الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معضلة التغيير في مصر أكبر من غرور النخبة وأحلامها

رمضان متولي

2010 / 3 / 20
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


نخبة المثقفين الليبراليين في مصر مغرورة جدا، وبرغم ضعفها الشديد وهوانها البادي تعتقد أنها هي التي تصنع التغيير في المجتمع، والمفارقة أنها لا تفعل شيئا غير التسول أمام أبواب السلطة الحاكمة مطالبة إياها بإجراء تعديلات دستورية وقانو نية تسمح لها بالمشاركة في كعكة الحكم، وعندما تفشل في إقناع السلطة، وهي تفشل دائما في إقناعها، بتقديم تنازلات لا تجد الأخيرة نفسها مضطرة إلى تقديمها، تبدأ هذه النخبة في توبيخ الجماهير على "تخاذلها" وتطالبها بمساندتها والسير خلفها بينما لا تشارك الجماهير أيا من همومها، وعندما لا تستجيب الجماهير لدعوة الرجال ذوي الياقات الأنيقة والأيادي الناعمة، ينظرون إليها بتعال واحتقار، ويتهمون جماهير العمال والفلاحين وفقراء الموظفين وسكان الأحياء الفقيرة بضيق الأفق والخنوع لأنهم لا يهتمون إلا برغيف الخبز والأجور والعلاوات وأزمة الوقود والمطالب الفئوية المحدودة، ولا يدركون "القضايا الكبيرة" و"المهام العظيمة" التي تهتم بها "النخبة" وتطرحها على "جدول أعمال التاريخ"!!

وتبالغ نخبة البرجوازية الصغيرة من مثقفي الطبقة الوسطى مثل الأدباء وأساتذة الجامعات وغيرهم في قيمة أعمالها وتحركاتها الفوقية المعزولة عن طبقات وشرائح المجتمع التي ترزح تحت الاستغلال والقهر. ولا ترى قيمة لتحركات الجماهير الواسعة من العمال والفلاحين والطلاب وفقراء المدن طالما لا تعبر تحركات الجماهير عن أهداف النخبة ومطالبها. مثال ذلك أن الروائي علاء الأسواني في مقالة له في جريدة الشروق يوم الثلاثاء الماضي تجاهل كفاح الآلاف من العمال والفلاحين على مدى أكثر من عشرين عاما مضت في مواجهة السلطة زاعما أن حركة "كفاية" صاحبة الفضل الأكبر في كسر حاجز الخوف عن المصريين، وأن أعضاء كفاية هم الذين تحدوا قانون الطوارئ وتلقوا ضربات الأمن المركزي وتحملوا الاعتقال والتعذيب وأنهم هم الذين انتزعوا للأمة كلها حق التظاهر والإضراب، رغم اعترافه بضعف اتصالها والحركات النخبوية الأخرى بالجماهير العريضة! وكأن هذه الجماهير لم تتظاهر أبدا قبل ظهور حركة كفاية أو بعد اضمحلالها، وكأن هذه الجماهير لم تنظم إضرابا أبدا قبل أن تولد فكرة "كفاية" في أذهان أصحابها أو بعد أن تحللت وأصبحت في خبر كان! وكأن هذه الجماهير لم تتحدى قانون الطوارئ يوما، ولم تتعرض لمواجهة القمع العنيف والاعتقال، بل والقتل أحيانا على أيدي أجهزة الأمن! ولم يعذب قادتها على أيدي السلطة قبل أن يولد اسم "كفاية" على صفحات الجرائد ووسائل الإعلام. ربما لم يقرأ الأسواني شيئا من تاريخ الطبقة العاملة المصرية، لكنه حتى لم يكلف نفسه الاطلاع على ما تم توثيقة عن حركة العمال والفلاحين خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة قبل أن يصدر هذه الأحكام الساذجة.

وحتى يعلم هؤلاء شيئا عمن يواجه فعلا قانون الطوارئ ولا يعبأ به، نؤكد لهم أن العمال المصريين منذ ثلاثة عقود وأكثر لم يتوقفوا عن الإضراب والتظاهر والاعتصام ومواجهة آلة القمع الشرسة دون أن ينتظروا تشجيعا من حركة نخبوية مثل "كفاية". أضرب عمال كفر الدوار إضرابا واسعا في عام 1995 وحوصرت المدينة بأكملها وسقط القتلى واعتقل العشرات خلال المواجهة مع الأمن المركزي. وفي عام 1997، شهدت البلاد بطولها وعرضها مواجهات عنيفة بين الشرطة والفلاحين الذين تظاهروا احتجاجا على قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى احتجاجات عمالية واسعة، وتشير إحصاءات مركز الأرض لحقوق الإنسان إلى أن عام 1998 سجل احتجاجات عمالية كبيرة كان من بينها 33 إضرابا و 18 اعتصاما و 14 مظاهرة. وفي عام 1999 نظم العمال 52 إضرابا و 32 اعتصاما و 18 مظاهرة، عام 2000 شهد 40 إضرابا و47 مظاهرة و48 اعتصاما، عام 2001 شهد 41 اعتصاما و14 إضرابا و75 مظاهرة، عام 2003 شهد 16 إضرابا و14 اعتصاما، عام 2004 شهد في النصف الأول منه 74 احتجاجا عماليا بين إضراب ومظاهرة واعتصام، وفي النصف الثاني شهد 32 إضرابا و57 اعتصاما و41 مظاهرة، النصف الأول من عام 2005 شهد 21 إضرابا و5 مظاهرات و33 اعتصاما. أغلب هذه الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات ووجهت بالقوة العنيفة بعضها حقق مكاسب وبعضها لم يحقق أهدافه لكنها لم تثن العمال عن تكرار المحاولة. كل ذلك قبل أن تظهر حركة كفاية ولو مجرد فكرة. لكن نخبة المثقفين لم يستيقظوا من سباتهم العميق وأحلامهم وإحباطاتهم الوجودية إلا عندما ظهرت "كفاية وأخواتها"، رغم أن "حركة كفاية" لم تكن أكثر من ظاهرة إعلامية حظيت باهتمام واسع النطاق نتيجة لظروف محلية ودولية خاصة جدا وليس بسبب قدرتها على تحريك الأوضاع السياسية في مصر كما أنها نأت بنفسها عن ميدان الصراع الحقيقي وركزت اهتمامها على منصب الرئيس. ولذلك ذهبت الحركة وذبلت دون أن يتأثر الوضع السياسي في مصر بظهورها أو اضمحلالها.

حركة "كفاية" وحركات "التغيير" الأخرى لم تحرك الحياة السياسية "الراكدة" كما يزعم هؤلاء المثقفون المغيبون عن واقع الحياة السياسية المصرية، بل سبق ظهور هذه الحركات بسنوات زخم سياسي في مصر شارك فيه طلاب الجامعات ومثقفون وجماهير شعبية ارتبط بمساندة الشعب الفلسطيني في انتفاضة الأقصى عام 2000 وبلغ ذروة كبيرة في عام 2002 بعد اقتحام الصهاينة لمخيم "جنين" ومحاصرة ياسر عرفات، ووصل ذروة أخرى في عام 2003 عندما قامت القوات الأمريكية بغزو العراق واحتلاله. وكما صنع الإعلام المحلي والخارجي أوهاما كبيرة حول حركة "كفاية" وناشطي "الفيس بوك"، تخصصت نخبة المثقفين الليبراليين المعارضين للسلطة في صناعة الأوهام في سياق شعارات مواجهة التوريث والإصلاحات الدستورية قبل ظهور الدكتور محمد البرادعي وبعده، لكنها فشلت دائما في تحويل هذه الشعارات إلى قوة حقيقية على الأرض.

ليس معنى نقدنا لقيام النخبة المثقفة ببناء صروح وهمية حول شخصية البرادعي وحول تجارب هزيلة لمواجهة الديكتاتورية أننا نقف في نفس الخندق مع السلطة الحاكمة ولا مع أحزاب المعارضة الرسمية التي تشكل زوائد تافهة مهمتها تجميل الصورة القبيحة لنظام مستبد حتى النخاع. لكننا نسعى فقط لبيان أن هذه المحاولات الجزئية والفوقية لإجراء تعديل دستوري هنا أو هناك، علاوة على ضعفها وهزالها وعجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة، لا تقدم حلا لمعضلات التغيير في المجتمع المصري.

وقد سبق أن قام مثقفون كثيرون بطرح وثائق للإصلاح السياسي والدستوري في مصر منذ عام 1997، وتحالفت من أجل طرحها أحزاب معارضة رسمية وأجزاء من النخبة، ولكن هذه المحاولة فشلت لأنها أيضا لم تستطع أن تتحول إلى قوة جماهيرية ضاغطة تجبر النظام الحاكم على الأخذ بها. ومن هنا ينبغي على من يرغبون في تغيير الوضع الراهن أن يتعلموا دروس التجارب السابقة حتى لا تتكرر الأخطاء وما يترتب عليها من أحباط.

ربما تكون الظروف مختلفة حاليا، خاصة مع تقدم الرئيس مبارك في السن وعدم وجود نائب لرئيس الجمهورية ومخاوف المعارضة من توريث المنصب لنجل الرئيس، وبالتالي تكفلت الطبيعة بطرح المسألة من جديد على أجندة النخبة السياسية والثقافية، لكن يبدو أن هذه النخبة مازالت تصر على ارتكاب نفس الأخطاء، وهي طرح أجندة فوقية لعملية الإصلاح متمثلة في تعديلات دستورية وإصلاحات سياسية تتسولها من السلطة الحاكمة دون أن تمتلك قوة الضغط اللازمة لتحقيقها، بل إن بعض عناصر النخبة، مثل ضياء رشوان، طرح من قبل فكرة توافق المعارضة على شخصية عسكرية ودعمها من أجل مواجهة توريث المنصب الرئاسي!

الموجة الجديدة من مطالب الإصلاح الدستوري والسياسي سبقت ظهور اسم البرادعي على مسرح الحياة السياسية في مصر. طرح هذه التصورات العديد من المثقفين الذين يحملون درجة الدكتوراه أمثال حسن نافعة ويحي الجمل وأسامة الغزالي حرب وغيرهم، ولم يكن آخرها حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي حث الرئيس على تشكيل مجلس حكم وتعديل الدستور في حياته. وقد كشف المستشار طارق البشري في حديث له مع جريدة الشروق عن هزال وعبثية مساعي المعارضة والنخبة المثقفة مشيرا إلى أن مواجهة التوريث والصراع على منصب الرئاسة هدف أكبر من قدرة المعارضة على تحقيقه وأن الاستبداد لا يتنازل عن موقعه إلا إذا تعرض لضغوط قوية وأرجع الأمر إلى موازين القوى في المجتمع. بل ذهب الرجل إلى انتقاد وتقريع المعارضة في رفعها لشعار تعديل الدستور في عام 2005 رغم عدم امتلاكها القدرة على التأثير لأن ذلك أعطى فرصة للسلطة لاستغلال شعار المعارضة وإجراء تعديلات مثلت من وجهة نظر البشري تراجعا دستوريا وديمقراطيا بإلغاء الرقابة القضائية على الانتخابات وزيادة صلاحيات الرئيس وتقنين حالة الطوارئ والمحاكم العسكرية وتفصيل مادة الترشح للرئاسة على شخص واحد وأوضح أن "النظام المستبد المطلق أصبح دستوريا بهذه الحركة التي بدأتها المعارضة."

ورغم الملاحظات التي تؤخذ على طرح المستشار البشري خاصة فيما يتعلق برهانه على الجهاز البيروقراطي للدولة في مساعي التغيير، فإن الرجل طرح على نخبة المعارضة مهام أكثر جدوى وفاعلية من هرولتها الحالية وراء شخصيات ومطالب فوقية، وخاصة تأكيده أن واجب المعارضة أن تسعى لبناء مراكز للقوة في المجتمع وأن تطرح أهدافا قابلة للتحقيق وألا تتوقع هدايا من السلطة، خاصة إذا كانت هذه الهدايا ضد مصالح السلطة وأهدافها، وأن محاولة إقناعها بتقديم تلك الهدايا ليست تعبيرا عن الإفلاس والعجز فحسب وإنما هروب من الواجب أيضا. كما ركز البشري على ضرورة أن يتحمل الشعب تضحيات متعلقة "بالتحريك والتنظيم" حتى يصبح قوة تعادل قوة السلطة.

