الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة فصيرة

محمد عبد الله دالي

2010 / 3 / 21
الادب والفن



كل يوم يكون هو في مقدمة الطابور الصباحي للعمال ، الذين يعملون ،عمال زراعيين في الأرض المحتلة ،وكالمعتاد معه صرة فيها خبز وبعض الخضروات ،وأحياناً تُعدُ لهُ أمه ،شيئاً للغداء . ينتظر دوره للعبور والعمل في ارضٍ كان هو صاحبها في يوما من الأيام ، برزَ هويتهُ وسلمها لمفرزة الحدود ، دققوا فيها أشر له بالعبور ، وهناك في الجانب الآخر يقفون مجموعات ، ويأتي أصحاب المزارع لأختار العمال ، هو اعتاد أن يعمل لدى صاحب مزرعة ،حتى أصبحَ معروفاً لديهم .. فهو يمتلك جسما وسيماً ، غيرت الشمس ملامحه ، وأصبح جسمه بلونين مما زاده جمالاً ، ناداه صاحب المزرعة .
ــ ياولد ، عليك اليوم زراعة شتلات البرتقال هذه ن إنها من أجود الأنواع ، جاءوا بها من الخارج لتحسين نوعية البرتقال المحلي ، كما إنها أكثر إنتاجا ، وعليك إن تأخذ شتلات الورد لتزرعها في حديقة المنزل .، ولا تنسى إن تسقي الحديقة أيضا
ــ أمرك سيدي ، سأقوم بذلك !
وقف ينظر إلى الأفق البعيد إلى تلك الروابي الخضر .... مستوطنات منتشرة هنا وهناك ،تنهد وأخذ شهيقا ملأ رئتيه من عطر الأرض ، أخذ كمية من التراب ، شمها وبدأ تنفيذ ما طلب منه , وزع الشتلات وغرسها على إشكال هندسيه عديدة ،ثم أسندها بعصا خوفا عليها من شدة الرياح يمسح عرق جبينه بين الحين والأخر ، وهو يدندن بما حفظه من ترثه الشعبي ، فجأة هبت عليه رياح حملت معها عطرٌ مثيرُ ألفه ، آه انه نفس عطر الفتاة بنت صاحب المزرعة الذي اعتاده بعد كل زيارة تقوم بها للمزرعة مع والدها .. رفع قامته ، بتثاقل وهو مجهد ، ألقت عليه التحية ( شالوم ) رد عليها بانحناءة من رأسه ، قائلا أهلا .. ثم أردفت
ـــ السلام عليكم ..... أجاب .
ــ وعليكِ السلام .. لم أكن اعرف ، وإنا اعمل لديكم انك تتحدين العربية .
ــ أبي يمنعني من التحدث بالعربية ، حتى لاانسى لغتنا العبرية .
ــ ما بالك اندهشت لحضوري ؟
ــ لم أكن معتاد على ذلك ، كنت أراك عن بعد ،وبرفقة أبيكِ، أكثر الأحيان ، واشمُ هذا العطر الجميل .
ــ هل أعجبكَ ؟
ــ نعم وخاصة ، صاحبة العطر ، إنه ذوق جميل .
ـــ إن حديثك يدل على أنك ، نلت قسطاً من التعليم
ــــ نعم أنهيت ، دراستي في معهد زراعي في مدينتنا.
ـــ حملت معي برتقالة من حديقتنا وهي من إنتاج هذا الفصل ، أرجو أن تتذوقها ، وتحكم ، وخاصة إنها من اختصاصك . ؟
تناولها وهو يدقق النظر في عينيها الجميلتين ، وقوامها الممشوق .إنها تمتلك أجمل وجه وأجمل صدر وهو يحمل ثقلا متوازنا زاد إلى قوامها جمالا رائعا ، وأضاف الجينز ، تفاصيل متناغمة إلى إردافها المتناسقتين ، عندما تخطو تتهادى كناقة تنؤ بحملها الحريري لفتت انتباهه بقولها :ـ
ـــ أراك مندهشاً .. من رؤيتك لي ، مع إنك تراني عدة مرات .
ـــ نعم رايتك ، عدة مرات ،لكن ليس عن قرب !
ــ وما هو رأيك .
ــ سبحان الخالق .. نسيت حتى التعب .
ــ الله .. الله .. إنك شاعر وليس عاملا زراعيا فقط .
ـــ أشرقت ابتسامة هادئة على محياه . وهو يقول . لو وضعوك ( على الجرح يطيب ).
احمرت وجنتاها من الخجل ، وأطرقت برأسها إلى الأرض ، وقالت
ــ تذوق البرتقالة لتحكم بنفسك . تبادلا الضحكات ، وافترشت الأرض معه ، أخذتهم نسمات الربيع شدت أواصر صداقتهما ، قطع صوت والدها ، جلستهما الربيعه بين أحضان الطبيعة الخلابة . قفزت قائلة :ــ
ــ ها أنا قادمة
ــ ألم أقل لكِ ابتعدي عن عامل المزرعة .
ـــ لماذا يا أبي ، انه شاب لطيف ودمث الأخلاق ، هذه السنين التي مرت ولم تتخلص من طابعك الشرقي الغيور .
ــ أنا أعرف عاداتهم .. قضيت شبابي في بلدانهم ، وأحمل في طياتي هذا الطابع .. إنه جزء مني ، لاتكثري الكلام .
ــ عودي إلى المنزل . ؟
التفتت نحوه ولديها شعورا بالألم ، لفراقه ،تنفسها أخذ يزداد ،سرعة ، وعبرتُ خفية تخنقها .. تحين منها التفاتة وهي تعود إلى البيت وقف هو متسمرا في مكانه كأنه فقد شيء منذ زمن ، لايعرف ما هو .. عصر نصف البرتقالة بيده ، وبدون شعور ، سقطت منه على الأرض قطع تفكيره صوت صاحب المزرعة .
ــ أهتم بعملك ، ولا تتدخل بشؤون العائلة ؟
اندهش ، لدقة تحدثه العربية الدارجة ، أحس بانكسار هائل بنفسه هدم جزء من كيانه على هذه الأرض ، هل يرد عليه قائلا .. يا غريب ( اذكر أهلك) ؟ أم هو الغريب الآن في بلده ، أنحنى التقط نصف البرتقالة ، نظفها من التراب العالق بها ، شمها ثم تذوقها ... شعر بقليل من الحموضة ، عرف إنها هجينه ومركبه ، استمر بالعمل .. والحسرة تسيطر عليه ، وخوفه على عمله ، لأنه الوحيد لأعاله عائلته الصغيرة .. تحين منه بين فترة وأخرى التفتت إلى محيط عمله لعله يحظى بنظرة يريح عواطفه ، ويرفع من معنوياته ،مَدً بنظره إلى الأفق الواسع ، وطافت على تلك الروابي الخضر والتلال المكسوة بأشجار الزيتون والحمضيات ، وتوزعت عليها مستوطنات عديدة ، تسمرت عيناه على مكان محدد هنا كان بيت جدي وهناك بيت عمي .. ويعاود العمل وفي قلبه ظن إنه سيعاقب .. حدث نفسه .. غدا سأهدي لها برتقالة ، من هذه الأرض المعطاء وليست هجينة ، تقطر عسلا .
انهي عمله ، ،استأذن من صاحب المزرعة ،واتجه إلى مكان ، تجمع العمال وبعد إجراءات التفتيش والتدقيق ، ذهب إلى بيته ، وصورة الفتاة لن تفارق خياله ، رسم لها عدة صور في مخيلته ،وأخذ يَعِدُ نفسه لليوم الثاني ، حلق ذقنه وغير من هندامه ، كأنهُ يستعد للقاء شيء مهم في حياته ، نسي إنه عامل زراعي يقف يوميا بانتظار السماح له بالدخول إلى أراضيه المحتلة للعمل فيها كأجير، ونسي إنه مرهون بموافقة سلطات الاحتلال ، وكالمعتاد وقف في طابور العمال للسماح له بالدخول ، عندما وصل دوره ، دقق الحرس في أوراقه ، وتشاور مع أصدقاءه ، دفع له ببطاقته ، قال له :ــ
ــ غير مسموح لكَ ، بالدخول اليوم ، بأمر ضابط المفر زه .
استلم بطاقته ، والانكسار بادٍ على وجهه ، وكأن هموم الدنيا نزلت عليه ،مرة واحده ،حاول ثانيتا ، ولم توافق مفرزة الحدود له بالعمل ، لم ييأس جلس بعيدا ، وبجوار الأسلاك الشائكة ، وهو ينظر من خلال هذه الأسلاك التي حالت بينه وبين من يحب .
وهناك في المزرعة التي يعمل بها ، جلست الفتاة وهي تنتظر من دخل قلبها بدون إستأذان ، وبيدها برتقاله . وما هي إلا لحظات حتى جاء والدها ، ومعه عامل آخر ، قفزت من مكانها وخيبة الأمل تأطر محياها .. نظرت إلى أبيها ، بعدم الرضا ، أحست فيها إنه قد تعمد ذلك ، تركت البيت متخفية إلى نقطة التفتيش ، واستفسرت من الضابط المسئول ، عن بعض الأسماء ، وبعد تدقيق الأوراق ، عَرفت إنً أباها هو السبب ، أشار لها الضابط ، إن الشاب أتجه إلى ذلك المكان بمحاذاة السياج ،أسرعت مهرولة وهي تنظر في كل الاتجاهات ، وهي تبحث بعينين شاردتين ، عن ذلك الشاب ، وأخيرا وبعد جهد ، شاهدته جالسا ينظر عبر السياج الشائك ، وصلت وهي تمسك بالأسلاك إصابته الدهشة ، نهض مهرولاً ، وقف أمامها ،أمسك بكتلي يديه الأسلاك ولم يحس بأي ألم ، وكان الصمت ولغة العيون هما اللغتان السائدتان بينهما ، التقط أنفاسه ، وقال :ــ
ـــ أحسستُ إني فقدت شيئا ! ولم اعثر عليه .
ــ وأنا كأن الدنيا قد أظلمت بوجهي ، ولا أدري ما الذي دعاني إلى المجيء إليك . كانت الأسلاك تنغرس في يديهما بدون أن يشعرا بها . . سألته ، بلهفة هل تذوقت نصف البرتقالة
ــ نعم أكلتها .. وشعرت إن فيها شيء من الحموضة ، تأكد لي إنها مركبه من الليمون ، مًديَدةُ في كيس طعامه ، ناولها برتقالة من نفس الأرض .
ـــ خذي ، تذوقي هذه .. إنها تقطر سكراً إنها من عمق التاريخ
ــ الله كم هي رائعة ، حقا إنها تقطر سكرا ، وسألته لماذا لا تزرع لنا مثلها ؟ .. أجاب :ــ
ــ زرعتُ بدون ان يعلم أبوك ، احرصي على سقيها والاعتناء بها إنها حلوة وجميلة كجمالك. احمرت وجنتاها خجلاً .
ــ ألا تعلم إن لقاءنا مستحيل ، ربما ستكون نهايته ؟ ! .
سادهما صمت ، تقطعه تنهدات .. رفعت من حرارة الأسلاك الشائكة ، قال الحب لا يعرف الحواجز ولا تعرقله الأديان ، ولا يفرق بين الغني والفقير ، أو الظالم والمظلوم ،
ــ إذن سنفتح ثغرة في هذه الأسلاك ، ونأكل البرتقال ، نصف لكِ ونصف لي .. انسلت من فتحة صغيرة ، وجلسا يتنادمان ، قدم لها ما أعدته له والدته من وجبت غداء ،أخذهما الوقت ، طلب منها العودة ، حتى لا يشعر بها أحد ، رفع لها الأسلاك عبرت .. وودعته إلى لقاء .. غابت عنه عدة أيام ولم تأتي لتأكل معه البرتقال ، فجأة وقف أمامه أحد حراس الحدود قائلاً :ــ
ــ من تنتظرها لن تأتي ، وإذا عاودت الحضور سنعتقلك أتفهم .؟
أو مأَ ، برأسه بالقبول . قسًمَ البرتقالة إلى قسمين ، ألقى بنصفها عبر الأسلاك، و الآخر ، عصرهُ في فمه .. قائلاً :ــ
ــ بإمكانكم إن تغيروا كل شيء ، لكن تبقى الأرض نفس الأرض ،والبرتقال والزيتون ، نفسه التفت إلى الجانب الأخر إلى نصف البرتقالة والأمل .. هو الشيء الذي تعلق به .
[email protected] محمد عبد الله دالي / في 2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تصحيح عنوان
محمد عبد الله دالي ( 2010 / 3 / 21 - 17:26 )
سادتي الافاضل ... للاسف سقط اسم القصة التي ارسلتهالكم والموجودة حاليا على صفحة حوار متمدن (بعنوان .... النصف الأخر ) ولكم فائق التقدير
محمد عبد الله دالي

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل