الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن قانون جزائري افتراضي -يجرم- الاستعمار

ياسين تملالي

2010 / 4 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


في مطلع هذه العشرية، وعقب نشر شهادات جديدة لضحايا التعذيب من مناضلي الثورة الجزائرية، اندلع في فرنسا نقاش حام عن ضرورة الاعتراف الرسمي بمجازر الاحتلال الفرنسي للجزائر. و ما لبث هذا النقاش أن تحول إلى جدل مستعر بين قدامى مساندي الحركة الوطنية الجزائرية وخصومهم في اليمين وأقصى اليمين، بين المؤمنين بشرعية لجوء هذه الحركة إلى السلاح والداعين إلى مرااجعة تاريخ الاستعمار على ضوء إخفاقات النظام الجزائري وما توجها من حرب أهلية طاحنة. وكان ذلك دليلا ساطعا على أن الزمن لم يمح من الذاكرة الفرنسية شبح "الأقدام السوداء" (أي أوروبيي الجزائر المستعمَرة) ولم يمح من ذاكرة هؤلاء صورة ما يعدونه وطنهم "السليب" لا وطن الجزائريين المغتصب في 1830.

وبلغت رغبة بعض النخب اليسارية في تخفيف وطأة الوحشية الاستعمارية على "ضمير" الجمهورية الفرنسية حد مطالبة الإليزيه بالاعتذار للشعوب المستعمَرة عما عاشته من مآس لا تزال تجتر آثارها إلى اليوم. ولم يقنع رفعُ هذا المطلب الجنرالات الجلادين بإعلان ندمهم على جرائمهم، ناهيك عن طلب الصفح عنها من ضحاياهم. عكس ذلك، زادهم الاهتمام الإعلامي بهم فخرا بما اقترفت أياديهم. وكان مثال هذا الفخر المقيت كتابا عنوانه "الأجهزة الخاصة : الجزائر من 1955-1957" (« Services spéciaux : Algérie 1955-1957) زها فيه صاحبه، سيء الذكر بول أوساريس، بأنه هو شخصيا من أعدم أحد قادة الثورة الجزائرية، عربي بن مهيدي، في زنزانته في مارس 1957، ما كان أول اعتراف بأن الرواية الرسمية عن وفاة هذا المناضل منتحرا كانت محض هراء.

واستغل غلاة "أوروبيي الجزائر" المرحلين عنها في 1962 تزامن طفو هذا "الماضي غير الجمهوري" إلى سطح الذاكرة الفرنسية مع تجدد الجدل حول مكانة أحفاد "الأنديجان" في المجتمع الفرنسي (انتفاضة الضواحي الباريسية في خريف 2005)، فضاعفوا الضغوط على اليمين الحاكم لإقناعه بتصليب موقفه في هذا النقاش إذا ما أراد الفوز بأصواتهم في الانتخابات. وكعادته منذ ازدياد الوزن الانتخابي للجبهة الوطنية بقيادة جان-ماري لوبان، لم يقاوم اليمين هذه الضغوط طويلا. تزاوجت لديه الرغبة في كسب أصوات "المرحلين" وأبنائهم باستعادة شوفينية "لعظمة" فرنسا وأفضالها الجمة على المستعمرات، ما كان نتاجه قانون 23 فبراير 2005 الذي خلد مساعي المعمرين "التحضيرية" وراء البحار.

وبرهن التصويت على هذا القانون على أن ميزان القوى في إحدى أعرق الديمقراطيات الغربية يميل ميلا واضحا إلى اليمين وأن رفع مطلب "الاعتذار عن جرائم الاستعمار"، في سياق تجدد الخطابات التي تصور السود والمغاربيين على أنهم سبب الأزمة الاقتصادية والانفلات الأمني المزعوم، كانت له نتائج عكسية : تدعيم صفوف أقصى اليمين وزيادة رغبة اليمين، لأسباب انتخابية، في تبني مطالبه العنصرية.

كان ممكنا، بطبيعة الحال، أن يبقى هذا الجدل "فرنسيا-فرنسيا"، لكنه تحول بسرعة إلى أحد مواضيع النقاش السياسي الجزائري. أدلت الصحف بدلوها فيه وفتحت صفحاتها لشهادات ضحايا التعذيب إبان الفترة الاستعمارية ولتحليلات المحللين لما أثاره مطلب "اعتذار فرنسا عن جرائم الاستعمار" من تنافس انتخابي فج بين اليمين وأقصى اليمين.

وشكك الكثير من مناضلي الثورة الجزائرية في وجاهة مطلب الاعتذار هذا (ما حاجة المنتصر إلى سماع توبة المهزوم عن جرائمه ؟)، غير أن النظام (من خلال دوائر غير الرسمية ثم، مباشرة، من خلال بعض ممثليه) سرعان ما حول هذا المطلب إلى محور من محاور التعبئة الشعبية حول سياسته، ما تجلى بخاصة إبان حملات الرئيس بوتفليقة الانتخابية في 2004. وبعد أن كان "اعتذار فرنسا" مطلبا يساريا فرنسيا، أصبح بقدرة قادر أحد مطالب الدولة الجزائرية، صاغه رئيس الجمهورية شخصيا في خطاب ألقاه في 20 سبتمبر 2005 وتطرق إليه مرات عديدة عبد العزيز بلخادم، أحد أقرب المقربين إليه.

ولم يثمر تبني هذا المطلب جزائريا أي تنازل من قبل الإليزيه. فبالرغم من الانتقادات الداخلية والخارجية، تمسك اليمين الفرنسي بقانون 23 فبراير 2005 لأن كل تراجع عنه كان يهدد بضرب قواعده وتحول قسم منها إلى الجبهة الوطنية. وإرضاءً "للأصدقاء الجزائريين"، اكتفى نيكولا ساركوزي خلال زيارة له للجزائر في ديسمبر 2007 بالقول إن "النظام الاستعماري كان بالغ الجور"، ولم يردف هدا الكلام الغائم بما يشبه ولو شبها بعيدا الندمَ أو طلب الصفح.

وكشف تبني مطلبَ "اعتذار فرنسا" في الجزائر عن شيئين اثنين، أولهما صعوبة تأصيله لدى شعب عانى تبعات "الشرعية الثورية" قمعا وفقرا وتهميشا، وثانيهما تذبذب التموقع الرسمي حياله لأسباب عديدة، أهمها أنه لا يحظى بإجماع أجنحة النظام التي يرفض بعضها إقحام "ذاكرة الثورة" في العلاقات الجزائرية الفرنسية ويعتبر أن الاقتصاد يجب أن يظل عصب هذه العلاقات الوحيد.

فشل النظام الجزائري في إقناع السلطات الفرنسية بإجهاض التصويت على قانون 23 فبراير 2005 وفشل في أن ينتزع منها كلمة واحدة تشبه الاعتذار، لكن هذين الإخفاقين لم يمنعا معارضى عقيدة "الطابع الأولوي للعلاقات الجزائرية الفرنسية" من أن يقترحوا، مطلع 2010، نص "قانون يجرم الاستعمار"، وقع عليه 120 نائبا ينتمون إلى الحزبين الحكوميين، جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي، وإلى حزب "معارض" ولد من رحمهما، هو الجبهة الوطنية الجزائرية.

وأُطلقت هذه المبادرة في مرحلة تعرف فيها العلاقات الجزائرية الفرنسية فتورا كبيرا أدى إلى تأجيل قدوم عدة وزراء فرنسيين إلى الجزائر، فضلا عن إلغاء زيارة مقررة للرئيس بوتفليقة إلى باريس، وبدا واضحا أن السلطات الجزائرية شجعتها سرا وإن سعت إلى تشذيب مشروع القانون المذكور بما يجعله أقل راديكالية.

هل سيتحول هذا النص يوما إلى قانون ساري المفعول ؟ لنا أن نشك في ذلك ونحن نسمع رئيس المجلس الشعبي الوطني (غرفة البرلمان الأولى)، عبد العزيز زياري، يصرح مؤخرا إن "سحبه ليس مستبعدا". وقد كشف تصريحه عن أن أصحاب هذه المبادرة لم يأخذوا بعين الاعتبار استحالة دعم أصحاب القرار لها لسبب واضح هو ارتباط جزء منهم بدوائر باريسية، سياسية واقتصادية، بالغة التأثير.

أما ما برهن عليه كلام عبد العزيز زياري أبلغ برهان فتحولُ استرجاع ذاكرة الحقبة الاستعمارية إلى وسيلة ضغط على فرنسا لتليين موقفها في مسائل كمصير الصحراء الغربية والحضور العسكري والاستخباراتي الأجنبي في دول ساحل الصحراء المتاخمة لحدود الجزائر الجنوبية. من هذا المنطلق، ليس من المبالغة القول إن بعض من يدعون صادقين إلى "تجريم الاستعمار" بنص القانون هم أداة في أيدي دوائر رسمية وغير رسمية تفاوض فرنسا على ملفات جيوسياسية لا علاقة لها مطلقا بالتاريخ.

ماذا نالت الجزائر من انخراطها في هذا الجدل عن ماضي فرنسا الاستعماري ؟ لم تنل شيئا. أضافت إلى قائمة إخفاقاتها السياسية والديبلوماسية إخفاقا جديدا عمق اقتناع الجزائريين بأن حكامهم عاجزون عن الفوز في معركة رمزية لهم فيها كل الأفضلية المعنوية، فما بالك بالانتصار على "الغريم الفرنسي" في معترك السياسة والاقتصاد ؟

ياسين تملالي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا فرق
عبد القادر أنيس ( 2010 / 4 / 2 - 22:55 )
إثارة هذا الموضوع في الجزائر هو من قبيل التلهية لا غير. لو كان الهدف هو حرص الواقفين وراء هذا المطلب على حقوق الإنسان الجزائري الذي عانى من الاستعمار لرأيناهم قد تحركوا لتبني مواقف أخرى تمس حاضرنا ماضينا لا تختلف عنه.
كتب التاريخ عندنا لا زالت تتعامل مع الغزو العربي الإسلامي ومع الهيمنة التركية بتشويه بغيض خدمة للهيمنة الدينية على مجتمعنا اليوم. هو استعمار بشع سواء تعلق الأمر بالرومان أم بالعرب أم بالأتراك وحتى بالاستبداد الحالي، فلماذا نجمّل صورة هذا ونشوه صورة ذاك.
حاضرا ما ارتكبته الجماعات الإرهابية الإسلامية لا يقل بشاعة عما ارتكبه الاستعمار. ومع ذلك عملت الدولة على استصدار ميثاق يعفو عن المجرمين ويكرمهم وهي الآن تريد أن تختمه بقانون لإلغاء عقوبة الإعدام نحن نعرف أن المعني به هم الإرهابيون وليس المواطن البسيط.
في الساحة أحزاب وجمعيات رسمية تقف وراء مطلب اعتذار فرنسا ولكنها وقفت ولا تزال وراء العفو عن الإرهابيين بل طالبت بعدم إلغاء عقوبة الإعدام مستثنية الإرهابيين الإسلاميين منها.
إنها مأساة حقيقية عندما نحاول تعليق كل خيباتنا على الاستعمار بعد نصف قرن رحيله.
تحياتي


2 - كلمة حق أجهز عليها حانوتي
خولة ( 2010 / 4 / 3 - 01:46 )
.من الواضح أن أشد الداعين لأثارة موضوع الأستعمار هم الأقل تأييد لتسوية مخلفاته ومع ذلك يجب الأنتباه جيدا للمراواغات التي يقوم بها ورثة المستعمر أليست فرنسا اليمين هي التي سارعت لتحسين وجه الأستعمار وصار له محاسن ولنا لا ما دامت المستعمرات السابقة تتخبط في مشكلات مزكبة والباكين على فواكه المتيجة وخط سكة الحديد الذي يوصل مزرعة كزلون بأخرى ويخفض سعر التذكرة في موسم زيارة سيدي عابد وكأنه في ماي 1954 واجه جيش نظامي آخر وليس عزل مقابل نار يعجبنا كلاسيكي شعر محمد العيد آل خليفة تماما كما يعجبهم ويعجبنا هيجو بل تعجبنا لوحة راسم أكثر من لوحة ديلاكروا ونعتز ببطولةعامل مصنع الغاز الذي مات بحكم الأعدام أكثر نعتز به من رسالة ألبير كامي كأعتزازنا يأوجيستين القديس لكن بالقديس دونا أكثر لا خير في الأستعمار حتى ولو انتهز تجار النصر الفرصة

اخر الافلام

.. انتخابات رئاسية في تشاد بعد 3 سنوات من استيلاء الجيش على الس


.. الرئيس الصيني في زيارة دولة إلى فرنسا والملف الأوكراني والتج




.. بلحظات.. إعصار يمحو مبنى شركة في نبراسكا


.. هل بات اجتياح مدينة رفح قريبا؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم طولكرم بعدد من الآليات العسكرية