الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدولة بين الحياد والتدخل

محمد نبيل الشيمي

2010 / 3 / 15
الادارة و الاقتصاد


هناك ما يسمى بالليبرالية الاقتصادية التى تقوم على سياسة عدم تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادي تحت فكرة ان الإنسان يتحرك بدافع المصلحة الذاتية وان هناك قوانين معينة وثابتة تؤدى الى التعاشق الطبيعي بين المصلحة الذاتية والمصلحة العامة – وكانت الرؤية الفلسفية لهذا المبدا تؤكد على انه لو ترك لكل إنسان أن يتابع مصلحته الذاتية بمفرده ( ينتج / يبيع/ يشترى / يفترض ويفرض ) دون تدخل خارجي فان المحصلة ستكون فائدة متعادلة لجميع أفراد المجتمع وستكون قوانين العرض والطلب الضامنة لأفضل انتشار مستعرض لرأس المال والعمل .... وعلى الحكومة الوقوف كحكم لا يشارك فى اللعبة . هذه فلسفة الفكرالرأسمالى المتمثلة في المنافسة الحرة وآليات السوق ... هما وحدهما الآليتان المنظمتان للتفاعلية الاقتصادية .
كان سمبث يري ان الدولة يجب الا تعترض الحرية الفردية ... وان تكون بعيدة عن إدارة النشاط الاقتصادي الذي يحقق التوازن بفعل اليد الخفية التي تعمل على تحقيق التوازن بين العرض والطلب من خلال مناخ تنافسي.ويشار في هذا الصدد أن البرجوازية التجارية كانت دائما تطالب بالدعوة الى الفصل بين الاقتصاد والدولة ) كانت الدعوة إلى مبدأ الحرية الاقتصادية مرتبطة بالدعوة الى الحرية السياسية والدفاع عن حقوق الفرد في مواجه سلطة الملوك .
... وعلى الرغم من كل الأدلة والبراهين التي ساقها مناصرو الرأسمالية من مزايا ترك النشاط الاقتصادي حرا بعيدا عن تدخل الدولة ألا أن النتيجة كانت غير ذلك - لقد تزايد البؤس والظلم بفعل تفشى البطالة وتحول المنتجين الصغار إلى إجراء – واتضح ذلك بعد الثورة الصناعية وزيادة المنافسة بين الرأسماليين لتعظيم إرباحهم حتى ان احد كبار فلاسفة الرأسمالية (جون ستيوات مل) رأى أهمية تغيير قوانين التوزيع باعتبارها قوانين سند لمصلحة طرف أقوى – ومن ثم فان هناك تحفظات على مبدأ الحرية الاقتصادية فهو ليس النظام الأمثل الذي يحقق المساواة لكافة أفراد المجتمع .زد على هذا ظهور عدد من المفكرين ذوى النزعة الاشتراكية الذين تراوحت آرائهم ما بين تغيير الأسس التي قام عليها النظام الرأسمالي ككل وهى إهدار مبدأ الحرية الاقتصادية إلى إعادة النظر في القواعد التي تحكم الإنتاج والتوزيع – حتى وضع كارل ماركس كتابه الشهير (رأس المال) وضع لبنات الفكر الشيوعي القائم على مبدأ تملك المجتمع لوسائل الإنتاج والتبادل والتوزيع وتركها على الشيوع ومن ثم فان دور الدولة لابد أن يتسع ويصبح كل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي خاضعا للتخطيط المركزى ... وقد نجحت الافكار الشيوعية فى روسيا القيصرية وتمكن الفلاسفة من اقامة النظام الشيوعى كعقيدة فكرية لكل ما يتعلق بالنشاط الانسانى – وكان ماركس يرى ان اى ازمة اقتصادية يتعرض لها النظام الرأسمالى سوف تؤدى الى انهياره باعتبار ان الازمة هى التعبير عن التناقض ما بين الطابع الاجتماعى للانتاج والشكل الخاص للتملك اى التناقض ما بين تطور قوى للإنتاج وعلاقات الإنتاج ..... على ان العالم الغربى بقي على ايمانه بان دور الدولة لابد ان يكون محصورا فى وظيفة الأمن والدفاع ( الدولة الحارسة ) ... وظل الأمر علي حالة حتى حدث الزلزال العظيم الذى ثبت فيه