لم تتجاهل النخبة السياسية نصائح هذا المؤرخ الكبير والمفكر السياسي البارز فحسب من حيث ضرورة الاعتماد على قوة الجماهير المنظمة، بل إن بعضهم مثل الدكتور عمرو الشوبكي دبج مقالة عصماء نشرت في جريدة المصري اليوم في شهر مارس الجاري يهاجم فيها فكرة الرهان على الجماهير في عملية التغيير متهما هذه الجماهير بأنها متخاذلة وغير مهتمة، بل ومتواطئة مع الوضع الحالي، كما انتقد تحركاتها واحتجاجاتها لأنها تركز على لقمة العيش والعلاوة وتحسين الرواتب وظروف العمل، ولم تنج النخبة نفسها من الاتهام بالتواطؤ مع الوضع الحالي في مقالة الشوبكي ليضعنا في النهاية في طريق مسدود لا يراهن إلا على محاولة البرادعي دون أن يقدم مسوغا مختلفا لهذا الرهان، لأن محاولة البرادعي لا يلتف حولها إلا النخبة التي اتهمها الشوبكي بالتواطؤ مع الوضع الحالي، ولم تطرح شيئا مختلفا عن طرح النخبة في محاولاتها السابقة التي باءت بالفشل، يقول الشوبكي في مقالته:
"إن حركة الأحزاب السياسية من أجل الوصول إلى الجماهير والنضال من أجل الإصلاح السياسى والديمقراطى باءت بالفشل، وكل محاولات التغيير التى ناضلت من أجلها حركات الاحتجاج السياسى باءت أيضا بالفشل، وكل همسات وأحيانا صراخ الإصلاحيين داخل الحزب الوطنى وفى قلب الدولة ذهبت سدى، وبقيت الفرصة الأخيرة فى محاولة البرادعى، التى عليها أن تبحث فى أسباب فشل التجارب السابقة، وفى الجديد الذى أصاب الواقع السياسى المصرى، وتنسى ولو قليلا موضوع الجماهير التى ستنزل بالملايين لتغيير الحكم أو تعديل الدستور."
يرى الشوبكي أن المناخ الراهن لا يسمح بتخريج جماهير "واعية بالقضايا السياسية" وأن الجماهير المصرية ليست مثل الآلاف من البشر الذين "تظاهروا في إيران وفى بلدان أمريكا اللاتينية، من أجل إسقاط الديكتاتورية أو محاربتها، وفى مصر كما فى العالم العربى لم يحدث ذلك ليس لأن المصريين خانعون كما يتصور البعض إنما لأن أوضاعهم الثقافية والاجتماعية جعلتهم فى وضع لا يسمح لهم بالوعى بأهمية النضال السياسى.” أو أنها تعيش في ظروف لا تعطيها ترف النضال من أجل الإصلاح!!!
لا يمكن فهم هذا القدر من التخبط في وعي النخبة الليبرالية في مصر دون إدراك مدى العزلة التي تعيش فيها ومدى هشاشتها وسطحية قراءتها للواقع السياسي المصري وهامشية مطالبها. حتى الأمثلة التي أوردها الشوبكي للتدليل على طرحه تفتقد إلى القراءة العميقة والدقيقة لواقع إيران أو ما حدث في أمريكا اللاتينية، حيث أسقطت الجماهير الديكتاتورية في البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وفنزويلا منطلقة من مطالب اقتصادية تتعلق بلقمة العيش في مواجهة الخصخصة والبطالة وزيادة الأسعار وغيرها من المطالب التي تتعالى عليها النخبة المصرية. أما في إيران فما كان يمكن للنخبة الإصلاحية التي تنتمي نفسها إلى النظام الإيراني أن تحرك تلك المظاهرات الواسعة لولا الأزمة الاقتصادية والحصار ولولا تدخل قوى خارجية داعمة لتحركاتها، وفي النهاية فشلت في إسقاط الديكتاتورية بسبب شراسة القمع ولأن الجماهير لم تكن مستعدة لخوض معركة هذه النخبة إلى النهاية. والمشكلة في وجهة نظر الشوبكي وغيره الذين يتعالون على المطالب الفئوية والاقتصادية للجماهير هي الفصل الميكانيكي الفج بين نضال الجماهير الاقتصادي والنضال السياسي رغم التداخل الشديد الذي برهنت عليه تجارب التغيير في معظم أنحاء العالم بين الاقتصادي والسياسي من حيث إمكانية تحول النضالات الاقتصادية الجزئية إلى حركات سياسية كبرى والعكس. ولأن الشوبكي يسقط الجماهير من حسابه فإنه يراهن على قوى وهمية تتمثل في الإصلاحيين داخل الدولة وخارجها ليس بهدف هدم النظام القائم وإنما بهدف إصلاحه دون أن يبرهن لنا على وجود هؤلاء الإصلاحيين سواء داخل جهاز الدولة أو خارجها، واختتم مقالته العصماء بتلك النصيحة فارغة المضمون التي تمتلئ بالغموض والتخبط أكثر مما فيها من وضوح:
"لن تدخل الجماهير معركة الإصلاح السياسى، وكل من يطالبها بأكثر مما تحتمل وما فرضته عليها الظروف لا يقرأ الواقع المصرى جيدا. إن التغيير فى مصر ممكن، بل إنه أصبح واردا أكثر من أى وقت مضى، بشرط أن يعتمد على نخبة شابة جديدة، وألا يكرر أسماء الفشل، ويستفيد من تعاطف قطاعات واسعة داخلها مع الموجة الثانية من الحراك السياسى لتكوين جماعة ضغط تراهن على الإصلاحيين داخل الدولة وخارجها، ويكون هدفها إصلاحاً حقيقياً للنظام لا هدمه."

لا مفر إذن من المراهنة على الجماهير في أي تغيير محتمل، والاعتماد على نخبة متخيلة سواء شابة جديدة أو كهلة قديمة لن يكون أكثر من محاولة جديدة من محاولات دون كيشوت التافه بحصانه الهزيل وسيفه الخشبي. وإذا نظرنا إلى تصاعد وتيرة الحركة الجماهيرية، وخاصة العمالية، خلال السنوات الخمس الأخيرة لأدركنا أن هناك فرصة حقيقية للتغيير رغم أن تحقق هذه الفرصة ليس حتميا. فقد شهد عام 2006 احتجاجات عمالية واسعة تمثلت في 74 إضرابا عن العمل و 24 مظاهرة، ارتفعت في النصف الأول من 2007 إلى 66 إضرابا و15 مظاهرة علاوة على 43 إضراب و 27 مظاهرة في النصف الثاني من نفس العام، وفي عام 2008 ارتفع الرقم إلى 122 إضرابا عن العمل و 60 مظاهرة عمالية. وشهد عام 2009 أكثر من 700 تحرك عمالي في 432 موقع عمل بعضها حقق مطالب ونجاحات ربطت بين المكاسب السياسية والاقتصادية مثل اعتصام وإضراب موظفي الضرائب العقارية الذي أجبر الحكومة على ضمهم إلى وزارة المالية ونتج عنه تأسيس أول نقابة مستقلة عن الاتحاد النقابي الموالي للسلطة. وحتى كتابة هذه السطور مازال عدد كبير من عمال المصانع معتصما أمام مجلس الشعب رافعا شعارات سياسية في جوهرها تحتج على سياسات الخصخصة وتشريد العمال التي انتهجتها حكومة الدكتور أحمد نظيف. وتقدم هذه الاحتجاجات دليلا عمليا وملموسا على أن الفصل بين النضال السياسي والاقتصادي فصل وهمي لا يوجد إلا في أذهان نخبة معزولة لا تنظر إلى أبعد من طرف أنفها.

اختصرت نخبة المثقفين الليبرالية في مصر مطالب التغيير في إجراء تعديلات على الدستور أو تغييره وإصلاحات انتخابية وديمقراطية. ورأت أن البديل الوحيد لتحقيق هذه المطالب هو الفوضى التي ينبغي أن نسعى إلى تجنبها باعتبارها خطر علينا جميعا. هذا التصور أكده كثير من أفراد هذه النخبة مثل الدكتور حسن نافعة والدكتور يحي الجمل الذي انتقد في أحد البرامج على قناة الجزيرة غياب الحياة الدستورية في بلادنا وخاصة في مصر حيث يوجد دستور شكلي ومعيب إلى جانب شخصنة الدولة وضعف مؤسساتها، واتفق معه الدكتور عمرو الشوبكي في مسألة ضعف المؤسسات وفسادها في مقاله السالف الإشارة إليه. الدكتور الجمل قال أيضا أن الحياة الدستورية السليمة تعتمد على وجود رأي عام يحمي الدستور ومؤسسات مؤمنة بأدوارها فلا تسمح للمصالح والرغبات الشخصية للنافذين في السلطة التنفيذية بالتجاوز على مبادئ الدستور وأحكامه. وخلص من ذلك إلى وصف الأزمة بأن "الرأي العام" في مصر لا يقوم بواجبه نحو حماية الدستور، وأن المؤسسات لا تؤمن بأدوراها بينما تمكنت السلطة التنفيذية، وتحديدا جهاز الأمن، من الرأي العام والدستور ومن المؤسسات الدستورية. ومع ذلك فإنه يتصور الحل في وضع دستور جديد للبلاد وإجراء إصلاحات سياسية، تماما كما تطرح المجموعة المتحلقة حاليا حول الدكتور البرادعي، ولم يوضح لنا هذا أو ذاك لماذا يتوقع أن يوفر وضع دستور جديد مخرجا من أزمتنا السياسية؟ لماذا لا يتوقع دستورا هزليا وأكثر سخفا من دستورنا الحالي؟ فالرأي العام مازال غائبا عن حماية الدستور، كما أن المؤسسات القائمة لم يطرأ عليها طارئ يجعلها أكثر استعدادا للإيمان بأدوارها.

هكذا يتضح جليا مدى التناقض في مطالب النخبة الليبرالية وفي وجهة نظرها حول السبيل الأمثل للخروج من أزمتنا السياسية والمجتمعية، فمن ناحية ترى هذه النخبة أن سبيل الخروج من الأزمة يكون بوضع دستور جديد أو تعديل الدستور القائم، وترفض معارك الجماهير المصرية من الفقراء لأن ذلك بالنسبة لها يرادف الفوضى أو لأن هذه الجماهير غير مهتمة بالإصلاح وتركز مطالبها على لقمة العيش، لكنها تنتهي إلى عدم إمكانية نجاح مشروعها إلا إذا حظي الدستور بمساندة ودعم وحماية الرأي العام (أي الجماهير). وترى هذه النخبة نفسها أن المؤسسات الدستورية في البلاد تحللت وانهارت أو على الأقل لم تعد مؤمنة بأدوارها ليتجلى تناقض آخر في طرحها بأن تغيير الدستور هو الحل، ذلك أن الدستور لا يحميه من وجهة نظرها إلا مؤسسات دستورية مؤمنة بأدوارها!!!

تتهم النخبة الجماهير بأنها لا تعبأ بقضايا "الوطن الكبرى"، ومع ذلك فإن هذه النخبة الليبرالية هي التي تركز اهتمامها على القضايا الخطأ، من تصور أن تغييرا حقيقيا يمكن أن يحدث إذا تغيرت شروط تولي منصب رئيس الجمهورية إلى تصور أن هذا التغيير ممكن عبر تغيير الدستور والإصلاحات الإنتخابية، ناهيك عن الخطأ الاستراتيجي القائم على تخيل إمكانية تحقيق مطالبها عبر تسولها من السلطة الحاكمة وبدون مشاركة واسعة النطاق من الجماهير.
ومع ذلك، فإن مشكلة مصر لا تتعلق بالشخصية التي تحتل منصب رئيس الدولة، مهما كان حجم سلطات الرئيس، بل في النظام الاجتماعي برمته وجميع مكوناته التي من بينها النظام السياسي ومؤسسة الرئاسة.

حقا أن رئيس الدولة في مصر يمتلك صلاحيات وسلطات مطلقة بنصوص الدستور، كما أنه فوق أي مساءلة سواء شعبية من خلال المؤسسات النيابية أو قانونية لغياب أي قانون يحاكم رئيس الجمهورية، غير أن كل هذه السلطات والصلاحيات مطلقة فقط في نصوص الدستور، أما الواقع فيختلف تماما عن هذه الصياغات الشكلية، فمؤسسة الرئاسة ليست سوى إحدى مكونات الجهاز السياسي والأمني الذي يدير الدولة المصرية التي ترهلت وبرزت فيها مراكز متعددة للقوى تتحرك بما يشبه تشكيلات العصابات لحماية وتوسعة نفوذها ومزاياها في تنافس فيما بينها من جانب وعلى حساب أغلبية الشعب المصري من العمال والفلاحين والمهمشين وصغار الموظفين وفقراء المدن من جانب آخر، وفي تحالف وتنافس في نفس الوقت مع شريحة كبار رجال الأعمال الذين اندمجوا بمؤسسات السلطة ويشكلون فريقا هاما في هذا الجهاز السياسي علاوة على مركزهم المتميز والحاكم في النظام الاقتصادي للبلاد. وبهذا المعنى، فإن الرئيس واقعيا لا يملك سلطة مطلقة، لأن أي قرار أو توجه سياسي لابد أن يعكس بدرجة أو بأخرى مدى التوازن في هذه الشبكة المعقدة من المصالح ومراكز القوى وإلا فقد أثره الفعلي.
وإذا كانت هذه التوازنات المعقدة هي التي تحكم القرار في السياسة الداخلية على جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، فإن هناك جملة من التوازنات الأخرى لا تقل تعقيدا تحكم القرار في السياسة الخارجية والداخلية بغض النظر عن شخص الرئيس، ولا يقررها الرئيس منفردا رغم أنه من الناحية الدستورية هو الذي يملك القرار منفردا في هذه الأمور ولا يستطيع أحد أن يسائله في القرار. فالسياسة الخارجية تتشابك أيضا مع السياسة الداخلية والقرار فيها يعكس جملة من المصالح والحسابات المعقدة لجميع مكونات النظام الحاكم سواء المؤسسة العسكرية والأمنية، والجهاز البيروقراطي للدولة، ومصالح الطبقة المسيطرة على المؤسسات الاقتصادية، علاوة على المؤثرات الخارجية لدول لها نفوذها ومصالحها الإقليمية والدولية، وبالتالي، فبينما يبدو الرئيس مطلق السلطة في أمور السياسة الداخلية والخارجية من الناحية الشكلية، فإن طبيعة النظام الحاكم ومكوناته والمرحلة التي يمر بها وأزماته وتوجهاته وانحيازاته هي التي تحدد الإطار الحاكم لسلطة الرئيس الحقيقية مهما أضفى الدستور على هذه السلطة من إطلاقية شكلية.
هذا لا يعني أن الرئيس لا يملك نفوذا في هذا النظام ولا يلعب دورا مؤثرا فيه وغير مسئول عن سياساته، بل إنه يملك نفوذا ويلعب دورا مؤثرا ومسئول عن هذه السياسات، ولكنه مجرد شريك – بغض النظر عن حجمه وقدراته ونصيبه – وصاحب مصلحة وقوة في هذا النظام، إلى جانب آخرين شركاء ومسئولين وأصحاب مصلحة ونفوذ.
معنى ذلك أن الرئيس، أي رئيس مهما كانت قدراته وبغض النظر عن ميوله وطباعه لن يستطيع الحركة إلا في الإطار الذي يسمح به هذا النظام، وإذا قرر الخروج عن هذا الإطار، فسوف يترتب على ذلك إما أن يطاح به من منصبه بتحرك من داخل النظام أو خارجه أو أن يواجه المجتمع أزمة سياسية أو اقتصادية تقارن بحجم خروج الرئيس عن المساحة المسموح بها والتي يمكن للنظام التعايش معها. وما ينطبق على منصب الرئيس ينطبق أكثر على مسألة الدستور، طالما ظلت الجماهير، وهي القوة الوحيدة القادرة على إحداث أي تغيير حقيقي وصيانته، خارج المعادلة.

لا يوجد طريق مختصر لتحقيق هذا التغيير مهما علا صوت النخب الليبرالية على صفحات الجرائد وعلى شاشات الفضائيات، ومهما ارتفع صخبها وضجيجها في غرفها المعزولة في أبراج المدن الجديدة ومهما أوحى لها هذا الصخب بعلو صوتها أو ضخامة حجمها. وإذا شاركت الجماهير في معركة التغيير، فإنها بالضرورة لن تشارك بشروط تلك النخبة الليبرالية، لأن لها أساليبها وأهدافها ومصالحها التي تتطلع إلى تحقيقها والتي ربما تتجاوز كثيرا الحدود الضيقة والطموحات الأنانية الخاصة بنخبة المثقفين الليبراليين الذين يسعون إلى المشاركة في كعكة السلطة والحفاظ على امتيازاتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حاله ميؤس منها
شرق عدن ( 2010 / 3 / 20 - 18:49 )
مصر بالذات حاله ميؤس منها تماما وليس لها مثيل في كل دول العالم والشعب المصرى على الخصوص شعب يثير الشفقه والرثاء فهو يجمع بين الجهل والتخلف والبلاهه والجبن والانحطاط السلوكى والفكرى ولكى نرى فداحه فكر هذا الشعب المريض اورد مثليين الاول هو عندما فازت مصر بنهائي كاس افريقيا لكره القدم حينما خرجت الملايين لاستقبال اعضاء الفريق المغوار!!!هذا الشعب السطحى والمريض يري ان الكره هى كل شئ في حياته حتى لو كان لايملك قوت يومه وينام في مقابر القاهره؟هذا الشعب غايه فى الانحطاط الفكري والتفاهه والتخلف والمثل الثانى عندما قرر الدكتور محمد البرادعى الحضور الى القاهره من اجل ان يجس نبض الشارع المصرى نرى ان عدد الافراد الذين استقبلوه لايتعدى الالف شخص؟؟؟ البرادعى الذى فى نيته اصلاح الشعب وخلاصه من الحكم المستبد العاهر يخرج فى لقاؤه اقل من الف شخص؟؟؟انها لمهزله بجميع المقاييس وبالتالى فان من حق الحاكم العربيد ان يعربد ويزندق؟؟الحاكم المستبد والدموى يستمد بطشه وفجره من خنوع شعبه وذله ويبدو ان شعبنا الكسيح لن تقوم له قائمه ابدا


2 - لا يأس مع الحياة
النيل نجاشي ( 2010 / 3 / 20 - 21:00 )
هناك أمم كانت قد وصلت لحال أسوا من حال مصر وشعبها . ونهضت وتقدمت وصارت بلادها دولا عظمي
الشعب المصري لو وجد قيادة حكيمة تقوده . فانه سرعان ما سيستجيب
ويتغير . وكافة أمراض الشعوب قابلة للعلاج
لا حياة مع الياس


3 - لا أجد سببا لحذف التعليق
رمضان متولي ( 2010 / 3 / 21 - 13:08 )
تعليق الاستاذ شرق عدن مليء بالشتائم العنصرية ، لا يمكنك إطلاق تعميمات على شعب بأكمله، والشعب المصري ضحى وما زال يضحي ويناضل من أجل الحرية أرجو فقط الرجوع إلى عدد وحجم الإضرابات والمظاهرات طوال الأعوام الثلاثين الماضية لأخذ فكرة ولو بسيطة عن نضالات الجماهير المصرية. ثانيا كل شعوب العالم ترزح تحت هذا القدر أو ذاك من القهر والاستغلال ولكنها لا تثور كل يوم، لا يمكن لأي شعب في العالم أن يعيش في حالة ثورة دائمة ومستمرة، سواء في دولة متخلفة أو متقدمة، ينبغي عليك مثلا أن تقارن بين عدد الثورات والانتفاضات التي قام بها الشعب المصري خلال القرن العشرين وما بعده وبين عدد الثورات والانتفاضات التي قامت بها شعوب مقهورة أخرى حتى تكتشف أن الشعوب المقهورة تتشابه في أحوالها وأن أغلب شعوب العالم تعاني من درجة أو أخرى من القهر دون أن يترتب على ذلك وصمها بكل ما وصفت به الشعب المصري من تعبيرات عنصرية.
أما مسألة الدكتور البرادعي فالمشكلة أن خطابه وخطاب الليبراليين مثله لا يمت بصلة لنضالات ومشكلات الشعب المصري الحقيقية، أنه يركز على مشكلات وأزمات النخبة الليبرالية، وكان طبيعيا ألا يستجيب له غير هذه النخبة


4 - مواطن الخلل
شرق عدن ( 2010 / 3 / 21 - 18:08 )
الاستاذ رمضان متولى,اقدم اسفى اذا استخدمت الفاظ قويه فى تعليقى, لقد كان هدفى هو عمليه تشريحيه للمجتمع المصرى لتشخيص الحاله وكشف اسرار العطب والانهزاميه فى عقليه المصرى البسيط

اخر الافلام

.. اقتلعها من جذورها.. لحظة تساقط شجرة تلو الأخرى بفناء منزل في


.. مشاهد للتجنيد القسري في أوكرانيا تثير الجدل | #منصات




.. نتنياهو: الإسرائيليون سيقاتلون لوحدهم وبأظافرهم إذا اضطروا ل


.. موسكو تلوّح مجددا بالسلاح النووي وتحذر الغرب من -صراع عالمي-




.. تهديدات إسرائيلية وتحذيرات أميركية.. إلى أين تتجه الأمور في