الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هكذا أريد أن أحلمَ تحيّةً للإبداع العربي

أدونيس

2010 / 3 / 19
الادب والفن




الخميس, 18 مارس 2010

(زيارة الى مدينة حمص)

- 1 -

في حمص اختـــبرتُ، للــمرة الأولى، غضبَ الطبيعة - بارداً جداً، وخَشِناً جدّاً، وقاسياً جدّاً. مع ذلك، تعلّمتُ في هذا الاختبار كيف أحلق ذَقْني، يوميّاً، وأغسل يديّ ووجهي، بفنجانٍ واحدٍ من الماء. بُخلٌ في الواقع لم يعلّمني إلاّ الكرم في الفكر والحلم.

كان ذلك منذ ستٍّ وخمسين سنة.

ولكم كانت غبطةً كبيرةً تلك التي عرفتها في هذه المدينة، الأسبوع الماضي (8/3/2010)، بعد هذه الفترة الطويلة، في لقاءٍ شعريّ - فكريّ تمّ بدعوةٍ كريمةٍ خاصة من مطرانيّة الروّم الأرثوذكس، تتويجاً لمهرجانها الثقافي الفنيّ الذي تقيمه سنويّاً.

خُيّل إليّ أن القاعة التي تمّ فيها اللقاء محيطٌ من التوهّجات والتفتحات. كان الحضور جميعاً كمثل قاماتٍ من الضّوء تسطعُ في أرجاء القاعة. تستعيدُ الثقةَ، أنتَ الذي تكاد أن تفقدها. يُغويكَ الأملُ، أنت الذي يطاردكَ اليأس.

ازددتُ يقيناً بقدرة الشعر على استئصال الجدار العازل بين الفرد والفرد، خالِقاً مناخاً تتلاقى فيه المشاعر والأفكار في نشوةٍ توحد بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والكون. وخُيّل إليّ أن الأفراد الحضور كمثل نقاطٍ صافيةٍ من الماء تنصهر وتتدفّق في شلالٍ واحد. يتساوى في هذا الشلال المرأة والرجل، الغنيُّ والفقير، الطّالب والأستاذ، السياسيّ والمفكر، الملحد والمؤمن. وفي هذا تكمن خاصيّة الفنون جميعاً - كلٌّ منها في ميدانه، ووفقاً لطرائق تعبيره.

وطبيعيٌ أن الشعر هنا لا يُطيح بنظام الأشياء السائدة، وإنما يخلخل القناعات المستقرة، ويُهيئ العقول لكي ترَى، وتحلّل، وتحكم، بشكلٍ أفضلَ وأعمق، مزلزلاً كلّ ما يُعيق حريّتها، فاتحاً أمامها أفقاً جديداً للتأمّل والتّساؤل.

تِبعاً لذلك، يتجلَّى كلّ شيءٍ في صورةٍ مختلفة، ويصبح الإنسان أكثر استعداداً لمعرفة الجميل وتذوّقه، وتقدير الجليلِ الصَّعب، والإحاطة بالتاريخ وتقلّباته، صعوداً وهبوطاً، والدّخول في تناغُمٍ مع الحقيقيّ الخلاّق. ويتأكّد أن المعنى الأخيرَ للوجود الإنساني كامنٌ في إبداعيته، وفي طاقاته الإبداعيّة.

- 2 -

قُبيل اللّقاء، عقد مؤتمرٌ صحفي أصغيت فيه الى أسئلة عددٍ من الشابات والشبان يعملون في حقول الإعلام والصحافة والأدب، وبينهم شعراء وكتّاب. ودار النقاش بيننا، في معزل كاملٍ عن السياسة العمليّة اليومية، لكن بارتباطٍ كامل مع قضايا الثقافة، والحياة، والإنسان في البلدان العربية وفي العالم. وقد شعرت، في أثناء النَقاش، أنهم يعيشون نوعاً من التعارض مع نظام الأشياء السّائدة، في كلّ ما يتعلق بالثقافة العربية ومشكلاتها. وفي مثل هذه الحالة تكون حريّة التفكير والتعبير ضرورةً قُصوى، فهي التي تكشف، وتُنير، وتُشير.

