الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تثقيف السجين أم تخريب السجين

منهل السراج

2010 / 3 / 27
أوراق كتبت في وعن السجن



)لعله يتعين "شكر" كل من نظام الرئيس حافظ الأسد وتداعي الشيوعية على ولادة عدد من المثقفين السوريين من سجون بلادهم. لقد التقت ثلاثة ظروف لتثمر هذه الظاهرة اللافتة. أولها إن ما يقارب ألفا من المعارضين اليساريين، معظمهم من الشبان، قضوا سنوات طوالاً في السجن، ومئات منهم حول عشر سنوات للواحد. ثانيها إنه تسنت لكثيرين بينهم في السجون ظروف تتيح "ترويض السجن" بقراءة الكتب وتعلم لغات أجنبية..)
حيث يفهم من القول أنه يرى بشكل إيجابي إلى نتائج السجن على السجين اليساري في سوريا.
ومع أن القول فيه كل الصحة كمعلومة معروفة، إلا أنه يجدر الاشارة إلى التأثير السلبي المروع والذي لايصح تجاهله وليس من العدل، تأجيله.
حول صورة السجين اليساري بشكل عام، إلى أي مدى نبعت هذه الصورة المهندمة من قناعات عميقة متشكلة نتيجة التفكير الحر، وماذا عن خصوصية كل منهم. الخطير بالأمر هو التنكر لآلام السجن المذل والقاهر، التنكر لآثار الحبس الطويل، الخنق، وإظهار الوجه المعافى، إسكات النفس المرهقة، كبت الصرخة، أو ربما عدم القدرة على الصراخ أو فقدان القدرة على التمييز بين رغبة الأنا بالأنين و رغبة الأنا بالغناء. واجهة نبيلة جاهزة كي تعلق عليها الأوسمة، و لاأصادرها هنا، بل أزيدها وساماً ولكن أيضاً من حق الحق، أعتقد، أن يفرد السجين لآلامه الحقيقية فسحة وينزع الأوسمة بعض الوقت..
هناك بعض حلقات السجناء اليساريين، وهنا أؤكد على كلمة البعض، التي هيأت طبيعات متشابهة في تصدير شكل مثقف وليس مثقفاً حقيقياً. هناك بعض الحلقات التي اتفقت على طبيعة تعايش بين السجناء تحتم على كل منهم مراعاة هامش الآخر على حسابه، لسنوات طويلة، مما ساهم في تشكيل تلك الطبيعة شديدة التهذيب في الشكل، وحادة التناقض مع الداخل أو الجوهر، أعتقد. رتبوا بينهم علاقات خاصة تجعل العديد منهم يتشابهون في المنطق والسلوكيات.. طبيعة خاصة أنتجتها ظروف السجن وحسنتها شكلاً ورتبتها شكلاً، ولكن للأسف، جرحتها كتمايز وخصوصية، أظن. بات العديد منهم يردد مقولات متشابهة ولا يدرك المرء تماماً إن كانت قناعة نابعة من الذات أم من ظروف سجنهم الطويل. يمكنني أن أقول، بأنها طبيعة تخلص لظروف السجن والتعايش مع بعضهم ضمن مساحة ضيقة ولكن لا تخلِص لطبيعة كل منهم، منبته وميوله وذوقه في الحياة كلها حتى.. ما أقوله هنا لايهدف إلى التقليل من جماليات السجناء أو نزع التقدير عن تجربتهم، إنما من أجل توضيح أمر، أن سنوات السجن الطويلة لايمكن أن تصنع إيجابيات مهما كانت هذه الايجابيات التي يبدو كثيرون منهم عليها. سنوات السجن تكسر إرادة الانسان وإن قاوم ذلك، أو تلويها، ولا أقصد هنا عناده أوصموده أو تصديه، تلك الإرادات خرج معظم السجناء بعناد أشد وصمود أشد، وربما باتوا أشد الناس على الشدائد وأكثرهم صموداً أمام آلام الحياة، ولكن المعنى، أن السجين فقد طراوته، تذوقه، فهمه لنفسه، فقد أن يكون ذاته. مساحة السجن المكانية الضيقة وضرورة الاستمرار في الحياة جعلت الغرائز الانسانية في أولياتها أمراً مكروهاً ومرفوضاً وممنوعاً، وليس هناك من فرصة لإغلاق باب وعيش فسحة صغيرة، السجن ليس فقط بسجانيه وإنما بسجنائه أيضاً. تلك المساحة الضيقة، جعلتهم يدّعون التهذيب ليل نهار وإن لم ينبع من ذاتهم، يعني مدرسة راهبات بدون راحة ولا استراحة، كبت شديد من السجان والسجين، الايثار مكرهين، العطاء مكرهين والتسابق فيما بينهم على تمثل هذا النبل.. سلوكيات سلكوها مكرهين ومكرهين أظهروا الرضا عنها، وربما بعد ذلك صار من الصعب على بعضهم التفريق بين الرضا الحقيقي وبين الرضا بالإكراه. مثالب ملائكية، أجبرواعلى تمثلها من أجل تسكين علاقاتهم، وتمكين الحياة كي لايسبقها الموت.
ومن المعروف عن قصتهم، أن من انهار منهم أثناء التعذيب، وصم بالعار طوال حياته، تماماً مثل القبيلة حين تنفي أحد رعاياها، يقال، بكثير من التعالي، انهار تحت التعذيب، وبقناعتي أن من انهار واعترف وهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، أخلص لطبيعته وخصوصيته البشرية أكثر من المئات الذين تمثلوا إرادات جماعية جبارة غير بشرية تحت آليات التعذيب الهائلة، ومع هذا التشدد الشديد، كانت أدوات مقاومتهم لكي يستمروا في الوجود، تقريباً متشابهة.. كان من بين الأمور المروجة والمقبولة والمعترف بها، آلية بعضهم في الدفاع والتخفف من خنق الحبس أن يتناول الكحول يومياً، مخدر يومي يعينه على ركل كآبة السجن مساء، ورغم أن العلم والطب يثبت أذى هذا الأمر على البدن، إلا أن العديد منهم سوغه، بل منهم من راح يبشر بشرب الكحول يومياً. وتحول الأمر ومن أجل أن يبرر ضعفهم الانساني، والمشروع طبعاً، إلى جعل هذا المخدر اليومي خلاصاً واحداً. كانت هذه آلية الكثيرين في الاستمرار بالعيش ضمن هذه المساحة القاسية، من دون الإشارة إلى أن هذا الأذى سببته قسوة الظروف وشدة السجن. هذا بالإضافة إلى أن العديد منهم يتحدثون برضا يقترب من الفخر عن صمودهم أثناء التحقيق وخلال سنوات الاعتقال وبرضا يقترب أيضاً من التفاخر، أن استدعاءاتهم بعد السجن إلى التحقيق تتم من قبل أسماء ضباط معروفة و"كبيرة" مما يفهم أنه كلام ينضوي على اعتراف بشرعية التحقيق من أساسه واعتراف ب ظالم، وأن تلك الأوسمة سببها انتصارات النفس، وأن سبب تلك الانتصارات ذاك العسف.
والمخيف بالأمر، أن هذا الاعتداء والانتهاك الذي مارسه السجن على "أنا" كل منهم، لايقرون به، وبرأيي أن الكثيرين منهم لا يعونه..
طبعاً من الممكن أن يقال إن هذا الكلام ينطبق على سيكولوجية ابن منطقتنا، بالعام، سيكولوجية الإنسان المقهور، وهذا ساطع وليس بجديد، ولكن الجديد هنا أن السجين المثقف اليساري، لايبدو عليه تعبه للمراقب البعيد، وكأنه يدعم الحاكم في فعل ظلمه.
بالتأكيد أن سنوات المعاناة الطويلة في السجن، ثقافة بحد ذاتها، ولاشك أن إتاحة القراءة والحوار بين السجناء ثقافة بحد ذاتها، وأوقات التأمل الطويلة، تمنح الحكمة لصاحبها، ولكن أين يمضي وكيف يصرَف هذا الفقدان الهائل للحرية، حاجة كل مخلوق، بالتأكيد يُدفع إلى الأعماق ليستلب الحيوية، ويهيل سماكات على الحواس، ويهيء صاحبها لينجو فقط بظروف تطابق ظروف السجن الضيقة ولا تناسب تنوع الحياة وتنوع الناس.
لا أزعم أني أقدم هنا دراسة أو بحثاً، إنما رؤية عامة تخص تجربة وواقعاً عايشناه ونعايشه. الهدف الأوحد من هذا المقال، الإشارة إلى موضوع هام وخطير، تخريب السجين، لم يتناوله السجناء السابقون، حتى الذين أدركوه، بظني، وإن فعلوا، فلم يفعلوا بفضح عال للذات والواقع في السجن ومابعد السجن، ذلك الفضح الذي ربما تبادلوه بين بعضهم لكنهم حريصون أشد الحرص على عدم البوح به، ظناً منهم أنه ينزل تجربتهم من أيقونة القدسية، وبظني أنهم بهذا يمارسون انتهاكاً لقدسية آلامهم وتجربتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مفارقات التصويت
خالد صبيح ( 2010 / 3 / 27 - 16:26 )
مقال جيد فيه قدر كبير من الرهافة بالنظر وصدق في تصوير عقل المعاناة لكن الغريب انه يحصل على ادنى درجات التقييم بالتصويت... يبدو ان التصويت في الموقع لدى بعض المصوتين يقوم على فحص نية الكتاب وينتج من مواقف مسبقة ولاينطلق من تقييم اني للنص
هذه ملاحظة تتخطى هذا المقال وتحرض الذهن والنفس على الوقوف عندها والنظر في العقل المنتج لها


2 - سلمت يداك يامنهل الخير
الحارث السوري ( 2010 / 3 / 27 - 17:13 )
إنها تجربة سيكولوجية من الواقع المعاش وليت الاّخرين يكونوا صادقين مع أنفسهم ومع الاّخرين ويقدروا الرأي الاّخر ويتحرروا من النرجسية المرضية التي تغذيها الدكاكين الحزبية المشخصنة في أغلب الحالات التي أسهمت في تخلف المعارضة وهزالها أمام نظام سفاح نازي معروف النتائج - تحياتي مرة أخرى لجهودك - هولندا ..؟؟؟


3 - مقال لم يأت بشي جديد
سامر آل سليمان ( 2010 / 3 / 27 - 23:01 )
اولا شكرا للكاتبة وأنقد المقالة كما يلي: الجملة الأولى غير واضحة أو(قلقة) وهي:
- لعله يتعين -شكر- كل من نظام الرئيس حافظ الأسد وتداعي الشيوعية على ولادة عدد من المثقفين السوريين من سجون بلادهم.
كيف يولد المثقف في سجن البلاد إن كان قد دخله أولا بسبب الثقافة؟
ثم المقالة ذكرتني بمقالات صبحي حديدي ( المتثاقفة) التي بالتحليل العميق لها نجد أنها مجرد مقالات ممتدة وفائضة عن الحاجة وليس فيها حكمة غير تراكم معلومات. الكاتبة هي أديبة ويجب أن تنتبه إلى هذا المطب، مطب صبحي حديدي


4 - النتائج النفسية والأسرية للسجن
فلورنس غزلان ( 2010 / 3 / 28 - 22:24 )
ياصديقتي فيما تقولين جانب من جوانب محصلات السجن وتوابعه،، وما يتركه من بصمات نفسية تعج بآلاف التعقيدات ، رغم أن صاحبها يبدي تماسكاً وإمساكاً بخيوطها..لأنه يسعى للاختفاء وراءها..وإخفاء ضعفه الإنساني...ولو قيل فيه الكثير من الإشادات والبطولات..لكنها بطولات تعلمناها في تاريخنا وأدبنا العربي بالذات...بطولة الشهادة والموت ...بطولة الصمود بوجه الكرسي الألماني والدولاب وفولتات الكهرباء..لكنها تحمل الإذلال للرجولة ...لأن من يقتل فيه عنفوانه هو مواطن مثله..لاعدو أو محتل...مع أن الفارق شعرة ..الأسرة تدفع الثمن خلال وجوده في السجن وبعد خروجه كذلك..لأنه لايعود إليها نفس الرجل..بل إنساناً آخر وإن حمل نفس الشكل...وتبعات هذا القادم الجديد أو الدخيل الجديد على الأسرة سوف تحملها أسرة تشاركه المخفي وغير المعلن على الملأ...تشاركه الشخص المريض بنفسه والمهدود المكسور بقوة...والمنحني نحو الداخل..لكن الحياة اليومية مع أهله تختلف عن رفاق السجن...لأنه يخرج ذاته من قمقمها...أو تخرج دون إذن منه وتطفو عند هذه الفكرة أو تلك..ومع هذا السلوك أو ذاك...نكتشف حينها...فقط ماجناه السجن على السجين ومحيطه...والجميع ضحايا


5 - تابع للتعليق السابق
فلورنس غزلان ( 2010 / 3 / 28 - 22:50 )
فهل نلوم الضحية؟
ياصديقتي في بلاد تحترم إنسانها تحرص على وضع أي سجين أو رهينة تحت أيدي اختصاصيين نفسيين هم وأسرهم، كي يستطيع العودة لحياته الطبيعية ويكون مؤهلاً للتصالح مع نفسه ومع محيطه ، ويستطيع التعايش مع حياته الجديدة بعد أن خاض تجربة مريرة، لكن سجناء بلادنا لم يرَ أياً منهم أي طبيب أو محلل نفسي..ولأن المجتمع ومحيطهم ينظر إليهم كمعجزة ونصف آلهة..وهم يضعون أنفسهم بقوقعة سميكة الغلاف...علينا أن نمد أذرعتنا ونفتحها على اتساعها ليرموا برؤوسهم فوق صدورنا..وأن يبوحوا بمعاناتهم..أن يأتوا إلينا أو نذهب إليهم لايهم...لكن أن يقبل كلانا ..بحاجته للآخر..الاختباء لاينفع أي طرف...لكني أشكرك من قلبي لأنك تجرأتِ وفتحتِ باب موضوع شائك ويحتاج لدفاتر علاجية...وصدقاً أني وعدت ومازلت عند وعدي أن يكون الموضوع الأهم في حياتي القادمة ...هو أثر السجن على محيط السجين..
أشكرك لأنك نكأت جرحاً أخيط قبل أن يبرأ...فحاولت إخراج بعض صديده


6 - تابع لتعليقي السابق
فلورنس غزلان ( 2010 / 3 / 28 - 23:09 )
فهل يلام الضحية؟ أم على محيطه أن يساعده للخروج نوعاً ما من نفسه ومما ألبسها إياه من طبقات من الثياب مكرهاً ومرغماً...المشكلة أن أي سجين سابق مهما كان نوع سجنه في بلاد أخرى تقدر الإنسان وتفهم مايعنيه السجن ومايخلفه على النفس البشرية..تضعه من فوره تحت يد اختصاصيين نفسيين، ويتسلم كل أسير أو رهينة سابق وعائد فور هبوطه أرض وطنه مجموعة من الاختصاصيين النفسيين والمشرفين...له ولأسرته كذلك كي تساعد في شفائه وخروجه وتأهيله للحياة العادية وعودته الطبيعية إليها...لكن سجناءنا وخاصة من قضوا أكثر من عقد ونيف وعاشوا مذبحة تدمر .. وجُربت فيهم كل تكنولوجيا التعذيب..لم ينعموا حتى بشيء من الحرية ولم يخرجوا من سجنهم إلا إلى سجن أكبر أو ماوى مُمَوه..فكيف تريدينه أن يكون؟...إنه شكل بطولي...وداخل منخور ونفس معذبة..تحتاجنا...وتحتاج استيعابنا..على أن تقبل أذرعتنا المفتوحة..وتأتي إلينا وتضع رأسها فوق أكتافنا ..فتجد الحماية وتستطيع أن تتصالح مع ذاتها ومع وضعها نوعاً ما..
ياصديقتي الحديث يحتاج للكثير من المعالجة فعلا..وشكرا لك لأنك امتلكت الجرأة على نكأ الجراح وأردت إخراج صديدها


7 - نزاهة النقد و شجاعة الاعتراف
علي ديوب ( 2010 / 3 / 28 - 23:55 )
في المقالة جهد غير خفي، وهي إلى موضوعها تستحق إعادة القراءة. أما ملاحظة الأخ خالد صبيح حول هزال التصويت فأستطيع القول، بناء على حصيلتي المتواضعة في متابعة متعثرة لبعض الكتابات على هذا الموقع؛ أن الأمر لا يعبر عن مستوى المادة المكتوبة، فمرة هو محض قراءة مسبقة، يحمل تصويتا مسبقا. ومرة يفضح جهل القراء.. لكني أسأل عن حقيقة ولادة قراءة وكتابة موضوعيتين، بيننا؟ لعل الجملة التي تختتم بها الكاتبة مقالها، و تهجس بقلق على أولئك المثقفين(و هم بالقطع غير مصنّعين لاحقا في سجون النظام الحاكم؛ و إلا لضاق البد بهذه البضاعة)، تعبر عنه ب- أنهم بهذا يمارسون انتهاكاً لقدسية آلامهم وتجربتهم.-؛ هي جملة تتضمن إحراج و تحديا، برغم نبلها، وتدفع للتأمل فيما إذا كان أولئك المثقفون مجروحين في هذا الحيز الحساس من شخصيتهم(تجربتهم، خصائصهم المضافة)؛ حتى ليبدو عزوفهم عن الاعتراف العلني- و الاكتفاء به بينياً- سمة يتقاسمون نقصها، لتنزل بهم إلى ما دون التعريف المحمدي عن الجهاد( الأكبر و الأصغر)، برغم أنهم ضربوا أمثلة في التحمل والشجاعة- كما يرد. و هي تفتح على نزاهة أدب القراءة، و النقد، جنبا إلى جنب مع أدب شجاعة الاعتراف

اخر الافلام

.. مفوض الأونروا: إسرائيل رفضت دخولي لغزة للمرة الثانية خلال أس


.. أخبار الساعة | غضب واحتجاجات في تونس بسبب تدفق المهاجرين على




.. الوضع الا?نساني في رفح.. مخاوف متجددة ولا آمل في الحل


.. غزة.. ماذا بعد؟| القادة العسكريون يراكمون الضغوط على نتنياهو




.. احتجاجات متنافسة في الجامعات الأميركية..طلاب مؤيدون لفلسطين