، اذا هاجمه الصداع .. أو اذا شعر بدبيب النمل في عروقه...
تلقفت روجينا الأمر.. وسمسرت على دمه وصدرته زبوناً دائماً عند بوابة المستشفى المعمداني وانضم الى باعة الدم تخلصاً من ضغطه وهياج بدنه.. وفي الليل يهدأ على صدر ياسمين، ينام على فخذها اللدن، تغلق عليه رموشها الطويلة وتلعن أمها والقهقير وسكنة النور...
وتحددت عناوين صابر بطل يبيع الدم بين قشعة القهقير في الشجاعية والمقهى المواجهه لبوابة المستشفى..رأس ماله ذراعه القوي، ووشم يعلن عن فارس وفرس وحورية تعتصم بحضنه..
بعد صلاة العصر حضر المطهر.. مددونا على طبلية قصيرة ، باعد صابر ما بين فخذي وأشار إلى السماء..
- شوف الصقر كيف حامل الحمامة وطاير بيها
نظرت إلى السماء ، لم يكن هناك صقراً ولا حمامة.. وسال دمي وانطلقت الزغاريد، وقهقه صابر اللعين بعد أن انطلت علىَّ الخدعة.
- الصقر أخذ الحمامة وطار.. مبروكة عليه شايف كيف الطهور سهل يا سبع
وتمددت على الفراش يلعب ريح العصاري في بدني، حريق يسري ما بين فخدي.. لا أعبأ بالمنقطين والمنقطات يدسون النقوط تحت وسادتي ووسادة أخي.. ومنهم من دس نقوطه في جيب الجلابية المبقعة بدمي الراعف.. غادر المطهر المكان مع زغايد النساء، وظلت الدار تطبل وتزمر أسبوعاً تغص بالزوار والمهنئين.. يتفتق السؤال في رأسي ..هل كل هؤلاء أقاربنا ؟ وهل حمولتنا كبيرة لهذه الدرجة ؟ وأرهفت أستوعب موال أم بشير وهي ترقص بالسيف أمام أبي
البكرج اللي انتصب رنت فناجينه
رجل بلا عزوته بطلت مراجيله
في الخميس التالي قام المطهر بغياره الأخير، وقرر جفاف الجرح، وسمح لنا بارتداء البنطلون بعد الاستحمام في البحر..
وعلى الشاطئ كان الأمر عائلياً، ونصبت الخيمة، واكتشفت يومها كم هو خالي ودود وأليف، حملني على ظهره وتشبثت برقبته، جدف بي في الماء حتى ابتعدنا عن مضرب الموج.. صار البحر بركة هادئة, مددني على بطني فوق ذراعيه، وأخذ يعلمني العوم، ويلقنني أسرار الماء.. سألته متى تعلم السباحة وهو الذي يقضي نهاره في القاعة مع براميل الصباغ والبوش، فأخبرني أنه شبع السباحة والعوم في بحر عسقلان.. حدثني عن شقاوته وصباه عند أعتاب الشيخ عوض، وحدثني عن باب الدارون ووادي النمل وسيدي الحسين ..
كان عفياً، وكان البحر قد غسل جهامته وشتت ضيق خلقه.. خرجنا من الماء ولازمني الإحساس بأنني أصبحت رجلاً، وصرت أكثر صرامة مع هيجر، ولم أعد أجاريها الى لعبة العروس والعريس، أرتبك ويسربلني خجل لا أعرف سببه كلما رشقتنا عيون نساء الدار ونحن نلعب بين أكوام الغزل في الليوان الغربي
وفي ذلك الصيف، نزلت أمي عند رغبتي، وفصلوا لي بنطالاً طويلاً بدلاً من الشورت، وفصلوا لهيجر قبة بيضاء ومريولاً وسجلوها في المدرسة قبل السن القانوني بعدة أشهر...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان