الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاربة الارهاب بالفساد

سمير طاهر

2010 / 3 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


"حقبة باراك أوباما" تسمية خاطئة للسياسة الأمريكية الحالية وفَلَكها العالمي، والأصح أن تُدعى حقبة ما بعد جورج دبليو بوش. والمتابع لمفكرة أعمال و"انجازات" الادارة الحالية تمكنه ملاحظة ان عملها الرئيسي في النطاق العالمي ليس اختطاط سياسة جديدة بقدر ما هو كنس مخلفات الادارة السابقة، وهو بحد ذاته سيكون عملا كبيرا لو تعدى نطاقه الحالي في تحسين العلاقات الى استئصال الأسباب التي خربت تلك العلاقات. وحتى من الناحية النظرية يصعب قبول ان التأثيرات الشمولية والعنيفة التي أحدثتها فلسفة المحافظين الجدد في السياسة العالمية خلال أعوام ثمانية يمكن أن تختفي بين عشية وضحاها بمجرد حزم أغراضهم من البيت الأبيض. ومع ذلك فليس الجانب النظري هو ما يعنينا هنا وإنما واقع عالمي يُظهِر أنه اذا كانت عقيدة "الحرب على الارهاب" قد انتهت حقبتها (التعبير نفسه كفت إدارة أوباما رسميا عن استخدامه) فان ثمارها الفاسدة ما تزال تسمم مناطق كثيرة من عالمنا وتصدّر الفائض من سمومها الى المناطق الأخرى، ولا يبدو انها ستسقط في المستقبل المنظور. هنا علينا أن نصحح تصوراً شائعاً آخر مفاده ان تلك الحرب على الارهاب قد أنتجت اجماعا دوليا على خطورة منظمة القاعدة على جميع البلدان، فالواقع ان أخطر ما أنتجته هذه الحرب، سواء على المجتمعات كما على السياسة العالمية، هو عولمة الفساد السياسي. فالمبدأ ذاته الذي يسم العولمة الاقتصادية، وهو الاتجاه من المركز الرأسمالي الى الأطراف، ينشط في ظاهرة الفساد السياسي العلني الذي صاحب الحرب العالمية على الارهاب: فانطلق هذا الفساد من المركز ذاته ليكتسح الاطراف مجبراً إياها وبقوة التهديد على الانصياع إليه واتباع خطاه.
انطلق الفساد من واشنطن أولاً متمثلاً بالطابع التعسفي، والذي تحول بعد ذلك الى عجرفة سافرة، الذي ضُمِّنَ في شعار الحرب على الارهاب كما ورد في أول خطاب لجورج دبليو بوش بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. حيث انفردت الإدارة الامريكية في تحديد مفاهيم هذا الشعار ومقاييسه الجغرافية والاثنية والدينية. وعندما فَرَضت تدويله فقد جعلت منه عقيدة ومن نفسها أوليغاركية على مستوى العالم، الأمر الذي يفسر وقاحتها بازدراء القانون الدولي واستبدال المبادئ التي قامت عليها هيئة الأمم المتحدة بهذه العقيدة الجديدة التي يوحي اسمها الجاف بالعنف والقمع المنظمَين ويخلو من طراوة انسانية أو ملمح إيجابي. والآن لنتصور أي نوعية من الأدوات البشرية يمكن أن تكون عوناً في طريق كهذه، وأي نوعية بشرية ستُكَوّنها هذه الطريق. فلا توجد حكومة نزيهة حقا تقبل بالمشاركة في مخطط يذبح الديمقراطية وحقوق الانسان والقانون الدولي كقربان تقدمه لمكافحة الارهاب (حتى مع افتراض ان هذا الهدف حقيقي وليس غطاء لمصالح أخرى أمريكية حصراً). وقتها بدا لصقور البيت الأبيض ان من غير الممكن انجاح مخططهم من دون إحداث تغيير ضروري: إفساد الحياة السياسية على نطاق دولي. وبذلك كان لمبدأ "إما معنا أو ضدنا" الذي وضعه بوش أمام حكام الدول معنى محدداً: إما أن يقدموا لأمريكا القربان المذكور آنفاً، أو يزولوا. فشُجِّع، وأُرغِم في الآن ذاته، "أنصاف الديكتاتوريين" على أن يصيروا ديكتاتوريين، وأنصاف الفاسدين على أن يصيروا فاسدين علناً (كان الربط بين تدفق المساعدات الأمريكية للدول وانصياع حكامها للارادة الأمريكية يُذْكَر علناً في التصريحات الرسمية إثْر لقاءات المبعوثين الأمريكان مع حكام تلك الدول) والحكام "المتعاونين" على أن يبيعوا، ويبيحوا، بلدانهم للقرار والجيش الأمريكيَّين. وإذا كان هذا مفهوما بقدر تعلق الأمر ببلدان ضعيفة فان ما حصل في "المركز" كان سلسلة فضائح؛ فقد خالفت "ديمقراطيات" عريقة دساتيرها والقوانين الدولية وأباحت للأمريكان ما أباحته الدول "الضعيفة": أراضيها ومطاراتها وأجواءها، لخدمة عمليات خطف وسجن وتعذيب مشتبه بهم. والأخطر هو ما أسفرت عنه لجنة شيلكوت للتحقيق في حرب العراق من خيانات وطنية وتضليل وأكاذيب ليس على الشعب البريطاني والبرلمان فحسب وإنما حتى على وزراء الحكومة نفسها (راجع شهادة الوزيرة كلير شورت أمام اللجنة) من قبل توني بلير بالدرجة الأولى وبضعة مساعدين متواطئين معه. كل المسألة، والغرض الأصلي من هذه الممارسات، هو إخفاء حقيقة أن قرار غزو العراق كان قد اتخذ في واشنطن ولندن قبل هجمات نيويورك في 11 سبتمبر 2001 بزمن! حتى إذا ما انطلقت القطعات الأمريكية صوب العراق (البلد الذي تبين فيما بعد أنه لا علاقة له بهجمات نيويورك بالمرة!) وأسفرت الادارة الأمريكية عن مخططها للشرق الأوسط متخلية عن ذريعتها العلنية قابعةً في أفغانستان، تكشّف ان هذه العملية الهائلة، بخسائرها التي لا تحصى ولا تعوَّض، كان عمادها التضليل. فلا نستغرب أن ينتهي التحقيق الذي أجرته صحيفة الديلي تليغراف البريطانية (13 يناير 2010) حول شهادة مسؤول الاتصال في حكومة توني بلير الى أن المذكور كان يمارس، طيلة فترة التحضير للحرب، "هوساً مَرَضياً بسياسة التلفيق والتلاعب بالمعلومات لتشكيل الرأي العام" وتعامياً مقصوداً عن "النتائج المدمرة والكارثية" لغزو العراق؛ ولا نستغرب أن تفضح صحيفة الغارديان (في اليوم نفسه) السلوك المنافق بشكل احترافي لتوني بلير خلال الفترة ذاتها عندما كان يتعاهد بالسر مع جورج دبليو بوش على غزو العراق وفي الوقت نفسه يتحرك بالعَلَن "بنشاط!" من أجل حل النزاع مع النظام العراقي بشكل سلمي! وهكذا كلما تكشفت حقائق جديدة عن "الحرب العالمية على الارهاب" تأكّدَ أن أساس الجدل يتعلق بالاخلاق أكثر منه بالسياسة. فالحكام المسؤولون بالدرجة الأولى عن هذه الحرب هم أنفسهم الذين، في حياتهم المهنية، وفروا الغطاء والحماية للرشوة (صفقة اليمامة نموذجاً) والاختلاس (ما فضائح شركة هاليبرتون برئاسة ديك تشيني، وشركة كولوج براون أند روت سوى جزء من سلسة طويلة باتت مكشوفة) واستغلوا مناصبهم لمكافأة المجرمين ومعاقبة النزيهين سواء في إداراتهم كما في برلماناتهم.
نتيجة لكل هذا العبث بمصائر البشر، جعلت "الحرب على الارهاب"، وعلى العكس مما وعدَتْ به، العالم أسوأ والسياسة أقذر، الأمر الذي ما كان له أن ينتج شيئا آخر غير ما أنتجه من حكومات فاسدة وقمعية في طول العالم وعرضه، عبر عولمة الفساد السياسي. انها الآلية ذاتها التي تكررت على مر التاريخ: أن تحصل، في لحظة تاريخية معينة، استجابة متبادلة بين المتطلبات الموضوعية للمرحلة وطموحات أفراد مغامرين، فيجد كل من الطرفين ضالته في الآخر: بهذه الكيفية أصعدت السياسة الأمريكية الى مراكز النفوذ في بلدان، والى سدة الحكم في بلدان أخرى، أفراداً منحرفين غرقوا في كل أنواع الفساد والسمسرة وحتى الاجرام، بالتشارك مع متنفذين أمريكان (العراق مثلاً ـ راجع تحقيقات الكونغرس عن الفضائح "المذهلة والصاعقة" بوصف هيلاري كلنتون حين كانت في المعارضة!) أو مع رجال قبائل وتنظيمات مسلحة (باكستان مثلاً) أو زارعي وتجار مخدرات (أفغانستان مثلاً).
لكن هؤلاء المغامرين ليسوا بالحماقة التي تجعلهم يعلقون بقاءهم على الامريكان. فقد عملوا بجَدّ على ترسيخ وجودهم الحالي والمستقلبي في بلدانهم وبكل السبل المتاحة. وبالتدريج تمكنوا من أن يصبحوا مستقلين بامكاناتهم المالية ونفوذهم المحلي وزاهدين بدعم الولايات المتحدة. لقد وطد الفساد الذي زرعته إدارة بوش في تلك البلدان أقدامه في الحكم والادارة، وعمّمَ تقاليده في المجتمع، باستقلال عن القوة الدولية التي خلقته. وواصل هذا الفساد الحياة بعد أن ولّت حقبة المحافظين الجدد في أمريكا. ان الفساد المالي، والاستحواذ على المال العام، والتزوير الفج للانتخابات، والانتهاك المنهجي لحقوق الانسان وبدرجات متطرفة ودموية، والقمع الجماعي، وإهمال المتطلبات الأساسية للبلاد والمواطنين بسبب الانشغال برعاية المصالح الضيقة والشخصية للحكام وطبقتهم، هي ظواهر كارثية راهنة في بلدان تحكمها أوليغاركيات حكمت، أو استقْوَتْ، بفضل موجة "الحرب على الارهاب" منذ أواخر 2001.
وكرد فعل على هذا الواقع غير العادل تأخذ أعداد متزايدة من الشباب طريقها الى المنظمات الاسلامية المسلحة المعادية للسلطة، مما يجعل الأخيرة تطلب الاسناد الأمريكي العسكري والمالي وهذا بدوره يزيد الغضب الشعبي وهلم جراً. وحين تحاول الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد الأوروبي هذه المرة، معالجة هذه المعضلة تتكشف لها حلقة مفرغة يعتاش فيها الارهاب على الفساد ويعتاش الفساد على الارهاب! فمن ناحية، يشكل فساد الادارة البيئة المثالية بالنسبة للمنظمات المسلحة لكي تمرر مخططاتها وتنفذ عملياتها. ويدين رجال المنظمات المسلحة ببقائهم واستمرار نشاطاتهم للمتنفذين في أجهزة الدولة الذين تم شراؤهم (أسرة حامد كرزاي نموذجا) ولجَوّ الرشوة الذي يخيم على كل مكان في البلاد (راجع تقرير الأمم المتحدة الذي يكشف ان الافغان قد دفعوا رشوة خلال عام 2009 ما يعادل مليارين ونصف المليار دولار، أي ربع الناتج المحلي! ومكانة اليمن والعراق ومصر في التقارير السنوية الأخيرة لمنظمة الشفافية الدولية). ومن ناحية ثانية، يغدو "الارهاب" حجة لهذه الانظمة لابتزاز الغرب، الأمر الذي دفع بالبعض في مؤتمر لندن حول اليمن الى الطلب الى الرئيس اليمني بضرورة التوقف عن اختلاق الانتصارات الوهمية على "القاعدة" والمبالغة في تصوير خطورة الأفراد المقبوض عليهم للحصول من الغرب على المزيد من الأموال والحماية. كما طُلِبَ شيء مشابه من كرزاي في مؤتمر لندن الآخر حول أفغانستان!
لقد شجعت "الحرب على الارهاب" كِلا الارهاب والفساد على الاتساع. هذا ما على الغرب أن يعترف به لكي يتمكن من اتخاذ البداية الصحيحة لطريق جديد. فمن خلال مؤتمرات المانحين وإرسال المزيد من القوات الى البلدان المعنية وإغراء المسلحين والحكام معاً بالأموال يحاول الغرب أن يقنع نفسه بوَهْمِ أن الدولة الفاسدة هي الاداة المناسبة للقضاء على الارهاب. لكن المضي في هذا الطريق سيراكم التناقضات بدل أن يقضي عليها؛ وفي نهايته سيفاجَأ العالم بهزة كبرى جديدة.
بدل أن ينكب الغرب على عمليات ترقيع لسياسة المحافظين الجدد سيئة الصيت عليه أن ينفض يده منها بكل صراحة. وبدلا من الاصرار على المراهنة على الفاسدين تنبغي مقاطعة هؤلاء وترك مصيرهم لشعوبهم. ان فكرة العداء بين الحكم الفاسد والارهاب مضلِّلة، فهما ليسا بالتناقض الذي يجري ترويجه. لنلاحظ على الأقل أنهما يخرجان غالباً من بيئة سياسية واجتماعية واحدة. لكن من المستبعد أن الغربيين لا يدركون ذلك. المسألة ليست خللاً في إدراكهم وإنما هم، أيضاً وأيضاً، يسترشدون بمصالحهم وحدها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بات اجتياح رفح وشيكا؟ | الأخبار


.. عائلات غزية تغادر شرق رفح بعد تلقي أوامر إسرائيلية بالإخلاء




.. إخلاء رفح بدأ.. كيف ستكون نتيجة هذا القرار على المدنيين الفل


.. عودة التصعيد.. غارات جوية وقصف مدفعي إسرائيلي على مناطق في ج




.. القوات الإسرائيلية تقتحم عددا من المناطق في الخليل وطولكرم|