- 3 -

لا معرفة، دون نقد. لا نقد، دون حريّة الشجاعة، وشجاعة الحريّة. ودون معرفة ونقد، ستكون الممارسة شبه عمياء. ستكون تخبّطّاً. لا يشعر الإنسان انه موجودٌ حقّاً، وانه يفكّر ويــعمل، حقاً، إلا بقدْر ما يتاح له أن يبحث عن الحقــيقة بحريةٍ كاملة، وأن يوسّع حدودَ معــرفته، دون توقّـــفٍ، سواء دارت هذه المعرفة حول الفـــائدة والضــرورة، أو حول الجمال والمتعة. ففي المعرفة والثقافة ما يربط الإنســانَ بالقضايا الكبرى، فيما يتخطّى الاتّجارَ والتملّك، الى التأمّل في أحوال الكون، والى المشاركة في بناء عالمٍ إنـــساني أفضلَ وأجملَ وأغنى. وفي هذا ما يذكّرنا بالمعنى الإنساني العميق في ما كان يطالب به أحد الفلاسفة المؤسّسين للفكر الكوني، أفلاطون: القضاء على الملكية الخاصّة، وتحريم التّجارة، توكيداً منه على أن ذلك هو الســبيل الوحيد لاستمتاع الإنسان بقيم الحياة العليا، ولكي يُوجَد الإنسان في نفسه، لا في الأشياء، ولكي يكون إنساناً حَقّاً.

- 4 -

لا يأخذ العالم معناه الحقيقيّ إلاّ بالعقل والفكر والفنّ. ولا تفعل هذه كلها فعلها الصحيح الخلاّق إلاّ بالحريّة. وعندما تسودُ المادّةُ وأشياؤها الخارجيّة في المجتمع، فذلك دليلٌ على أن هذا المجتمع لا يتكوّن من بشرٍ أحرارٍ وخلاقين، بقدر ما يتكون من أشياءَ وآلاتٍ وأرقام. يتحوّل الإنسان فيه الى سلعة. ومن أين يكونُ لهذا المجتمع أن يدخلَ، بوصفه سِلكاً متميزاً، في نسيج الحضارة البشريّة، أو بوصفه نبرةً خاصة وفريدةً في إيقاع الإبداع الكونيّ؟

- 5 -

أزعمُ، في هذا الإطار، أنّ المشكلة الأولى في العالم العربي ليست اقتصاديّةَ أو سياسيّة، بقدر ما هي ثقافيّة. وحين نقول: ثقافة، نقول: حريّة.

سابقاً، كان أسلافنا يسألون حول الدّين، مثلاً: كيف يمكن دينٌ ينهض على المعرفة أن يمنعَها أو أن يراقبها، حتّى ولو ناقضته؟ ذلك أنه هو نفسه ناقض المعرفة التي سبقته، وأسّس لمعرفةٍ جديدة. سيكون، إذاً، متناقِضاً، لا مع حركيّة العالم، وحدَها، وإنّما كذلك مع نفسه. وذلك شأنُ كلّ معرفة: تحاور ما سبقها، نفياً وإثباتاً، وتفتح آفاقاً جديدةً لمعرفة جديدة. فكلّ معرفةٍ هي في آنٍ، تجاوزٌ واستمرارٌ.

