الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 14 من رواية تصبحون على غزة

حبيب هنا

2010 / 4 / 7
ملف مفتوح: مناهضة ومنع قتل النساء بذريعة جرائم الشرف


14
بجهد زاحف ، تحاول ريتا استكمال الصورة التي رسمتها للحياة في القرية الأصلية ولكن دون جدوى .. فتقرر البقاء جالسة على حافة الشرفة . ضائعة النظرات ، لا رغبة لديها في عمل أي شيء مهما كان مفيداً ، غير أن النظرات ، رغم ذلك ، لا تترك تفصيلاً واحداً إلا وتسجله :
سجلت الشمس تطل على استحياء ، الفراشات تداعب أزهار الورود، العصافير تنزل عن الأشجار بحثاً عن الطعام على الأرض ، بعض الفتية يتراكضون بمرح ، قطة سوداء وأخرى بيضاء تتصارعان ، سيارة حديثة تقودها سيدة في مقتبل العمر يجلس إلى جوارها في المقعد الأمامي كلب باهظ الثمن ، رجل عجوز يترنح أمام أبواب المنازل المتناثرة وفي يده زجاجة جعةٌ ، بعض الشبان يمارسون رياضة الركض التي اعتادوا عليها كل صباح ، ظلال الشمس تتكسر على أغصان الأشجار، فتسقط على الأرض شتاتا ً. بقايا خمول لأشخاص لا معنى لذهابهم إلى العمل متأخرين ، موسيقا كلاسيكية لفنان قدير يصعب على الذاكرة استحضاره ، تأتي من البعيد فتحول دون تراكم الهموم فوق الأحزان ، أشياء عابرة ليس لها معنى .
حدّثت نفسها بقوة الزمن المختزل ، الزمن الذي كثف ستين عاماً في لحظاته قبل قليل ، ستتعلمين كيف تبدعين فكرة جديدة ، لأنك ستكونين بحاجة إلى حالة إبداع غير مسبوقة ، تعلقينها على صدرك وساماً لا ينافسك عليه أحد ، وسيكون عليك مناطحة الذين سبقوك ، فكرة بفكرة ، سيكون عليك وضع قانون أنت أول من يلتزم به ، وتغلقين عليك باب غرفتك وتقرأين الكتب الموجودة لديك وتكتبين كل ما هو مختزن في ذاكرتك . سيكون عليك أن تحلمين باستمرار ، أن ترسمين دائماً ، أن تمزق ما كتبت وتعاودين صياغته من جديد ، كي تصلين في النهاية إلى ما تصبين لتحقيقه ، حرة التفكير ، تتجاوزين قدرة الحواس الخمسة على إدراك العالم . ستقولين : لقد اعتاد الناس الخطر لدرجة أصبح معها عدم التعرض إليه أمرأ عابراً ومؤقتاً ! . ستضحكين بأعلى صوتك وأنت ترددين من بين خلايا الهستيريا : هذا ليس الوطن الذي اشترك الجميع في بنائه . هذا الهواء ليس ذات الهواء الذي اتفق الجميع على استنشاقه ، وهذا الضيق ، لا قبل لي على وصفه ، ضيق ، من ذلك التكرار الممل ، المكون من طلوع الشمس يومياً من نفس الزاوية التي تطلع منها تقريباً ، بنفس الرتابة القدرية القاسية التي تعودت عليها كل صباح .
وسيدوي في عقلك ذلك العواء لرياح الزمن العاتية ، عواء الجفاف والحصار وعدم هطول الأمطار في موسمها ، عواء صمت أجيال لم يتوقع أحد صمتها كي تنطق كفراً ، عواء رحيل البدايات نحو الصحراء وينابيع المياه . وستكتشفين أنك بحاجة ماسة إلى مقياس احتياطي تتمكنين من خلاله قياس قدرتك العقلية عندما تتعطل المقاييس الأخرى المتعارف عليها . وستقولين : هأنذا ما زلت حية كلما علا صدرك وانخفض تبعاً لحالات الشهيق والزفير !
عاد إبراهيم للبيت باكراً على غير عادته ، وجدها جالسة في الشرفة، وقف قبالتها ينظر إليها ، وقفت قبالته ، تنظر إليه بتمعن واكتشفت فجأة أنه ينظر إليها بذات المعني . تبادلا النظر في عيون بعضهما ، عيناه سوداوان ، وعيناها رماديتان . أخذهما النظر إلى بعضهما ، وحيدين على الشرفة تتعانق الأصابع والسيقان والقامة في حفل طقوسي يكاد يكون استعادة موفقة تماماً للماضي بكل تفاصيله .
شعرت بإرهاق فجائي ، جلست مجدداً ، بعد برهة تناولت كتابا ًكان موضوعاً إلى جوارها ، أخذت تحرك شفتيها حركة خفيفة لا يمكن تمييزها عن بعد ، وكان إبراهيم ينظر إليها متابعاُ كل تفصيل، الشعر الأشقر المنسوج من خيوط الشمس عند الأصيل ، الوجه المنحوت بتفنن من بقايا مدينة مدمرة ، انف صنع خصيصاً للمحافظة على رائحة الماضي ، شفتان ناعمتان حزينتان تبكيان وتضحكان في آن واحد، تعبيراً عن الحضور والغياب ، عن التقدم والتراجع ، عن ذكريات كانت وما تزال تنزف في الرأس فتحدث ثقوباً صعب الشفاء منها ، ثم نهضت واقفة ، وقالت فجأة :
- لماذا تخوض المجتمعات الحروب إذا كان لا بد من المصالحة في نهاية الأمر ؟
ومثل فنان يحاول دائماً أن يبقي شيئاً خاصاً خارج لوحته من أجل أن يتمكن من وضعه داخل اللوحة المقبلة ، حاول إبراهيم الذي يسمع ويرقب ، أن يبقي شيئاً من الحديث خارج موضوع التناول حتى يزجه في الحديث اللاحق ، ثم قال على غير توقع :
- من أجل تحقيق بعض المكاسب .
- وهل المكاسب تساوي حجم الدم المهدور، والدمار الموجع، وانين الأطفال، وبكاء الثكالى، وعذاب المعاناة التي لا تتوقف ؟
- أحياناً نعم ، وأحياناً لا :
- كيف ؟
- عندما يكون المجتمع لا يملك شيئاً يخاف على فقدانه ..
- وإذا كان يملك ؟.
- حساباته تختلف . لا يذهب بعيداً في المجازفة ..
- وضح أكثر .
- الدولة مثلاً ، تختلق الفوضى أحياناً لأنها تخدمها ..
- كيف، ولماذا ؟
- تفتعل الأحداث وتطورها، فيسقط الضحايا ويتفاقم الانفلات، وتتكون الجماعات المنسجمة من أجل الدفاع عن نفسها أما م هذا الوضع .
- وبعد ..
- تضع القوانين التي تحد من تعاظمها وتسعى إلى تطبيقها مهما كلف الأمر ، وبهذا تكون أصابت عصفورين بحجر .
- معك حق ، ولكن هذا الأمر مختلف عن صراع المجتمعات .
- بالتأكيد ، غير أن القياس واحد ، الذي لا يملك لا يخسر شيئاً ، والذي يملك يتردد ولا يذهب بعيداً في المجازفة .
- معك حق ..
قيل قديماً ، في زمن الحرب البقاء في الملاجئ أخطر من التواجد في الشوارع ، وفي الشوارع، الحياة تنبض . الرياح تحرك أوراق الأشجار المتساقطة على الأرض في حركة دائمة لا تعرف تفاصيلها سوى عين الكاميرا التي ترصد التفاعلات دون كذب أو تزوير . الأوراق تتحرك شمالاً ويميناً ، شرقاً وغرباً ، تدور دوراناً جنونياً ، تعلو وتهبط ، تجعلك في حالة ارتباك دائم أمام توقعات عديدة على رأسها : زوبعة قوية ستأتي بعد لحظات تكنس كل الأوراق الساقطة وتقذفها حيث يجب أن تكون، بل ربما تأتي الزوبعة فتسقط ما تبقى من أوراق الشجر رغم أن الموسم ليس خريفاً ، وربما تبقي إيقاع الحركة على تماوجها حتى تستمر في سيطرتها على انتباهك وتحفزك، وشحنك بمزيد من التوقعات ، باستثناء واحد منها ، بقائك خارج دائرة القبض على الأحداث والتصرف بها ، كما لو أنها تخشاك ، تخشى قدراتك التي لا تعرف عنها الكثير ، لا تعرف متى، وأين، وكيف، تستخدمها بأقصى طاقاتها كي تنتج حالة جديدة غير متوقعة ، فتستقطب كل الأنظار إليك وحدك ، فتكون كما ينبغي لإنسان غريب ، مغترب أن يكون حتى يضع حداً لحالة الاغتراب. كمن يستيقظ فجأة ويوقظ حواسه خوفاً من أن يغرس شخص آخر نصلاً في خاصرته ، يطعنه في ظهره ثم يطالبه بالهدوء حتى لا يلفت انتباه الآخرين .
لنعبر التاريخ من قلب النفق المظلم .
لقد طالت الغربة حتى تعودنا عليها ، لا ، بل تحولت إلى حالة اعتيادية والتخلص منها بات بحاجة إلى مقاومة شرسة ، وربما يصعب التسليم بأننا جادون بالتخلص منها ، أصبحت جزء منا بقدر ما نحن جزء منها . نحن الاثنان جزء لواحد ، مكمل لبعضه ، تافه ومريض ويستحق الشفقة ، شفقة القادر على الضعيف ، المهمش ، الجالس على رصيف المعاناة والذكريات واجترار الماضي والتغني به ..
دائماً علينا أن نفكر بالضرورات المزعجة للاختيار . نعم ، ولكن لماذا لا نفعل مرة واحدة على الأقل ، عكس ذلك ؟ هل لأننا نخاف على ما نملك ونحن لا نملك شيئاً نخاف عليه ؟
إذن ، دعونا نبحث عن مخرج آخر ، ليس توافقياً ، يبيح المحظور ويؤسس للمستقبل . الخوف من الفشل ليس ذريعة ، وليس المرة الأولى التي نفشل فيها . ولماذا دائماً يتعين علينا أن نفشل ؟ هل من أجل أن نفشل مجدداً ما دمنا لا نتوقع النجاح ؟ . ربما الإدمان على المرض عامل مهم من أجل تعافي الجسم ، فعدم الشعور بالألم يفسح المجال أمام الأطباء حتى يثبتوا جدارتهم على جدران الجسم المنهك ، الممزق النسيج جراء ثقوب الإبر المتواصل في محاولة تأكيد أن المعجزة تبدأ من الثقب وتنتهي عند التئامه .
أليس هذا مضحكاً بقدر التباكي عليه ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القومى للمرأة يطالب شركات خدمات النقل بالتطبيقات بوضع معايير


.. العربية ويكند | استطلاع أميركي: الرجال أكثر سعادة بوظائفهم م




.. عضو نقابة الصحفيين أميرة محمد


.. توقيف سنية الدهماني يوحد صوت المحامينات في البلاد




.. فتحية السعيدي ناشطة نسوية وأخصائية في علم الاجتماع