عدم قدرة مذهب الحرية الاقتصادية على الصمود امام الأزمات الاقتصادية ففى يوم يسمى بيوم الخميس الأسود الموافق 24/10/1992 انهارت الاسعار فى سوق الاوراق المالية فى نيويورك وكان ذلك بمثابة بداية لحدوث الكساد العظيم الذى افلس فيه عدد من البنوك والمصانع والمناجم واغلقت المصانع ابوابها وتشرد العمال ويذكر فى هذا الصدد ان اكثر من 25 مليون عامل فى ارجاء العالم فقدوا وظائفهم وهبطت اسعار الجملة وبارت المحاصيل حتى ان بعض الدول تخلصت من منتجاتها بالحرق او الإلقاء فى البحر ... وكان ذلك بمثابه دعوة الى الاعتراف بدور الدولة فى ادارة النشاط الاقتصادي وإعادة توازنه ... وكانت اعلانا بانتهاء فكرة ترك قوى السوق تعمل على تحقيق التوازن
فى خلال تلك الإثناء درس كينز الوضع الاقتصادي العالمي – وتوصل إلى نتائج اصدرها فى كتابه النظرية العامة في التوظف والفائدة والنقود عام 1936حيث دعا الدولة الى التدخل فى الاقتصاد وتوجيهه خدمة للصالح العام من خلال زيادة الانفاق العام بهدف تشغيل العاطلين عن العمل والذى يؤدى بدوره الى زيادة انفاقهم لشراء السلع والخدمات وهذا يؤدي الى تنشيط حركة الاقتصاد وازدهاره مما يؤدى الى زيادة ايرادات الدولة من الضرائب التى تقوم بانفاقها على المواطنين في كافة المجالات الاجتماعية.
وقد ادى تطبيق اراء كينزفى ضرورة تدخل الدولة فى الاقتصاد احداث حالة من الاذدهار الاقتصادي علي الرغم من زيادة الدين العام ، واخذت مبادىء النظرية الكينزية تنتشر من خلال مؤيديها الكثيرون فى العالم مستندين الى النجاحات التى حققتها من خلال التطبيق فى الدول الرأسمالية خلال الخمسينات والستينات الا ان حدوث الازمة الاقتصادية العالمية فى عقد السبعينات والتى بدأت بارتفاع الأسعار وخاصة النفط بعد أزمة 1973 والتي تلاها حدوث ركود اقتصادي طويل أدى الى تقهقر النظرية فى صالح مؤيدي نظرية الليبرالية الجديدة وبعد تطبيق النظريات الجديدة حدث الازدهار الاقتصادي في الغرب بعد عام 1983 والذي استمر طويلا وصادف خلال تلك الفترة انخفاض أسعار معظم المواد الأولية وخاصة النفط وارتفاع وتيرة الثورة التكنولوجية الهائلة خاصة في مجال الاتصالات ورغم حدوث بعض الأزمات الاقتصادية العالمية مثل أزمة عام 1987 المالية الا ان الاقتصاد الراسمالي خرج منها سليما حتي حدثت الازمة العالمية عام 2008 مما أدى الى التدخل الحكومي الواسع النطاق لإنقاذ الاقتصاد مما يعنى بصورة عملية الرجوع الى رؤية في التدخل الحكومي لتنشيط الاقتصاد من خلال ضخ الأموال والعمل على التشغيل الكامل للعاطلين عن العمل
كانت الازمة خطيرة واصبح العالم علي شفا الافلاس بعد اصابة المؤسسات المالية في الولايات المتحدة بالانهيار وانتقلت اثارة ولو بدرجات متفاوتة الي دول اوربا والصين واليابان مهددة العالم بكارثة اقتصادية غير مسبوقة حيث تراجعت البورصات وهبطت اسعار المحصيل وانخفضت اسعار البترول وهكذا لم يعد هناك من امل لتدارك الموقف الامن خلال دور فاعل للدولة حتي ولو كان ذلك تحت مسميات لا تعطي للتدخل مفهوما ايديولوجيا ولم يعد هناك لدي منظري الراسمالية اي حجج يرتكنون عليها للابقاء علي الدولة بعيدا عن التدخل وبدا منهم من يري ضرورة التخلي عن الليبرالية المنفلتة تحت وهم اقتصاد السوق ودور اليد الخفية فى خلق التوازن الاقتصادى
اثبتت الازمة ان الارسمالية لم تعد الخيار الامثل لادارة النشاط الاقتصادي فلا شك ان طبيعة التناقضات داخل النظام الراسمالي المتمثلة في انماط الانتاج والتي تنتهي غالبا الي وجود فائض انتاجي يزيد عن حاجة الطلب ومن ثم تنخفض المبيعات ويضطر المنتجون الي تخفيض الطاقات الانتاجية وتخفيض العمالة ومن ثم يزيد عدد العاطلين عن العمل وهكذا يدخل المجتمع في حالة عدم الاستقرارالاقتصادي يتمثل ما بين موجات كساد وركود
كانت الازمة جرس انذار وكانت ردة الفعل شديدة فقد ادرك العديد من المفكرين وعلماء الاقتصاد بان الليبرالية الاقتصادية القائمةعلي اقتصاد السوق وعدم تدخل الدولة فشلت فشلا ذريعاوبدأت مرحلة جديدة طالب فيها رجال الاقتصاد باتخاذ مواقف سريعة للانقاذ بل ان منهم من نادي بتاميم المنشات الاقتصادية والمالية انقاذا للموقف والملاحظ ان الولايات المتحدة شهدت في بديات الازمة تدخلا قويا من جانب الحكومة حيث قامت بادماج بنك ميرل ليتش مع بنك اف امريكا فضلا عن تأميم شركتي فاني ماي وفريدي ماك للرهن العقاري في حين قامت حكومة العمال في بريطانيا بتاميم جزئي لبعض البنوك التي اضيرت من الازمة ودعا الرئيس الفرنسي بوضع قانون جديد يفرض الرقابة علي الاسواق المالية العالمية في حين اعترف مدير صندوق النقد الدولي بخطورة الازمة مؤكدا علي انها ناتجة عن فشل ذريع فى التنظيم والاشراف فى االدول المتقدمة وفشل فى آليات انضباط السوق وهكذا اصبح هناك قناعة تكاد تكون جماعية بان دور الدولة لم يعد فقط توفير الامن والدفاع عن الوطن ( الدولة الحارسة ) بل يتعدى ذلك كثيرا الى الامن الاجتماعى المتمثل فى توفير الحقوق الطبيعية للمواطن من الحصول على فرص العمل المناسبة ولقمة الغذاء الكافية وجرعة الماء النظيفة والحق فى الحصول على فرص العلاج والحصول على السكن الصحى بمعنى توفير كل مقومات الحياة وهذا هو مفهوم الدولة المتدخلة التى تضع نصب عينها العدل الاجتماعى والذى لن يتحقق مطلقا من خلال ترك آليات السوق حرة بدون ضوابط حتى توحشت ولم يعد صالحا الآن أن تقول ان اليد الخفية ستخفف من آثار الازمات الاقتصادية التى عصفت بمصالح الطبقات الفقيرة وزادت من الهوة الداخلية بين الاغنياء والفقراء . ان الازمة اثبتت بما لايقبل الشك ضرورة ان تكون الدولة الفاعل الرئيسى فى المجتمع والا يقف دورها كما يريدها الرأسماليون دورا تقليديا محصور فى حفظ الامن والدفاع بل يجب ان كون لها اليد العليا فى ادارة الاقتصاد ولم يعد منطقيا ان تقف الدولة على الحياد ..الليبرالية الاقتصادية تراجع نفسها بعد تكرار فشلها وكانت الازمة المالية العالمية بمثابة فتح الباب امام منظرى الفكر الراسمالى لاعادة دراسة المفاهيم الرأسمالية وهانحن نرى دوائر المال فى الغرب تعيد تعريف الدولة المتدخلة ويكفى ان ننظر الى خريطة العالم ونرى الحكومات وقد اصبح لها دور فاعل فى ادارة شؤون الاقتصاد باعتبارها الضمانة الحقيقية لحقوق المواطنين فى العدالة الاجتماعية والتنمية والتقدم فهي ا لدولة .. المتدخلة والحارسة فى آن واحد..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجة الحر في مصر.. ما الأضرار الاقتصادية؟ • فرانس 24


.. الرئيس الفرنسي يحث الاتحاد الأوروبي على تعزيز آليات الدفاع و




.. تقرير أميركي: طموحات تركيا السياسية والاقتصادية في العراق ست


.. إنتاج الكهرباء في الفضاء وإرسالها إلى الأرض.. هل هو الحل لأز




.. خبير اقتصادي: الفترة الحالية والمستقبلية لن يكون هناك مراعي