الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التراث الفرعوني هو الأساس التاريخي لأسطورة المهدي المنتظر

مهدي بندق

2010 / 3 / 14
مواضيع وابحاث سياسية



من المعروف تاريخيا ً أن المصريين القدماء كانوا قوما ً من الأحرار فيما قبل عصر الأسرات الفرعونية، كانوا سلالات مولدةً من الأحباش والنوبيين والليبيين ، ومن ساميين وأرمن جاءوا جميعا ً إلى وادي النيل في هجرات متتالية ، لينصهروا معا ً بثقافة المساواة والتسامح العقيدي ، والعمل المشترك : ترويضا ً للنهر وتشييدا ً لمتطلبات الزراعة على ضفافه مشكلين بذلك ما صار يسمى بالشعب المصري ، الذي ما لبث حتى أسلم القياد لحكام مقاطعات ودويلات متنازعة متحاربة في مصر العليا والدلتا ، فكانت الدولة الموحدة بحكومتها المركزية وحاكمها القوي " الفرعون" هي الحل الوحيد لبسط السلام بين الناس ، والثمن : تنازلهم للحاكم عن حرياتهم "المطلقة" مقابل الظفر "النسبي" بالأمن والاستقرار .
من هنا رسخت لدي عامة المصريين بدء ً من العصر الفرعوني عناصرُ ثقافية سلبية كالخضوع للحكام والرضي بالمقادير، واللامبالاة بالشئون العامة ، والغطرشة على التوظيف السياسي والاجتماعي للدين ، جنبا ً إلى جنب الحلم الدائم بالمخلّص : الحاكم المستبد العادل، والذي سوف تدعوه المسيحية فيما بعد بـ"مخلصنا يسوع" ويسميه الإسلام الشيعي "المهدي المنتظر" ويلقبه الإسلام السني بوليّ الأمر ، محذرا ً من عصيانه ولو ظلم .
وأول ظهور لفكرة " المخلّص" نراها في شكوى الفلاح الفصيح الذي لا يجد غير رأس النظام "الظالم" يرفع إليه مظلمته ! كما تشيع تلك الفكرة إبان فترة الفوضى (الأسر من السابعة حتى الحادية عشرة المنتهية عام 2000 ق.م) في تنبؤات " نفر روهو" و"إيبور" بحتمية عودة السلام كمحاولات " أدبية" هدفها تهدئة العامة الثائرين، مادتها الفعالة مخدر ناعم واسمها التجاري "المخلّص" الذي سيأتي ليملأ البلاد عدلاً ! وظاهريا ً تبدو تلك التنبؤات وكأنها تقف في صف الشعب البائس ، أما باطنها فيعبر عنه الحكيم "إيبور" بقوله متحسرا ً "إن مخازن الملك قد أصبحت ملكاً مشاعاً لكل فرد، ولا ضرائب تجبي للقصر، رغم أنه ينبغي قانوناً أن يكون له شعير و قمح ودجاج و...و... وكل المحاصيل الجميلة " ومن نافلة القول إن عرق وكدح الجياع الذين انتفضوا هما مصدر كل تلك المحاصيل الجميلة ! فهل يصح أن يسمى إيبور هذا "حكيما ً" ؟ نعم يصح إنما من وجهة نظر المؤرخين الرسميين، الذين يدعوهم هيجل بأصحاب الوعي الشقي Unhappy-consciousness فكيف إذن تصدر عن صاحب وعي شقي نبوءةٌ صادقة عن " حتمية" مجئ المخلّص؟!
المخلّص ضربة مزدوجة
كان اختراع هذه النبوءة بمثابة ضربةٍ مزدوجةٍ علي هامات المصريين تتردد منذ الفراعنة وحتى الآن . ففكرة الحتمية في حد ذاتها تؤدي إلي القبول بالجبرية المطلقة، التي ما أن تستقر في العقل ويتم تقبلها بحسبانها أمراً طبيعياً ؛ حتى تفرّغ الكائن من كل طاقة فيه تسعي للتغيير . لا يجرى هذا على عوام الناس حسبُ، بل وعلي المتعلمين أيضا ً ومنهم دعاة التغيير والتحرير أنفسهم.. والماركسيون المصريون مثال جليّ ، فلقد ارتضوا حل حزبهم محتجين بأن الظرف الموضوعي ( وهو من تجليات الجبر) لا يسمح إلا بالانخراط في تنظيم البورجوازية الصغيرة "الثورية" : الاتحاد الاشتراكي العربي تحت قيادة المخلّص ناصر !
وأما الجانب الثاني من هذه الضربة المزدوجة، فيتعلق بتخصيص الفعل السياسي للقائد المستبد " العادل" دون سواه. وتمتلئ كتب التاريخ المصري من إيبور إلي محمد حسنين هيكل مروراً ببدر العيني المملوكي بالترويج لهذه الثيمة الفرعونية، حتى أن السؤال عن الخلاص من وضع البؤس الكامل لا يصاغ بكلمات من طراز " فما الحل ؟" بل يطلق بصيغة " فمن البديل؟" استبعاداً لإمكانية تغيير بنية الاستبداد، حيث أقصي ما ُيتصور هو تغيير أحد عناصر البنية(=المستبد) مع استمرار باقي العناصر قائمة ، وبينها الخانعون أنفسهم بمعتقداتهم وأعرافهم وسلوكياتهم الداعمة لهذه البنية بحيث ُيختزل مطلب التغيير العام في مجرد استبدال حاكم بحاكم، وأنت وحظك .
ذلك تراث سلبي بالتأكيد ُنقل إلينا من الموروث الفرعوني، الذي لم تكن بأوراقه قط مشروعاتٌ إنسانية كبري، كانت خليقة ً بترقية الحياة لو قدمتها فئاته المثقفة (=الكهنة) من قبيل حل مشكلة الضرورة والمصادفة ، النظام والحرية ، تحديد الغاية من العيش علي الأرض عبر التصورات الأعم لآفاق الحضارة الإنسانية، والتصورات الأخص لعلاقة الأخلاق بالسياسة، والجنوسة بالربوبية ، و الجمال بالاقتصاد .. الخ
المثقف المصري في غرفة المفعولية
وهنا يبرز سؤال عن أسباب تقاعس هذه الفئات المثقفة (الكهنة) عن تعليم الشعب المصري طرائق التفكير والتنظير، في الوقت الذي أتاحت فيه شتى المعارف ( السرية ) للأجانب الزائرين أمثال هرقليطس وفيثاغورس و أفلاطون. وبينما عمد سقراط وخصومه السوفسطائيون إلي " تشعيب" الفلسفة أى إتاحتها للشعب، اكتفى الكهنة المصريون بتلقين العامة الإجابات سابقة التجهيز (المكرسة لواقع طغيان الدولة) في صورة عقائد وطقوس دينية لا تقبل النقاش، تنقل العيش الحقيقي من هذا العالم الملموس، إلي عالم ما بعد الموت حيث ينال الأبرارُ النعيمَ جزاء " صبرهم" ويعاقب فيه الأشرارُ (= المتمردون) لخروجهم عن الجادة التي رسمتها لهم الدولة.
لعل التمايز بين مثقفي الإغريق ونظائرهم الكهنة المصريين عائد لكون المدينةُ الإغريقيةُ Police حشدا ً مجتمعيا ً لممارسة الإنتاج الحرفي والتجارة وإدارة الشئون العامة، حين كانت المدن المصرية محض أماكن لسكني الطبقة الحاكمة ودعاماتها من كهنة وقضاة وإداريين وأطباء ومهندسين ، يقيمون في دوائر ٍمركزُها البيت الكبير "برعو" وعلي المحيط يقيم صغار الموظفين و الأتباع والخدم وأصحاب الحرف المطلوبة لصالح هذه الطبقة .
إن موضع المدينة وليس موقعها اقتراباً من -أو ابتعاداً عن- الريف هو الذي يحدد وظيفتها، وكذلك يحدد مداخل ومخارج قيمها علي الخارطة الحضارية وبهذا المعيار نقول إن المدن الفرعونية لم تكن سوي قصور ملحقة بالريف ، ومن ثم غاب عنها العمل السياسي وضمرت فيها الاحتياجات الفلسفية، فاكتفت بالعيش السطحي مورثةً حتى مثقفيها هذه السلبية َ السياسيةَ وذاك الجفافَ الفلسفيّ ، اللذين أجلسا المثقف المصري على مقعد المفعول به لا يطلقانه إلى فضاء الفاعلية المؤثرة في الحياة .
تناقضات المخلص العصري
ليس من الإنصاف إذن لوم النخب السياسية على تعلقهم الرومانسي بفكرة المخلص الفرد (مثلما جرى في مسألة البرادعي ) ما فتئت هياكلُ الدولة ، بحكم الواقع الجيبولوتيكي والميراث التاريخي راسخةً تحت هيمنة المؤسسات الرئاسية والعسكرية والدينية . لكن اللوم سيكون من نصيب المثقفين : المفكرين والباحثين العلميين وأساتذة الجامعات ..الخ ، إن هم تقاعسوا عن رصد المتغيرات العالمية والمحلية المتمثلة في تغير أنماط ووتائر الإنتاج، وأثر هذا التغير على مجمل العلاقات الاجتماعية . ذلك أن تثوير أي مجتمع معاصر قد صار اليوم متعلقا ً بالتكنولوجيا لا الأيديولوجيا ، بالاستقبال الواعي " لثورة المعلومات " لا رهنا ً بشعارات تنظيم "ثوري " يطالب بهدم القديم البالي ، دون أن تكون لديه نظرية "علمية " توضح طبيعة البناء الجديد ، وآليات حشد القوى المجتمعية المؤهلة لتشييده . وعلى سبيل المثال فالملتفون حول الدكتور البرادعي ( الطبعة الحديثة لفكرة المخلص ) لم يتساءلوا عن الكيفية التي سيوفق بها الرجل لو صار رئيسا ً بين دواعي الأمن القومي العربي وبين دعوته لفتح حدود مصر رسمياً لمنظمة حماس مما يعد اعترافا ً بها ممثلا ً شرعيا ً للشعب الفلسطيني في غزة بجانب منظمة التحرير في رام الله ، أى الإقرار بدولتين فلسطينيتين وهو ما ستطير به إسرائيل فرحا ً إذ ُيفكك لها ما تبقى من المنظومة العربية المبعثرة أصلا ً، بينما ُيحشر الأمن القومي المصري ذاته بين مطرقة الإمارة الحمساوية الدينية على الحدود وبين سندان منظمة الأخوان الدينية في الداخل ! كذلك لم يسأل الملتفون مخـّلصهم عن التناقض في خطته لبناء الدولة العلمانية وموافقته بسماحة "لبرالية" غريبة على قيام حزب ديني ّ للإخوان المسلمين والذي سيتبعه قطعاً ً قيام حزب مسيحي للأقباط ، مما يمهد لحرب أهلية لا ريب فيها .
هذه الأسئلة وغيرها لم تنجح النخب السياسية في طرحها ، ومحاولة الإجابة عليها ، وذلك لانشغالهم بسؤال التغيير بصيغة " من البديل ؟ " وهي صيغة – كما رأينا – ُتبقى هياكل الدولة والمجتمع على حالها الموروث من العصر الفرعوني ولو بأزياء مختلفة . فيا ليت المثقفين يطرحون سؤال التغيير الحق بصيغة " كيف ؟ "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انها خطوة للاختلاف مع الماضي
محمد البدري ( 2010 / 3 / 14 - 03:38 )
بعد تحيه واحترام للدكتور بندق، فان الدرس المصري في انتظار المخلص، ادي لان يقع المصريين في براثن كل افاق زنيم. وهو ما جعلهم يغوصوا اكثر في فكرة الانتظار. فكلما ذادت الغمة طال الانتظار وجاءهم من هو اكثر ظلما واستبدادا.فهل نولد من جديد ونعتبر العولمة تحررا لهم شرط ان يغيروا منظومتهم الفكرية والثقافية الموروثه التي جعلت التاريخ كزمن يقل عن زمن انتظارهم للمخلص. ما اعلنه البرادعي هو ذاته ما طالبت به القوي السياسية الحالية بعد ان جرت تحت جسورهم كل انواع المياه الاسنة ودون الاعتراف منهم بمدي روائحها النفاذة المنفرة. التخلص من المخلص والمهدي وكل من لا ياتي مشروط إذن بعقد جديد علينا كتابته ووضع نسخه منه علي باب كل دار واعيننا علي سبعة الاف سنة ضاعت في الانتظار. فبدلا من حفظ الترانيم والايات البينات من كل ذكر حكيم علينا بحفظ الدستور الجديد تجاوزا للتاريخ وللبرادعي ايضا.


2 - لا لمن يستبد بالناس
صلاح قنديل ( 2010 / 3 / 14 - 15:48 )
أوافق الدكتور مهدي على ما يقول ، وأزيد عليه شكي في كون البرادعي بريئا من الانخراط في مخطط غربي ( أمريكي أوروبي)يستهدف تقسيم المنطقة ومصر في قلبها إلى دويلات -متجانسة- ! سنية وشيعية وكردية ونوبية وقبطية وبهذا يضمن الغرب السيطرة على تلك المنطقة الي ابد الآبدين وقد كشفت مجلة القوات المسلحة الأمريكية عن ها المخطط منذ ثلاثة أعوام . وللأسف فنحن العرب لا نقرأ . وإذا قرأنا لا نفهم وإذا فهمنا لا نفعل. فما الحل يا أمة ضحكت من جهلها الأمم ؟


3 - البرادعي مرة أخرى؟
شيماء ( 2010 / 3 / 14 - 20:35 )
الأستاذ الكاتب يرفض الرادعي فهل هو راض عن مبارك ؟ وهل يمكن لشعب مصر أن يظل يحكم بهذا الدكتاتور ليرثه ابنه حتى يموت الناس جميعا ؟ لماذا تخافون من البديل حتى ولو كان غير جاهز بنطرية وبرنامج؟ فل سيكون أسوأ مما نحن فيه الآن ؟ وشكرا


4 - تعليق
سيمون خوري ( 2010 / 3 / 15 - 02:46 )
الأخ الكاتب المحترم تحية لجهدك القيم . للحقيقة أعجبتني فكرة - المخلص - من الزاوية التاريخية. وهي فكرة جميلة تستحق التفكير بها . بعيداً عن الشأن السياسي المصري الراهن . وهذا حديث ذو شجون أخرى . كنت أتمنى إلقاء مزيد من الضوء على الفكرة من الناحية الفلسفية . ومع ذلك لك الشكر.


5 - لا جدوى يا يسوع
محمد فراج ( 2010 / 3 / 16 - 16:35 )
هذا هو الانطباع الذي خرجت بع من قراءة هذه المقالة

اخر الافلام

.. من هم المتظاهرون في الجامعات الأمريكية دعما للفلسطينيين وما


.. شاهد ما حدث مع عارضة أزياء مشهورة بعد إيقافها من ضابط دورية




.. اجتماع تشاوري في الرياض لبحث جهود وقف الحرب في غزة| #الظهيرة


.. كيف سترد حماس على مقترح الهدنة الذي قدمته إسرائيل؟| #الظهيرة




.. إسرائيل منفتحة على مناقشة هدنة مستدامة في غزة.. هل توافق على