الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجانب الاهم في جرائم النظام البعثي

خالد صبيح

2004 / 7 / 20
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


بعض الحوادث التاريخية تقدم لنا تناظرات قريبة من بعض جوانب واقعنا نستطيع حينما ننظر اليها ونحاول تحليلها ودراستها أن نستخلص منها نتائج لاتقتصر فائدتها على الجانب العملي المباشر وإنما تؤسس لخبرتنا التاريخية الخاصة وتفتح أمامنا أفقا ضروريا لبناء مرجعيات فكرية وعقلية تبلور وعي سياسي واجتماعي ضروريين.
سأحاول هنا أن أقدم صورة لتجربة تحول سياسي مر بها الشعب البلغاري عام 1989 بعد إنهاء النظام الشمولي هناك. واجزم أن لهذه التجربة بعض المشتركات مع تجربتنا القائمة الآن بعد سقوط النظام ألبعثي الفاشي باعتبار إن التاريخ له مسارات تتنوع ضمن مبدأ تاريخي مشترك شامل وموضوعي. والتجربة البلغارية لها مشترك عام مع مسار ومآل التجربة العراقية لكن مع فروقات نوعية كبيرة. المشترك هو إن البلدين كانا قد خضعا لنظام حكم شمولي يتحكم بمقدرات البلد السياسية والاقتصادية فيه حزب سياسي واحد وحيد ويتمتع أعضائه ومتنفذيه بامتيازات الجاه والسلطة. لكن هذا الواقع، حينما نقارنه بالحالة العراقية، نجد إن الفرق الكبير والمهم يكمن أولا في أن الحزب الشيوعي البلغاري لم يكن ذا طابع عنفي ودموي كما هو حزب البعث ذي الإرث والخلفية الفاشية، فلم تسجل ضد النظام البلغاري حادثة قتل او اغتيال سياسي واحدة. ولم تتحكم في نفس الوقت بالحزب وبمقدراته طغمة او عصبة معينة ناهيك عن أسرة او ابناء مدينة مثلما حدث في العراق. بالاضافة الى فارق حضاري واجتماعي كبير ومهم هو حدود ومستوى التطور الحضاري للمجتمع البلغاري لامتلاكه إرثا حداثيا أوربيا وكذلك لطبيعة الحزب الشيوعي البلغاري المتمدنة، رغم انه بطابعه العام حزب شمولي وراديكالي، وهذا انعكس بقوة على شكل إدارة الحزب للمجتمع والدولة طيلة فترة حكمه التي امتدت لخمس وربعين عام والتي اتسمت بمستوى جيد من التطورات الاجتماعية والاقتصادية انعكست على مستوى حياة المواطن وضمانه الخ..
وكذلك ترك هذا الموروث المتحضر للمجتمع أثره على الطريقة التي تمت بها التحولات بعد السقوط الذاتي لتجربة حكم الحزب الشيوعي معززة ومغتنية بالترابط مع الجهد الفكري السياسي والثقافي الذي انتشر بكثافة في وسط المجتمع بعيد السقوط. وسقوط النظام البلغاري كان قد تم بطريقة سلمية تماما ولم يترك أي أثار تدميرية على بنية السلطة والمجتمع بشكل عام إلا بحدود ما فرضته وتفرضه التحولات في أي بلد ومجتمع وماخلفه التركيب والخلفية الهشين للاقتصاد البلغاري ولقاعدته المادية. هذا باختصار أهم وابرز ملامح المشترك والمختلف مع طبيعة النظام السياسي والاجتماعي الذي وجد المجتمعان البلغاري والعراقي نفسيهما فيه بعد سقوط أنظمتهما الشمولية دون إغفال، ومن غير التوقف عند، العوامل والقوى والملابسات التي أسهمت في سقوط النظام ألبعثي وماترتب عليها من نتائج وأبعاد لإنزال نعانيها بشكل يومي. والتناظرات التي أشرت لها هي مهمة لنا في جانب واحد مهم أريد أن أركز عليه في طرحي والمتعلق بالكيفية التي حوكم بها قادة النظام الشيوعي البلغاري وكبار المسؤولين فيه.
تلح المحاكم والقوانين، بشكل يثير التعجب، على حضور الواقعة المادية والدليل المادي لتتم المحاسبة واثبات الجرم والإدانة؟ مع إن هناك جرائم وخروقات ذات طابع معنوي لا تلمس بسهولةلاتقل جرما وأذى من الجرائم المادية.
هذا الوضع لطبيعة القوانين جعل المحكمة التي شكلت لمحاكمة تيودور جيفكوف، رئيس الدولة والحزب في بلغاريا، تلح على الطابع الجنائي كقرارات رسمية او ممارسات ذات اثر مادي. ولان النظام لم يكن دمويا بالمرة ولم تسجل في سجله القمعي حوادث انتهاك من تعذيب او قتل فقد راح الادعاء يركز على مجالات الفساد والتلاعب بأموال الدولة وهنا اكتشفوا أن لا جيفكوف ولاغيره من القادة والمسؤولين الكبار كانوا يملكون أشياء أكثر مما يملكه أي مواطن عادي. ورغم أن المحكمة تخللتها مفارقات ووقائع طريفة ومر بها الكثير من المواقف المضحكة والمرحة لان جيفكوف رجل بسيط وصاحب نكتة ومرح فقد انتهت الى قرار بسجن جيفكوف بضع سنوات* أطلق سراحه بعد فترة وجيزة من الزمن ليموت موتا طبيعيا، سعيدا وهانئا في قريته التي احتفت به ودا له كشخص وليس لأنه حاكم. المهم في الأمر هو إن المحكمة لم تأخذ في نظرها وإجراءاتها جانب مهم وخطير هو اثر النظام في الخراب الاجتماعي والنفسي للفرد وللمجتمع عموما ومسخه وتحطيمه للشخصية الاجتماعية. وهذا مالم ينتبه إليه الرأي العام البلغاري. وهو جانب مهم وخطر. وإذا كان جيفكوف وقادة الحزب والحزب كله يستحقون المحاسبة والمحاكمة فسيكون لهذا السبب بالضبط. وآثار التدمير، التي طالت البنية المعنوية للمجتمع بسبب من إدارة الحزب الشيوعي البلغاري للسلطة هناك، كبيرة ومتعددة وتفصيلية ليس هنا أوان التعرض لها.
من هنا أريد أن استخلص إن هكذا نظام بهذا الموروث وبهذه الخلفية والنتائج كان له هذا الحجم النوعي الكبير من التأثير الاجتماعي السلبي فكيف سيكون عليه الأمر إذا ما نظرنا الى هذا الجانب، ليس الآن بالضرورة، من جوانب الخراب الذي تسبب به النظام ألبعثي وفترة حكم المابون صدام.؟
بلا شك ومن غير أي إحصاء او دراسة يمكن التكهن بان النتائج والآثار ستكون كبيرة للغاية. وبما إن المابون وأعوانه، وربما كل بعثي، لديهم سجل حافل وكبير وكارثي بالجرائم ذات الطابع الجنائي والسياسي التي يمكن الاستدلال عليها وتثبيتها بالأدلة المادية وبسهولة إلا أن جوانب التأثير المعنوي والعقلي والأخلاقي والنفسي التي انتشرت وترسبت في المجتمع نتيجة لممارسات هذا النظام يجب أن تحضى باهتمام المحكمة والمجتمع والرأي العام العراقي والدولي. ومن هذا الجانب يمكن تقييم محاولات شلة المشبوهين التي تريد أن تدافع عن هذا المابون وعن نظامه لتبراته ودفع الموقف باتجاه الأدلة المادية والسياسية والبحث عن أفعال تبرر ردود فعل النظام القاسية ضد المعارضين وضد ابناء الشعب عموما، هي محاولات بائسة ومخزية لانها تريد أن تتجاوز على الأثر المعنوي الكبير الذي تركته جرائم النظام وهو جانب يجب أن تكون له الأولوية الأكبر في حسابات العدل والمحاسبة في قضية هذا النظام ومجرميه. وغني عن القول إن الأثر المعنوي المقصود تمتد جذوره ومحركاته في التفاصيل اليومية حتى البسيط منها كإشاعة بعض الأزياء وفرض ذائقة وعادات اجتماعية معينة ونشر ثقافة هابطة وإشاعة التملق زائدا جرعة الخوف والرعب التي يعيشها المواطن بشكل يومي من مشاهد الإعدامات العلنية وإجبار المواطنين بما فيهم النساء على حضورها. هذا غير الآثار النفسية التي عاناها ويعاني منها من هم ضحايا مباشرين للنظام كالذين تعرض ذووهم الى الابادة بالأسلحة الكيماوية وبالأنفال والمقابر الجماعية. كما إن نشر صور المابون صدام هو بحد ذاته، وبهذه الكثرة والقسر، وما شكلته من استفزاز وقهر نفسي للمواطن ، جريمة تستحق أقصى العقوبات. فما معنى أن يسمح مخلوق ما لنفسه أن يثق كل هذه الثقة بأنه محبوب وان صوره وتماثيله فيها مضامين او دلالات جمالية او أخلاقية؟
أتمنى أن يستطيع المختصون او أن تلتفت المؤسسات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان الى مسالة توفير دراسات علمية عن الآثار الاجتماعية والنفسية لممارسات النظام على المجتمع كله وعلى عينات معينة أصابها هذا النوع من الأضرار لتقدمها الى المحكمة لأجل أن يتأسس داخل الرأي العام العراقي وعي يقر بان الجوانب المعنوية للمواطن ليست شيئا غير ذي قيمة وان ما عاناه بشكل يومي على يد النظام ألبعثي من أشياء لايمكن إحصاءها ورصدها كميا هي جرم كبير يجب أن لا تتركه عدالة المجتمع الجديد.


*
كان تيودور جيفكوف طريفا ويطلق الدعابات في جلسات المحكمة وصرح، باشارة الى كبر سنه، من ان أي حكم سيصدر عليه، مهما يكن قصيرا، فسيكون بالنسبة له بمثابة سجن مؤبد.

السويد
18-7-2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين في البحر الأحمر والمحيط الهن


.. لجنة مكافحة الإرهاب الروسية: انتهاء العملية التي شنت في جمهو




.. مشاهد توثق تبادل إطلاق النار بين الشرطة الروسية ومسلحين بكني


.. مراسل الجزيرة: طائرات الاحتلال تحلق على مسافة قريبة من سواحل




.. الحكومة اللبنانية تنظم جولة لوسائل الإعلام في مطار بيروت