اليوم، نسأل نحن أحفادهم، سؤالهم السابق، بصيغةٍ أخرى، وسياقٍ آخر: كيف يمكن اتجاهٌ فكريّ، أو نظامٌ نهضَ على المعرفة، أن يمنعها أو أن يضع لها شروطاً وقيوداً؟

- 6 -

أثق أنّ معظم العرب، إن لم أقل كلهم، يدركون أن المعرفة كمثل الحرية هي أولاً مسؤولية. أثق انهم يعرفون أن يميزوا بين الأفكار والأفعال التي تخالف القانون، وتلك التي تخالِفُ الآراء السائدة. أثق أنهم يدركون أن المماهاةَ بين السلطة والوطن، كمثل المماهاة بين المعارضة والوطن، هي في التحليل الأخير ضدّ السلطة وضدّ المعارضة، وضدّ الوطن، قبل كل شيء. وأنها لا تنتج إلا العُنفَ، وإلاّ الظّلام. عدا أنّها ضلالٌ إنساني - اجتماعي، قبل أن تكون ضلالاً فكريّاً أو سياسيّاً. أثق أيضاً أنهم يعرفون أنّ آراء السلطة، أيّةً كانت، ليست دائماً صحيحةً، خصوصاً في كل ما يتعلق بأحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والثقافيّة. وأنّ من حقّ كلّ مواطنٍ أن يقول رأيه في هذه الأحوال، وإن كان مخالِفاً. السُّلْطة إصغاءٌ وحوارٌ، بوصفها إدارةً وتنظيماً لشؤون المواطنين، وسهراً على تقدّمهم ونموّهم. ولا سُلطان لها على أفكارهم وآرائهم. لا سلطان على هذه إلاّ العقل والحرّية. خصوصاً في الأوضاع العربية الرّاهنة التي تهددها عواملُ الخارج، من جميع الجهات، وعلى جميع المستويات. خصوصاً أن الوقوف الحرّ إزاء الخارج لا يستقيم ولا يكتمل ولا يكونُ قويّاً منيعاً إلاّ بالحريّة الكاملة في الداخل. دون حريّة الدّاخل، لا يكون التــحرّر من الخارج إلاّ لفظيّاً وشكليّاً وهشّاً. ولا يندرجُ في الفكر والعمل اللّذين يقتضيهما بناء الذّاتِ، فرداً وجمعاً.

«متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»؟ ذلك هو السّؤال الكياني، الاستنكاري الذي أطلقه الخليفة عمر، منذ أكثر من أربعة عشرَ قرناً، والذي يجدر بوارثيه أن يتابعوا إطلاقه مدويّاً باستمرارٍ في الأرجاء العربية - الإسلاميّة كلّها، ويجدر بالبلدان العربية كلها وأنظمتها أن تتنافسَ في نَقل دويّه، الى أرجاء العالم كلّه.

- 7 -

قمعُ الحريات إفقارٌ للإنسان، وللعقل والفكر. لا يفعلُ، لا يقدر أن يفعل إلاّ حفرَ القبورِ، وإلاّ ترسيخَ الظلمات.

هكذا أريدُ أن أحلم، تحيّةً للإبداع العربي:

أنهض من النّوم. أتنـــاول جــريدة الصباح، وأقرأ هذا النبأ: «ألغيت كلّياً جميع أشكال القمـــع الثقافيّ، وبخاصة الرّقابة على الكتابة والكتاب، في البلدان العربيّة كلّها».

حلمٌ طـــفوليّ؟ حتّى لو كان طفوليّاً، حتّى لو خابَ مــوقّتاً، فسوف أحلم بتكراره، وبالعمل والكتابة من أجله، الى أن يُصبحَ واقَعاً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رسالة صريحة إلى صديق
أحـمـد بـسـمـار ( 2010 / 3 / 18 - 21:27 )
أدونيس يا صديقي القديم, هل كلماتك هذه نوستالجيا جذورية, أو بقايا كابوس متبقى من ليالي طفولتك المتأخرة؟؟؟... لا بأس أن تحلم.. لا بأس أن تأمل وتتأمل. ولكن بسنك المتأخر اليوم مثل عمري المتأخر, أما آن لك ولي أن نصرح ونصرخ بالحقيقة. أن نقول كل ما لم نجرأ أن نقوله في طفولتنا وشبابنا. أن حضارتنا ضاعت في الخمسين سنة الأخيرة.. وأن ثقافتنا مخنوقة. لأن الكلمة الحرة مخنوقة... ولم يتبق سوى النفاق والخداع والعنتريات الفارغة والخطابات الخشبية.. والأوهام الدينية!!!... لا تلتزم من جديد. أنت شاعر ومفكر إنساني.. محترم في العالم كله. فلا يغرنك تكريم رجال الدين والسلاطين.. عــد إلى بساطة الفلسفة.. وسوف ترى أننا ما زلنا أطفالا أغرارا نحلم مرعوبين. وإن استيقظنا في قلب الظلمات والعتمة, لا أحد يواسينا ويطمئننا...وأدعوك لقراءة ميخائيل نعيمة من جديد بقصيدته المهجرية ( أخي من نحن لا وطن ولا أهل ولا جار )...لأننا بعد حوالي ثمانين سنة من هذه القصيدة.. حالتنا الوجودية والفكرية والإنسانية لم تتغيرعن كلماتها الحزينة الواقعية... مع أطيب تحياتي وصداقتي...
احمد بسمار مواطن عادي بلاد الحقيقة الواسعة


2 - الكبير المتألق
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 3 / 19 - 03:21 )
أنعمت عليهم بحضورك المميز ولا أخال إلا المطرانية قد اكتسبت بركة من ظهورك الجليل عليها . إن فقدت الثقة وطاردك اليأس طاردنا وفقدناها معك , نزداد ثباتاً بك . الأنترنيت أتاحت الفرصة للجميع ليدلوا بآرائهم بكل ديموقراطية وهي ميزة رائعة دون شك لكن للأسف ظهرت بعض الطفيليات والأعشاب الضارة التي تتسلق على الأشجار الباسقة فزعزعت رؤيتنا الجلية لها . اليوم في زمن انكسار النهضة نحن بحاجة إلى آرائك أكثر من أي وقت مضى لاستعادة التوازن الذي نكاد نفقده . دمت بخير وعافية


3 - ونحن ايضا
شذى احمد ( 2010 / 3 / 19 - 05:22 )
ونحن ايضا سنحلم معك .. ونصل حلمك الطفولي باحلامنا


4 - جواب على ملامة أصدقائي
أحـمـد بـسـمـار ( 2010 / 3 / 19 - 08:11 )
كلما كتبت تعليقا في الحوار. تأتيني عشرات الملامات من أصدقائي. منهم من يقول أنني أدور حول الموضوع ولا (أبق البحصة), ومنهم من يجلب انتباهي ويحذرني أنني تجاوزت الخطوط الصفر والحمر وغيرها. وبالطبع منهم من يعيش في المهجر من زمن طويل, وآخرون ما زالوا يعيشون في بلدان مولدهم المشرقية.
الكتابة والتعليق, آخر جزء من رئتي التي ما زالت تتنفس يا أصدقائي. الكتابة والتعليق هو الأوكسيجين الأخير الذي أتنفسه... إنهما آخر أيام حريتي وحياتي. فدعوني أكتب كيفما أشعر وكما أستنشق الحياة...ولكم جميعا كل تحياتي المهذبة...
أحمد بسمار مواطن عادي بلاد الحرية الواسعة


5 - رشق الماء هو الذى يوقظ النيام
ادم ( 2010 / 3 / 19 - 10:17 )
اودنيس عزيزى شعبنا لايوقضه محمود درويش وادونيس برمزيته وتلميحه لان وضعت بينه وبين الكتاب الاف الحوائط الكونكريته واخطرهما حائط السياف ذو اللحيه الطويله والدشداشه القصيره وحائط الكرباج والدولاب والسالب والموجب ذو الاناقه الباريسيه نريد الف مظفر النواب ونزار قبانى كى نصحو اصعق اصعق كى نلامس الحياه من جديد

اخر الافلام

.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم


.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24




.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو