الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية

وليم نصار
مؤلف موسيقي ومغني سياسي

(William Nassar)

2010 / 4 / 7
الارهاب, الحرب والسلام


في مثل هذه الأيام النيسانية، وعندما كان الرصاص قد ألجأ سكان بيروت كي يحتموا بأي متراس أو حائط أو ملجأ أو جثة، فان امرآة خمسينية خرجت تجازف وتسعى إلى مقبرة الشهداء.
لم يشغلها أي شي عن (أداء) الواجب، حتى ولو ان ذلك سيؤدي للمخاطرة بالحياة.
إن الواجب عندها أهم ... هكذا هو الحال في كل عام ... فهل يغير رصاص القنص وقذائف الموت شيئا من العادات؟
هكذا كانت تتساءل في دخيلة نفسها.


كأنها من نساء الأساطير .. أو كأنها امرأة من نسج الحكايات والخيال الجامح .. بين القبور كانت علامة فارقة ... علامة حياة تتسربل بالأسود الغامض وتمسك بيديها إكليل زهر.
سقت الزرع والورود ... رسمت شارة الصليب على صدرها وتلت صلاة الحب على روح حبيبين خرجا من رحمها ... ثم قرأت الفاتحة على أرواح كل الرجال والنساء الذين سقطوا وحلم عودة الوطن المغتصب يراود كل ذرة من خلايا أعمارهم.
امرأة ... استطاعت أن تجمع تناقض الموت مع عشق الحياة ... هكذا وببساطة .. ودون افتعال.
بين القبور كانت، والرصاص ينهمر من مزاريب وزواريب ... تحمل باقة زهر وتسقي الورد الذي يتجدد من أنامل تحولت بفعل شقا العمر "وتعتيره" إلى ملاقط للحديد أو الحجارة ... أو لارضاع حب حيفا ويافا وعكا ويبوس مع الحليب.

يااااه .. تلك المرأة الخمسينية ما أعجبها .. كانت تلوح في مقبرة الشهداء في بيروت، وكأنها وشم الحياة المنقوش على سارية خفاقة من قماش العمر ... لا تطوى إلا كي تفرد... ولا تبلى إلا كي تتجدد ..

وتبقى وفية للناس وللأهداف التي استشهد لأجلها الناس.

تلك المرأة كانت إم جورج ... أو ليلي ... أو إم تموز .. أو إم سعادة ... أو ببساطة ... أمي.
لا فرق ... فأمهات الشهداء من أجل فلسطين ... لهن جميعا نفس الاسماء ونفس الرائحة ونفس أحزان العاشق.
تلك المرأة بعد مضي منتصف العمر تقول: بعد رحيل الشباب تغيرت أوضاع البلاد... ما عاد لبنان على ما كان عليه ... ولا فلسطين بقيت كما كان يجب أن تكون ... كل الأمور تغيرت ... وربما لن أعود لأدفن في حيفا ... ربما سيعود إليها أحفادي ممن تبقى لي من أولاد ... لكنني سأعود ... ولا زلت أحتفظ بجواز سفري الفلسطيني وأوراق ملكية الأرض الثبوتية.

لأم تموز ... أو ليلي شاهين .. أمي .. قبلتي التي أتوجه إليها لأداء صلاتي لفلسطين ... قبلة في الجبين العالي ... وانحناءة ... وألف عار لكل من قتل حلمك ... لكننا سنعود ... وستجدين الكثير من الأطفال، صبية وبنات، لبنانيين وسوريين وعراقيين ومصريين وأردنيين يتهافتون للعيش في حيفا.

إلى ليلي شاهين ... أمي ... نضيء شمعة العدد الأول الجديد من مجلتنا البديل اليساري واشرب نخب استمراره أدوية وعقاقير على اسمك ...
أهديكي يا أم هذا العدد الذي حاولت أن يكون عن ذكرى الشهداء الذين سقطو دفاعا عن فلسطين وعن لبنان العربي الديمقراطي أثناء الحرب الأهلية في وطننا لبنان.. وكان من بينهم جورج ورحمة أبناءك وأخواي الذان نسيت تفاصيل وجههما ... لكن المرض أنهك الجسد النحيل وما تبقى من روح، ولم تحظ ذكرى الحرب الأهلية سوى تلك الكلمات.

أما أنتما ... يا جورج ويا رحمة ... يا أبناء أمي وأبي ... تعود ذكراكما هذا النيسان عطرة ندية ... وكأن فراقكما كان أمس أو أول من أمس ... تعودان أكثر كرما وأكثر عزة ... ونحن أقل كرما وعزة.

وإلى جميع الشهداء على درب فلسطين أتوجه بسؤال يستولي علي في هذه اللحظة: هل أنتم ميتون حقا؟ هل نحن أحياء حقا؟
من منا الميت .. ومن الحي؟
من منا يحمل الآخر؟

إنني أجزم أنكم في غيابكم أكثر حضورا منا ... وفي موتكم أكثر خصبا وعطاء ... وفي هدوءكم أكثر صخبا وعنادا.
ولا أخفيكم سرا .. بأن أكثرنا يغبطكم، بل يحسدكم على ما أنتم فيه من نعماء ... لم يعد التفكير في بعضها إلا طموحا نفتقر معه إلى الشعلة والمبرر.

يا شهداء الحرب الأهلية دفاعا عن فلسطين وعروبة لبنان...
في ذكراكم .. نكتشف خسارتنا من غيابكم ... مثلما نكتشف غيابنا في حضور ذكراكم ...
أنتم عشتم لتموتوا ... ومتم لكي تحيوا...
أما نحن فاننا نعيش لنموت ...

نعيش لنشهد موتنا إما من ضياع وطن أو خسارة حلم .. أو خيانة صديق أو غدر حبيبة... والله وحده يعلم كم مرة نموت قبل أن نموت ... وليس من ضمانة أننا إن متنا سنعرف أي نوع من الحياة.

أيها الشهداء الهادئون في غيابهم ...
هل تحدثونا عن أخباركم أم نتلو عليكم آيات من أخبارنا؟

فلسطين التي تركتموها تحت الشمس لم يتبق منها شيء ...
ولبنان الذي أردتموه علمانيا ديمقراطيا أصبح مفصلا على مقاس الطوائف وتجار الدم.. وبعد أن كنا نبحث عن من قتل شهداءنا أصبحنا نبحث عن قاتلنا نحن.
أيها الشهداء الجميلون ...

شهداء الحرب الأهلية اللبنانية ...
شهداء المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ...
في ذكراكم ... سلام لكم ... وموت لنا ...
سلام لكم ... سلام لكم ... سلام لكم ...
يوم ولدتم ويوم رحلتم ..
ويوم تبعثون أحياء.
سلام لكم ..
سلام.
_________________
* د. وليم نصار مؤلف موسيقي وناشط سياسي
5 نيسان - أبريل 2010
مستشفى لندن - اونتاريو لامراض السرطان
سرير 1301








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة