الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ديمقراطية المسدس الثقافي

عدنان الصائغ

2002 / 7 / 12
الادب والفن


تراه لا يفتتح مقالته إلا بالحديث عن الحوار الديمقراطي، ولا يختتم أمسيته الثقافية إلا بالدعوة الملحة إلى الانفتاح الديمقراطي، ولا يتناول فطوره المكون من بيضتين مسلوقتين إلا ويرشهما بملح الديمقراطية، ولا ينام في آخر الليل إلا بعد أو يتناول قرصاً ديمقراطياً مهدئاً يبعد عنه ما قرأه وما سمعه في النهار من كوابيس الحوارات المتشنجة ولغة السياط ونقاش المسدس … وتعجب من أسلوبه الديمقراطي حين يفتح لك باب الحوار على مصراعيه ويدعوك أن تبدي وجهة نظرك بلا خوف أو تردد، مستهلاً دعوته بدزينة من الأقوال والمصطلحات والحكم المأثورة  منها يقول شارك تايلور "الديمقراطية هي فن الاعتراف بالآخر" ومنها قول آلان تورين "أن الديمقراطية لا تقوم فقط على قوانين بل تقول قبل كل شيء على ثقافة سياسية" ومنها قول الشاعر العربي "واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية" ولا ينسى طبعاً أن يحدثك عن موقف فولتير من روسو وكان على خلاف فكري عنيف معه، حتى إذا صادرت السلطات السويسرية كتاب روسو وأمرت بإحراقه كان فولتير أول المدافعين عنه تمسكاً بمبدئه الشهير: "أنا لا أتفق معك في كلمة واحدة مما قلته ولكنني سأدافع عن حقل في الكلام وحرية التعبير عن أفكارك حتى الموت".

وتطمئن إلى سعة صدر الرجل، فتتوكل على الله وتبدي رأيك في كتاباته إطراءً ومدحاً وهو منبسط الأسارير، متهلل الوجه، لكن ويا للعنة من لكن، ما أن تقول له أن لك رأياً مخالفاً حول نقطة صغيرة في موضوعه الفلاني حتى يكفهر وجه الرجل وتتغير ألوانه أخضر ثم أصفر ثم أحمر وقبل أن تكمل ملاحظتك الثانية حول أسلوبه في الكتابة، تراه قد كشر عن أنيابه لافتراسك جملةً وتفصيلاً، فتذكره بأفلاطون وديمقريط وتايلور فيشتم تاريخك وتاريخ الفلسفة اليونانية وتعيد إليه ما رواه عن فولتير فيحمل طبق البيض ليرميه في وجهك وتحاول تهدئة الموقف فتقول له: ماذا عن "اختلاف الرأي الذي لا يفسد للود قضية، فيتهمك بالعمالة والجاسوسية والاستخباراتية والخ، والخ، حتى تخشى في حمى تصاعد اتهاماته أن يسمع سماعة التليفون ويتصل بالبوليس لتضيع بـ "شربة ماء" .. غير أن جرس الباب يرن، فتحمد الله أن زوجته تدخل لتقول له أن صحفياً على الباب يروم أجراء حوار مع حضرته عن سبل الحوار الديمقراطي الكفيلة بتطور الشعوب، فتتغير خارطة ألوان وجهه عكسياً وتهدأ أساريره ويبتسم لك برقة ولزوجته بعطف وللصحفي بمودة لا متناهية ويبدأ حديثه عن أفلاطون وديمقريط وشارل تايلور والآن تورين واختلاف الرأي الذي لا يفسد للود قضية وموقف فولتير من روسو .. والخ، والخ فتفغر فمك دهشة لا تستفيق منها إلا حين ينهض الصحفي بأوراقه الممتلئة منتفخ الأوداج طرباً بما سمعه من حديث ممتع عن الحرية والديمقراطية وتعدد الآراء واحترام الفكر، سيكون هو المانشيت الأول على صدر صحيفته، ويصافحك بحرارة – وهو يتجه إلى الباب – متمنياً لك وقتاً سعيداً ومفيداً بصحبة صديقك المفكر الديمقراطي …

*    *    *

وتراه لا يجلس في ندوة إلا وتحدث عن الإرهاب السياسي والقمع الثقافي في بلده الذي فرّ منه مؤخراً، ليستقر في المنفى منتعشاً بمناخ الحرية، وتراه لا يدلي بحديث تلفزيوني إلا وخلع قميصه ليري الجمهور المشاهد آثار سياط الجلادين على ظهره بسبب مواقفه الفكرية واختلافه مع نظام بلده القمعي وتراه لا يجد فرصة ساخنة من الكلام إلا وطلب بحرية الرأي والاختلاف والنقاش والمحاورة الديمقراطية بعيداً عن كواتم الصوت والمخبرين والتقارير السرية، فتطرب للرجل وتكاد ترقص أنك وجدت أخيراً في غربتك صوتاً نصيراً للمضطهدين عانى ما عانى من الاضطهاد بسبب آرائه وذاق ما ذاق من ضراوة الظلم والرأي الواحد والحكم الواحد فأقسم ألا يترك الدهر مظلوماً، مثلما أقسمت أم حاتم الطائي وقد أشرفت على الهلاك جوعاً بعد أن ضلتْ بها الصحراء حتى انتشلتها مجموعة من الأعراب وقدموا لها الطعام والشراب، فأنشدت وقد ذاقت مرارة الجوع:

لعمرك قدماً عضني الجوع عضةً

فآليتُ ألا أترك الدهرَ جائعا

فتطمئن للرجل، وكل غريب للغريب نسيت – على حد قول امرئ القيس–

لكنك في أول خلاف فكري معه تكتشف أن جلاد بلدك الذي هربت منه ربما أكثر رحمةً وتسامحاً وتجد نفسك في مفارقةٍ لا تُحسد عليها، فوظيفة السوط أن يجلد بينما وظيفة القلم أن يعلم ويحاور وينير، فكيف تحول القلم بيد صاحبنا إلى سوط أكثر قسوة من سوط الجلاد نفسه، هل لأنه يمارس شهية تقليد الجلاد فيتفوق عليه، والى ذلك يشير أبن خلدون في مقولته "الضحية يقلد الجلاد" أم لأنه يعرف مواطن الألم والضعف في داخلك، والى ذلك يشير المفكر علي حرب في قوله "أن المثقف يفع ما تفعله السلطات السياسية عندما يحل مكانها، بل هو يتصرف على نحوٍ أسوأ، يشهد على ذلك ما يمارسه المثقفون من الاستبداد والإرهاب بعضهم ضد البعض الآخر".

وتضحك، فالمخبر الذي كان يطردك من رصيف إلى رصيف ومن مكتبة إلى أخرى هو موظف لدى الدولة يستلم راتبه ويعتاش عليك، لكن زميلك المثقف الذي كسر حياته لا للأدب وكتابة نصوصه الإبداعية بل لتدبيج التقارير السرية عنك وعن رفاق القلم والمثقفين داخل الوطن وخارجه، كان يعمل للسلطات تطوعاً ودون أجر ... وتحتار أيها الأشرف.

 

 

عدنان الصائغ

شاعر عراقي مقيم في السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي