الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لماذا تراجعت الثقافة التقدمية و التحررية في العراق؟

حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)

2004 / 7 / 18
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


مرّت تأثيرات الحركات الفكرية التحررية التي قامت في أواخر عمر الرجل المريض العثماني ، و المريض "القاجاري
أيضا"، على العراق ( و قد كان ثلاث ولايات عثمانية) ، مرّت مرورا باهتا بدون أ، تترك آثارا عميقة لتحدث تغييرات أساسية في بنية المجتمع العراقي ( إذ لم يتشكل بعد أصلا) . إذ كانت هموم العراق غير هموم ايران وتركيا ، و الوجهة كانت موجهة لإقامة مؤسسات دولة القانون ، و هي في الوقت ذاته ضرورية لتقبل الفكر التحرري و التقدمي.
رغم أن في العراق لم تقم ثورة فكرية وتحررية ، ولم تتبلور تيارات فكرية لبرالية و تحررية ، الا انه كانت هناك جهود و مساع من قبل متنورين لنشر الفكر التقدمي و الثقافة التحررية ، و برز سياسيون احرار من امثال الراحل الجادرجي و الشاعر التقدمي التحرري جميل صدقي الزهاوي و سواهما.
كانت ثورة المشروطة التي هبت بشكل ما على العراق عن طريق بعض المثقفين العراقيين و رجال دين متنورين في بدايات القرن العشرين حركة لبرالية وتقدمية معادية لسلطة الإقطاع ، وقد كانت في مقدمة أهداف هذه الثورة اقرار العدالة و إقامة دولة القانون و البرلمان ، إذ اقتبست قانونها الأساسي " الدستور" من الدستور البلجيكي. إن المعايير و القيم الفكرية والفنية و الأدبية في فترة المشروطة تأثرت بشكل كبير باللبرالية الغربية ، وطالبت بتطبيق منجزات التمدن الغربي من قبيل الصحة و التربية و التعليم و القضاء و العلم و الفن و الحقوق المدنية و غيرها في المجتمع الإيراني . و كان مفكرو تلك الفترة يدعون إلى تبني الثقافة و المدنية الغربية ، وكانت نتاجاتهم دعوة إلى إيقاظ مجتمعهم المتخلف و الغافي – حسب تعبيرهم- و لم يكن مثقفو فترة المشروطة يعادون الغرب بل بالعكس ، كانت الثقافة و المدنية الغربيتان نموذجهم المنشود الذي يبتغون تبنيه والترويج له في مجتمعهم. أن دعوة الزهاوي لتحرير المرأة و نظرته الواقعية للدين تشبه إلة حد كبير أفكار مثقفي المشروطة.
وقد كان انقلاب 14 تموز 1958 حدا فاصلا بين مرحلتين في تاريخ العراق ، و لا أقصد هنا فترتي الملكية و الجمهورية ، فالتحول من هذه المرحلة إلى أخرى في حالتنا العراقية ليس بجوهري و التسميات لا تقدم أو تؤخر.
و لم يكن مثقفو المشروطة و مثلهم مثقفون عراقيون كبار كالزهاوي يسيرون وراء التقاليد و الموروثات الشعبية و الخرافات السائدة ، بل كانوا ينتقدونها في نتاجاتهم و يدعون الناس إلى التخلي عنها. بكلام آخر كانت حركة تحديثية تستلهم كل أفكارها من الثقافة الغربية و تعادي التقليدية و الشرقوية ، كما كانت اطروحاتها تتميز بالوضوح الفكري و الموضوعية : برلمان ، دستور و استقلال السلطات الثلاث و العدالة و الصحة و التربية و التعليم و الفن الحديث و التقدمي ، أي بمعنى آخر كل ما تحقق في اوروبا الغربية مما كنا متخلفين عنه بمئات السنين. و قد استمرت هذه الحركة لعقود لتنحسر و تترك مكانها للأفكار الوطنية البالية و الرجعية.

كان الزهاوي و زملاؤه يعادون الدين و الشرقنة ، و يرون الحضارة الغربية أفضل من المحلية ، و رغم أنهم كان وا وطنيين إلا أنهم لم يضعوا وطنيتهم في مواجهة العصرنة و التحديث.
أرى أن انحسار اللبرالية وتراجعها المتمثل في تصاعد الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين و المسير التقهقري للأفكار التحررية و اللبرالية في العالم الغربي من جهة ، ونمو الحركات الوطنية المطالبة بالإستقلال و المعادية للغرب في العالم الثالث سبب رئيسي لإخفاق الحركة التقدمية في العراق . فمنذ أواخر السبعينات من القرن الماضي لم تعد التقدمية و العلمانية و اللبرالية و الحرية تتمثل في حركة المجتمع العراقي الثقافية ، ولا في التيار الثقافي الرئيسي المعارض ، وإن كانت تتمثل ، كانت خافتة و هامشية.
منذ السبعينات اصبحت عبارات احترام " تقاليد شعبنا" و " ديننا الحنيف" " والعفة " والشرف" و " معاداة الغرب" طاغية على الخطاب الفكري و الثقافي السائد في العراق ، و شرع يبرز مثقفون أقزام و تافهون لا تليق بهم حتى تسمية اللبرالية . فقد أخلى الزهاوي و الجادرجي و حسين مردان و و رفاقهم أماكنهم ليشغله هادي العلوي و مظفر النواب و زكي خيري و عامر عبد الله و أمثالهم . و قد اصبح الخطاب السياسي لليسار العراقي الرسمي و ما كان يسمى بالأدب التقدمي خطابا رجعيا متخلفا إلى حد كبير.
وأن ما يميز هذه المرحلة هو العداء للغرب و المدنية الغربية ، و سيادة الفكر القومي و التقليدية.
كانت المشروطة و الحركة الدستورية في تركيا و المثقفون التحرريون في العراق يتسمون أيضا بالوطنية ، لكنها كانت وطنية غير معادية للغرب ، لكن الوطنية في الفترات التالية بعد 14 تموز و خاصة منذ نهاية سبعينات القرن الماضي كانت معادية للغرب بشدة ، بمعنى العداء للعصرنة و الثقافة الغربية ، وكانت شديدة التمسك والإلتزام بالثقافة والتقاليد البالية ، وتابعة لها . وكان مثقفو العراق اللبراليون من امثال الزهاوي و سواه وطنيين ، لكن لم يكن أي واحد منهم يعشق الثقافة الشعبية البالية و التقاليد المتخلفة ، بل كانوا ينتقدونها ، بعكس مثقفي"اليسار القومي" الذين كانوا ولا يزالون يقدسونها.
فهذا الخط الفكري الشوفيني تجذر اكثر مع اشتداد الدكتاتورية البعثية و تفرغ الريف من الفلاحين للاقامة في المدن ، و بدأ البعض ينافسون النطام البعثي العروبي في الوطنية و التقليدية و القومية لكي يبزوه ، لكن بدون جدوى ، و قد عبر أحد اليساريين بقوله إن الفلاحين إنتقلوا إلى المدينة لكي يصبحوا عمالا و ظل المثقفون في الريف حيث يعيشوا ، يتباهون بريفيتهم. فهذه الفترة تتميز بالتراجع عن القيم التقدمية ، وبروز و تصاعد القيم الإقطاعية و العشائرية . و وفق هذا الخط الفكري يكون كل ما هو محلي وو طني محل فخر واعتزاز ، والكل يعرفون ان المحلية هي الرجعية و التخلف .
و حسب الفكر الوطني و اليسار القومي أن كلّ ما لنا هو خيّر حتى لو كان عبارة عن خرافات و تقاليد بالية ، و التي كان المثقفون الأحرار في العهد الملكي ينتقدونها . ف" نحن" الإقطاعية و العشائرية تم و يتم إحياؤها لمواجهة الغرب و ما يسمى بالصهيونية و الغزو الثقافي الغربي ، و هذا ال" نحن" توصف بالثورية . ف" نحن" هنا تعتبر فكر حركة الإستقلال للبرجوازية الصغيرة الحائرة بين حجر الرأسمالية و رحى الشيوعية . فهذه البرجوازية الصغيرة عندما تنتقد الإمبريالية و الغرب ، تتخذ الكفاح المسلح و الإشتراكية الوطنية – الاشتراكية الافريقية و العربية و الصينية الخ- و اساليب عملها ، و عندما تبتغي تمييز نفسها عن الحركة العمالية والشيوعية تتبنى مبادئ آل البيت أو و زكي خيري و عامر عبدالله و هادي العلوي و الرجعية الأصيلة.
ومن جهة أخرى ، فهذه الأفكار يطلقها مفكرون غربيون . فالذين يعتبرون معاداة الغرب أو الغربنة – حسب تعبيرهم- أساسا لحركتهم الفكرية والثقافية ، هم أنفسهم واقعون تحت تأثير المفكر الألماني ارنست يونغر ذي الميول الفاشية . كما يعتبر فرانس فانون و امه سهزر و غيرهما ممثلين لهذا الخط الفكري .. فالخط الفكري الذي ينادي بالعودة إلى الذات و المحلية و التقاليد في مواجهة الغرب ، مصدره الغرب نفسه ، لكنه تيار فكري متخلف و لا يشغل أي مكان في الثقافة الاحتجاجية الغربية . ففي الستينات من القرن الماضي كان اليسار قويا في البلدان الغربية ، وغدت حركة رفض الحرب ضد فيتنام في أمريكا و اوروبا الغربية حركة عامة و قوية أيضا، ولها أدبها و موسيقاها و ثقافتها خاصة بين الشباب . فذلك التيار الفكري في اوروبا يتحول إلى أساس حركة الهيبيين و التي كانت حركة تقدمية رافضة للحرب و الطغيان ، وكانت حركة تنادي بالسلم و العدالة . و من المعروف أن الثقافة" المعارضة" في العراق تنتقد الهيبيزم و تعتبرها ميوعة و لا أخلاقية و مخالفة لعاداتنا و تقاليدنا ، فمثلا كان الشباب غير السياسيين يستمعون إلى موسيقى البيتل " الخنافس" ، بينما المثقفون المسيسون كانوا يفضلون الموال و المقام و أغاني أم كلثوم و شعر مظفر النواب على أغاني بوب ديلان و جان لينون و شعر لوركا . فطروحات من قبيل الإعتماد على الثقافة المحلية او الوطنية و تقديس التقاليد و العادات القومية والطائفية ، كانت لها دوما مدافعوها و كتابها في الغرب و اليوم تقف البوست موديرنيزم نفس الموقف. و من الطبيعي أن تلقى هذه الأفكار في بلدان مثل العراق و ايران و بلدان عالم ثالثية اخرى أرضية خصبة للنمو و التجذر مادام هناك الكثيرون متهيئين و على استعداد دائم لتبنيها والإيمان بها.
‏17‏/07‏/2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يؤيد قصف منشآت إيران النووية: أليس هذا ما يفترض أن يُض


.. عاجل | المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: هذا ما سنفعله مع إيران




.. عاجل | نتنياهو: لم نستكمل تدمير حزب الله وهذا ما سنقوم به ضد


.. قصف مدفعي إسرائيلي وإطلاق للصواريخ أثناء مداخلة مراسلة الجزي




.. نائب عن حزب الله للجزيرة: الأولوية لدينا حاليا هي لوقف إطلاق