الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شيلان

محمد سليم سواري

2010 / 3 / 31
الادب والفن


في كل حين ، عندما كانت لوحدها كنتُ أراها وقد وضعت يدها اليسرى على جبينها ضاغطة عليه بقوة ، كأنما تريد أن تطرد الآلام منه.. كانت تمسك بقلمها في اليد اليمنى وهي تؤدي عملها اليومي بكل هدوء وصبر.. وعندما تكون في جلسة مع زملائها وزميلاتها كانت تتحدث لتكون محور الحديث بل كانت هي من تدير الحوار بلباقة وتظهر للعيان كوردة متفتحة وتسحر بهذا الجمال المحيطين بها ويظن كل واحد منهم بأن ما يشمه من العطر له وحده.. وكل واحد من الجالسين يراها كثريا تبعث بنورها وكل واحد يظن بأن هذا النور يضيئه وحده وشاخصة عليه.. وكم كنت أبقى حائراً أمامها أضرب أخماساً بأسداس وأقول مع نفسي ..أية إنسانة هي؟ إنها مثل فصول السنة.. في قت يخيم على واحتها الربيع والخريف ، وفي حين آخر تعيش في الصيف والشتاء معاً.. ليس فقط هذا بل كنت ألمح في واحتها وفي عز الصيف شتاءً قارصاً وفي عنفوان الربيع كان لونها يتغير الى الخريف الذليل.. وكنت اخاطب نفسي : " أية إمرأة هذه المخلوقة ؟ كيف يمكن لبشر أن يفهمها ومتى يمكن لها أن تفهم إنساناً وتستوعبه؟ من الصعوبة بمكان أن يفهمها أي إنسان ويفلح في الولوج الى عالمها .. إنها محاولة مرهونة بالفشل ، فليس لعالمها مفتاح او دليل " .
مضت أيام وتلتها أيام اخرى وتأكدت في قرارة نفسي بأنني أصبحت أفهمها أكثر من ذي قبل ، بل وأصبحت قريباً من ضفاف عالمها ، وكانت هناك فرصة لأسألها:
ـ ألا تزعلين لو وجهت اليك سؤالاً؟
فابتسمت إبتسامة حزينة ولكنها كانت تساوي عندي الكثير وقالت :
ـ لو زعلت وسئمت من كل الناس فمن المستحيل أن أزعل منك .. لك مكانتك الخاصة عندي.. اطرح سؤالك بدون تردد وكلي آذان صاغية.
ـ أُصارحك القول بأنني منذ فترة في شوق لطرح هذا السؤال ، ولكنني أتردد، لأنني لم اتهيب من كل عالم المرأة مثلما أتهيب منك وأتردد معك ، وأمامها أحسب ألف حساب وتفكير؟
خاطبتي والإبتسامة لم تبرحها :
ـ ولماذا كل هذا الحذر والتردد وأنا ها أمامك؟؟
ـ إن مبعث ترددي وخوفي من أن لا تفهمينني.
ـ كن واثقاً سوف لن ازعل منك وسوف أفهمك بسهولة !!.
ـ من المؤكد عندما اراك لوحدك اظن بأنك تحملين كل مصائب وهموم الدنيا على كاهلك ولكنني عندما اراك مع الاخرين تصبحين انسانة اخرى.
وبكل هدوء سحبت يدها من على جبينها وأمعنت النظر في.. وعندما رفعت رأسي لأسمع جوابها ، إلتقت عيناي بعينيها وهما تفيضان بالدموع.. حيث لمحت دمعتين وقد ودعتا منبعهما مسترسلتان ليطوفا الخدين وقالت بصوت هادئ:
ـ دعني أقول لك إن ما أحمله على كاهلي كثير ..وليبقى هذا الصخر الثقيل في موضعه .. كل رجائي دعه وشأنه .. لا تحاول تحريكه ودحرجته ..أملي ان لا يصيب إنسان ما أصابني .. قلبي لا يطاوعني ان اروي لك قصتي ..لكي لا تحزن لحزني ولا تتألم لألمي ولا تيأس لمأساتي.
وهنا سكتت وأخذت نفساً طويلاً وهي تتألم .. تألمت أكثر منها وشعرت بأنني المذنب الذي سبب لها هذا الألم .. فقلت لها :
ـ أرجوك .. أنا متأسف .. لم يكن هذا قصدي .. تقديري وإحترمي لك دفعني لهذ الطلب .
ـ سوف أستجيب لطلبك .. وعليك أن تعيرني جزءاً من وقتك لتسمع قصة معاناتي وتشاركني فيها.
ـ ماذا تتصورين سوف لن اسمع منك فقط قصة معاناتك بل انا مستعد أن أمد لك يد العون واضحي من اجلك بكل ما تعنيه التضحية لأخفف عنك هذا الحمل .
ثم اردفت بالقول:
ـ كيف لك أن تشاطرني وتمد لي يد العون ..لأن ما احمله تنوء بحمله الجبال.. لو اجتمع كل من في الأرض لا يستطيعون حمل ما أحمله.. إن حملي شيلان.
وقال له وقد اخذه العجب والحيرة:
ـ لماذا.. لا سامح الله ماذا أصاب شيلان؟
فقالت بحسرة:
ـ إن شيلان مريضة.. وليس لمرضها من علاج أو دواء ، إن دورتها الدموية معاكسة وقد يأس الطب من العلاج ، ويقولون قبل أن تبلغ الرابعة عشر من عمرها سوف تموت.. لم أترك طبيباً إلا وأخذت شيلان اليه.. ولكن يظهر أن الكل متفقون بأن إبنتي سوف تغادرنا .. نعم سوف تودعنا.
وعندما وصلت بحديثها الى هذه الجملة أُظلمت الدنيا أمام عيني واستعدت دموعي لتكون جواباً لما يجري في عينيها .. ووشحت بوجهي حيث قالت لي:
ـ بالله عليك هل هناك مصيبة أكبر مما أتحمله.. كلما ألمح شيلان أتذكر موتها ومراسيم تشييعها وتعزيتها وعندما ألبس ملابسي وتقع عيني عليها تظلم العالم أمام عيني ولا أستطيع أن أفعل شيئاً.. وعندما نكون جالسين على المائدة وأنظر اليها يصعب علي حتى بلع لقمتي.. وعندما أذهب ليلاً الى سريري لكي أرتاح قليلاًً وأنسى جزءاً من معاناتي ..أتذكر بأن يدي تحتظن رأسها وبعد سنة من هذا اليوم سوف يحتظن التراب هذا الرأس الجميل ويبقى مكانه خالياً.. عندئذ تحرم النوم من عيوني وتعقد الدموع جلستها على خدودي وحيث تحس شيلان بمعاناتي وبسقوط دموعي على وجهها ، تقول لي: " أُماه لماذا كل هذا البكاء هل أن والدي فعل ما يضرك.. أُماه كلما تبكين فان قلبي يؤلمني ويزداد خوفي.. أُماه استحلفك بالله أن تنقطعي عن البكاء ، هذا البكاء لا يلائمك.. هذا البكاء يسرق جمالك ولكنك عندما تبتسمين فانك تكونين أجمل من كل امهات العالم وعندما تبكين أحس بانه ليس هناك في العالم ام".
ثم استرسلت بالقول وكأن الحديث عن ابنتها يريحها:
ـ وعندما كنت أسمع كلمات إبنتي، كنت اجبر نفسي وأصطنع إبتسامة بائسة ويائسة تملأ شفتي وأمسح دموعي وأقول مع نفسي: " آخ منك يا شيلان .. أنت لوحدك تعانين ولا أستطيع أن أفعل لك شيئاً .. هل يأتي يوم أضمك فيه من كل قلبي وأنت في كامل العافية ..كم أتمنى أن يأتي ذلك اليوم".
وعندما إستمعت لهذا الحديث إزدادت ضربات قلبي وبكت كل خلية من جسمي حزناً على هذه المأساة .. وقلت حيث خنقتني العبرة:
ـ الله يكون في عونك ، لا تقطعي أملك من رحمة الله .. ولكن لي رجاء عندك . فبادرتني بالقول:
ـ قل ما هو؟
وكأنها تتأمل مني الحل لمشكلتها فقلت مستسلماً:
ـ أملي أن تلبين كل طلبات ابنتك.
ـ نعم هو كذلك لقد أقسمت على نفسي أن اوظف كل دقيقة من حياتي لإسعادها وتلبية طلباتها.. نعم طلباتها مستجابة.. حتى انها قبل فترة قالت لي.. أُماه رجائي أن تشترين لي بدلة بيضاء كبدلة العرائس وكأن قلبها يشهد بأنها لن تعرس وهي كبيرة فترغب تحقيقها وهي صغيرة..لا تتصور مقدار حزني وانا ذاهبة الى السوق لأشتري لها بدلة بيضاء بعمرها وألبسها مساءً عند مواعيد الأعراس.. لقد فرحت كثيراً وتوهمت مع نفسها بأنها عروسة .. وكلما كان يزداد فرحها كنت أزداد مع نفسي حزناً وألماً ومعاناة.. ولكنني كنت أمثل أمامها بأنني فرحانه وأقول مع نفسي : " عندما تموت شيلان سوف أحرم اللون الأبيض على نفسي وتصبح الأعراس عندي حزناً ومأتماً ومراسيم تعزية ويسقط من عيني كل معنى للفرح " .
مضت الأيام وشيلان التي عرست بثوبها الأبيض بدون عريس وهي صغيرة .. رحلت عن الدنيا من غير كلمة وداع ليبقى صوت هذه الأُم يرن في الآذان وعلى مر الأيام .. وتبقى كلمة واحدة أسيرة على شفتي وهو صوتها الذي هزعالم مشاعري وأفكاري وليبقى في وجداني: " حيث تكون هذه الدنيا ليس من السهولة أن يحقق الإنسان أمله وينال مبتغاه .. لكي أبقى كتاباً طلسماً ، وقصة بدون نهاية ، وشتاء بدون ثلوج ، وصيفاً محروماً من الفواكه ، وربيعاً غائبة عنه الورود والآمال ونهاراً معدوماً من النور .. حتى يفهمني فقط الشخص الذي يستطيع أن يزرع بالحزن الثقة في نفسي ، وبدموعه يمسح دموعي وبآلامه يطفئ نار قلبي .. وبإنصهاره يضع نهاية لقصة حياتي .. يا ترى من يكون هذا القادم وأين هو!؟

• القصة مستوحاة من حادثة حقيقية عند وفاة إبنة إنسانة عزيزة على نفسي فكتبت القصة باللغة الكردية سنة 1992 ونشرت في صحيفة هاوكاري العدد ( 1582 ) في 8/11/1992.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا