الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
قناديل خان استانبول
بدر الدين شنن
2010 / 4 / 9الادب والفن
ما كا خان ا ستانبول يوماً ، عند يوسف ، مجرد مكان مر به عابراً ، مثل أي مكان ، ولم يكن مجرد أ سطورة وحسب ، كما عند الآخرين ، أ سطورة تمثل فيها الجمال والحضارة زمناً ، وتمثل فيها الخوف والمأساة في زمن آخر ، بل كان أيضاً الوعاء الذي احتضنه وعاش فيه سنوات عزيزة من عمره ، وكان المدرسة التي تعلم فيها بدايات الوعي النقي والمشاعر النبيلة . وهذا ماجعل لخان ا ستانبول عنده قيمة كبيرة ، قيمة تحتوي على تفاصيل وعناوين ثمينة لاحصر لها ، مشكلة كلاً لايتجزأ .. لكنه لم يعرف قيمته كاملة ، وبدأ يحن إلى زمانه ، ويستحضر صوره وناسه ومحيطه ، إلاّ بعد أن أبعدته الظروف عنه ، وا ستحالت عودته إليه ، وراحت قطرات العمر في منفاه المديد تشح ، والصداقات من حوله تفككها مصالح وهموم وطموحات .
يقع خان ا ستانبول على الجهة الشمالية من أ سواق حلب القديمة ، ويمكن الوصول إليه عن طريق قسطل الحجارين مروراً بحي العدسات الصغير ، أو عن طريق باب النصر عبر سويقة علي . ورغم أن الشارع الجديد الذي يمتد من القلعة الى الجامع الأموي الكبير ، قد فصله عن جسد سوق المدينة التاريخي العريق ، إلاّ أنه ظل يعتبر جزءأً منه . ويبدو أن من اختار بناءه قبل قرنين أو أكثر ، كان يهمه أن يكون التجار الذين ينزلون فيه على مسافة قريبة من خانات تجارية هامة ، مثل خان قرطبة ، وخان التتن ، وخان حاج موسى ، وخان حاج موسى الأعوج ، والخان الأكبر خان الوزير .
وقد كان خان ا ستانوبل المسمى على ا سم أهم مدينة في الشرق في ذاك الزمن ، كان له صدى تجارياً لائقاً ، وكان مشهوراً بالبضائع الاستانبولية الراقية ، وكان النزول فيه ، والتردد إليه للتبضع ، كما كان يقال ، مثار إعجاب وأبهة . إلى أن سيطر المستعمر الفرنسي على حلب في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين ، وحوله إلى سجن عسكري ، وجعل منه رمزاً للخوف والرعب . وذلك لما كان يمارسه فيه من تعذيب وتصفيات جسدية للسجناء ، وخاصة السجناء السياسيين والثوار المتمردين على الاحتلال .
بعد رحيل الفرنسيين عن سوريا في أواسط الأربعينات من القرن الماضي ، وعاد خان ا ستانبول مركزاً للأنشطة المدنية ، بعد أن خسرت حلب ميناء ولواء ا سكندرون كله ، ووضعت الحدود والألغام بينها وبين ا ستانبول ، صار الخان مركزاً لتجارة وحرف فقيرة ..
الرواق القبلي في الطابق العلوي ، الذي كان سكناً للحراس الفرنسيين وعائلاتهم ، شغله تجار مهاجرون فقراء من أصل أرمني ، يعملون بتجارة الألبسة المستعملة . وكل غرفة فيه تحولت إلى معرض كئيب تفوح منه روائح المواد المضادة للعثة . وفي ممر الرواق الطويل تنتشر مجموعات من عجائز وأنصاف عجائز أرمنيات فقيرات ، يعملن في تنظيف ورتق تلك الملابس ..
ومن الجهة المقابلة .. الرواق الشمالي .. الذي كان سكناً للضباط وعائلاتهم ، صار فندقاً ، و’أغلق الجسر الصغير الذي كان يربطه بإدارة السجن ..
وفي القسم العلوي من الجهة الشرقية ، الذي كان مقراً لإدراة السجن ويشرف على السجن كله ، تحول إلى مطبعة لجريدة محلية يسارية ..
وفي الطابق الأرضي ، حيث كانت المهاجع والزنازين في الجهات المختلفة ، انتشرت ورشات ومعمل مهن حرفية متعددة .. معامل صغيرة لصناعة حقائب سفر من التنك ، التي يشتريها عادة الفلاحون والجنود الفقراء ، تموضعت إلى جانبها أكثر من ورشة لتجديد قطع موبيليا قديمة ، وأكثر من معمل لصناعة الدفاتر المدرسية ..
أما ما تبقى من غرف الخان ، فقد شغلها صاحب الخان الجديد ، الذي حولها إلى مكتب لإدارة أعماله ، وإلى مستودعات لتجارة جلود ومستلزمات الأحذية ..
بعد سنوات على عودة الخان إلى الأنشطة المدنية صار عالماً آخر .. صار له سمات جديدة .. والناس الجدد الذين يتحركون بين جدرانه ، لهم مع بعضهم البعض علاقات تحمل معان وغايات مختلفة عن علاقات الجلاد والضحية أيام كان الخان سجناً .. معان وغايات تتوسل الحياة بحثاُ عن اللقمة البسيطة .. وعن الطمأنينة .. عن تواصل مع الغد .. مع أيام أخر ، يعرفون مسبقاً أنها لن تكون إلاً فقيرة . وكانوا يقاومون الذكرى الكئيبة للخان ، والهالة الظلامية للمكان ، بقناديل الحلم ، الذي ينسجونه بعرقهم ودأبهم على مدار اللحظة .
كانت أغلبية الذين يتحركون في غرف الخان وساحته من العمال .. وأكثرهم التفاتاً كان حارس الخان " أبو أحمد " الذي يجلس معظم النهار في كوخه الخشبي ، الواقع في نهاية مدخل الخان ، يراقب من نافذته الصغيرة الداخل والخارج ، ويمارس هوايته في طبخ القهوة العربية المرة ، وإعدادها لضيوفه مساء ، وعندما يغادره الضيوف بانتهاء حوارات السمر والذكريات ، يتكوم على أريكة قديمة خلف باب الخان الصغير ، ليؤمن خدمة اتصال إدارة الجريدة بالمطبعة ، حتى إصدار العدد الجديد مع الفجر ..
وكان " سعيد البغدادي : المقطوع من شجرة ، الذي يعمل وينام في معمل صغير لصناعة الدفاتر المدرسية ، في غرفة كبيرة تقع فوق مغارة كانت تستخدم للتحقيق والتعذيب سابقاً ..
وكان " حكمت " الهارب من الشرطة في مدينته اللاذقية ، الذي يعمل وينام أيضاً في ورشة لتجديد الموبيليا القديمة ، بين الخزائن والأرائك ، في غرفة لانوافذ لها كانت تستخدم للعزل والتأديب ..
وكان " يوسف " الفتى اليتيم ، الذي يعمل لدى أبو صالح في معمل آخر لصناعة الدفاتر ..
ماعدا صاحب الخان الذي ما كان يخرج من مكتبه إلاّ نادراً ، كانت العلاقة بين الحارس وولديه وسعيد ويوسف وحكمت بشكل خاص ، وبينهم وبين الأرمن في الطابق العلوي وخاصة نيشان وبقية العاملين في الورش المختلفة ، كانت تمتاز بالود والحميمية . لم يكن أحد يأكل صحن الفول صباحاً لوحده .. حتى حبة البطاطا المسلوقة وحبة البندورة كانت خاضعة للقسمة على اثنين أو أكثر ..
في الرواق القبلي العلوي كانت اللغة الأرمنية هي لغة الجميع ، وأحياناً كانت تسمع اللغة التركية مع بعض الزبائن . أما اللغة العربية فكانت تستخدم نادراً بحدود بضع كلمات أوجمل صغيرة ، عندما يكون الحوار او التعامل مع جار في الخان ، أو زبون عربي . وكانت دندنات العجائز الأرمنيات بأغان أرمنية أثناء العمل ، مثيرة للشجن والحنين إلى الديار المسلوبة .. إلى الأهل المقتولين ، أو المشتتين ، ومثيرة للحزن الدامع في غربة المهجر ..
ولعزلة هذا الرواق عن بقية الخان ، ونوعية المهنة ، ونوعية اللغة ، لم تكن هناك أحاديث مشتركة بين شاغلي الرواق وبين الآخرين في الخان . فقط عبارات التحية هي المتداولة عند التلاقي مصادفة صباح مساء . لكن العلاقة بين الجميع كانت تفصح عن إلفة متبادلة ، وحرص على ديمومة هذه الإلفة ، وخاصة من قبل كبار السن ، الذين يعرفون تلك الأيام السوداء في حياة الإنسان الأرمني . لكن ما يجذب الكل تقريباً للاحتكاك أحياناً ، هو جدي أحمد ابن حارس الخان ، عندما يغافل بعض العجائز ، ويقوم بسرقة صرة طعام إحداهن ، ويهرب بها بعيداً عن متناول اليد إلى آخر رفراف التنك الواهن ، حيث يعلو الصراخ بالجدي وبصاحبه أحمد لإعادة الصرة ، وكذلك عندما تقوم إحدى قطط الجيران بمثل هذه المغافلة . وهنا يثير ا ستخدام اللغة العربية المكسرة موجة من الأجواء الطريفة ، وخاصة تلك التي يتحدث بها نيشان بالعربية .
وفي غرف الطابق الأرضي ، كانت عوالم تتجاور وتتفاعل . كان عالم أبو صالح وأولاده الخمسة ، الذين يقومون بصناعة الدفاتر المدرسية . كان أبو صالح مريداً لأحد كبار المشايخ في المدينة . وكان مبهوراً بغزارة علم الشيخ وسحر بيانه ، وتأثيره في المدينة ، حتى بلغ افتتانه به حداً دفعه إلى تسليم أكبر أبنائه صالح مسؤولية إدارة المعمل ، ليتفرغ هو إلى التأمل والتمعن بالعلم المتدفق من فم الشيخ الأستاذ . ولم يكن يأتي إلى المعمل إلاّ قليلاً برفقة بعض زملائه الملتحين ، ليسأل بطرف اللسان عن سير العمل ، ثم يذهب متأبطاً كتبه إلى عالمه الجديد . ولم يمض وقت كبير ، حتى صار صالح مولعاً بإحداهن في بيت الدعارة في الحي القريب من الخان ، وأخذ يصرف عليها بسخاء من أرباح وأثمان ما ينتجه المعمل .
وكان عالم ثان في معمل آخر للدفاتر المدرسية ، هو عالم " سعيد البغدادي " .. حسب علم الجميع من حوله ، ليس له أحد يسأل عنه . توفي والده قبل أن يولد ، وتوفيت والدته قبل أن يشتد عده . ووجد نفسه مصادفة بين أيدي الحاج عبد الرحمن ، الذي أواه وعلمه المهنة . لم يرو سعيد يوماً كيف وجد نفسه مقطوعاً من الأهل من طرفي الأب والأم ، ولم يتحدث كيف صار شيوعياً ، أو تحدث عن اعتقاله في سجن المزة أيام حكم " الزعيم " . كان حريصاً على العيش دون ماض يثير السؤال ..
وفي المساء يسود الظلام ، الذي تتخلله مصابيح صغيرة تنير دوائر محدودة جداً حولها ، تتوقف الحركة ، عدا مكانين ، هما مطبعة الجريدة التي تعربد فيها آلة طابعة كبيرة قديمة ، وكوخ أبو أحمد الصغير ، الذي يعج كل ليلة بأصدقاء وأقرباء أبي أحمد ، إضافة لسعيد ويوسف ، وذاك الشاب عطا الساكن في جوار الخان ، وأحياناً حكمت . وذلك ، ظاهراً ، حباً بقهوة أبي أحمد ، وحقاً ، حباً بالأحاديث التي كانت تدور مفتوحة على وقائع النهار اللا فتة ، وعلى ذكريات عزيزة في العمل وفي خدمة العلم ، وعلى روايات العذابات والقتل ، التي كانت تجري في الخان أيام الاحتلال قبل سنوات ، وخاصة تلك التي لايمل أبو أحمد من تكرارها المتعلقة بذلك الشاب الكردي من ثوار هنانو ، الذي مزق فم الكلب ، الذي أطلقوه عليه ، لينهش لحمه كنوع متوحش من التعذيب ، فقتله الجنود الفنسيين فور قتله للكلب الشرس . وأكثر تلك الأحاديث كان موضوعها السياسة . وفي أحاديث السياسة كانت المسائل المتعلقة بالاستقلال والحرية والحياة المعيشية هي الغالبة . وأحياناً يسيطر حدث يومي على الحوارات بين الساهرين ، مثل مظاهرة ضد " الشيشكلي " قام بها طلاب المدارس ، أو قام بها مصلون بعد صلاة الجمعة . وأحياناً يطغي على الحديث عفوياً شيء من حراك الفكر ، مثل تساؤلات .. لماذا نحن فقراء ..؟ ولماذا هناك فقراء وأغنياء ..؟ من جعلنا فقراء وجعل غيرنا أغنياء .. ؟ هل هو القدر الذي يقسم الناس هكذا .. ؟ أم أن لا شأن لما يسمى بالأقدار بأحوالنا .. ؟ ومرة ا ستمر النقاش حول هل نحن مسيرون أم مخيرون في حياتنا ليال عدة . و’حسم النقاش بأننا ، إذا كنا مسيرين فلم الحساب يوم القيامة ..؟ وإذا كانت الأقدار تنفي الحساب فنحن مخيرون .. وعلينا أن نتدبر أمورنا بأنفسنا .. أي أن نتمرد على الظلم والفقر ..
وعلى الرغم أن أبا أحمد كان أمياً ، ولاقدرة ولاوقت لديه للاطلاع والمعرفة ليسهم في ترجيح هذا الرأي أو ذاك ، إلاً أنه كان بمثابة الحكم عندما يحتدم النقاش بين ضيوفه . وكان مستمعاً جيداً عندما كان يوسف يقرأ في بعض الليالي ، في كتب خالد محمد خالد ، وعبد الرحمن الكواكبي ، وجورج حنا ، ومكسيم غوركي ، ، التي كان يشتريها سعيد بين وقت وآخر . والطريف أن أبا أحمد لدى ا ستماعه لقراءات الكتب ، أنه لم يعترض سوى مرة واحدة ، وذلك على ترجمة ا سم بيت الدعارة في رواية غوركي " الساقطون " بالجنة . وقام وطرد يوسف من الخان وهويستغيث بالله ويستغفره ، لأنه سمع وصف بيت الدعارة بالجنة . لكنه تغاضى في الأيام اللاحقة عن وجود يوسف خلسة في الخان . ثم تصالحا بعد أن تم التوضيح له بعدم مسؤولية يوسف عن أ سلوب الكاتب أو المترجم . وذات يوم خرج عن طوره في جو نقاش حاد بين يوسف وعطا ، فصرخ مهدداً عطا بالقتل إذا نقل مايدور في الكوخ إلى قيادته في فرع الأمن الذي يؤدي لديه خدمة العلم ، وخاصة ما قاله يوسف عن المظاهرة التي ا شترك فيها مع الطلاب ضد " الشيشكلي " . فنهض عطا خجولاً مرتجفاً وقال لأبي أحمد .. أنت بمثابة أبي .. وهؤلاء .. مشيراً إلى الحاضرين .. مثل أخوتي .. وأنا لست عديم الشرف حتى أخونكم وأخون لقمة العيش بيننا ..
اليوم الأعظم في حياة يوسف في عالم خان ا ستانبول ، كان يوم عودته من محاولة الهجرة العشوائية الفاشلة ، مع أحد أصدقائه إلى الكويت عبر العراق ، دون جواز سفر . عندما عاد كان ذليلاً بثياب بائسة ، بعد أن باع ساعة يده وثيابه التي حملها معه في السفر ليؤمن تذكرة العودة . أول المستقبلين له كان سعيد ، الذي احتضنه وقبله . ثم جاء حكمت وعطا وأبو أحمد ونيشان وصالح ، وراح كل منهم يقدم له شيئاً يشعره بالأخوة والمحبة . قدم له سعيد البدلة الوحيدة التي لايلبسها إلاّ في الأعياد ، وخلع حكمت ساعته ووضعها في يده ، وتهامس نيشان وعطا وصالح ، وبحركة خفية أدخل نيشان يده في جيب يوسف ووضع فيه شيئاً وسحبها سريعاً قائلاً " نحنا .. إنت كتير منحبك " . وقال أبو أحمد .. أنت لست يتيماً .. أنت ابني الرابع مثل أحمد ومحمد وفوزي ..
آه يايوسف .. أين تلك القناديل .. أين أولئك البسطاء العظماء .. من مات منهم ومن بقي حياً .. وكيف أثرت مفاعيل الزمن على بناء خان ا ستانبول وعلى قيمه .. وعلى علاقات العاملين فيه .. ؟ ..
هكذا تساءل يوسف مع نفسه .. وطوى صفحة الذكريات .. ونام ليله الكابوسي المعتاد .. لعله يحلم ، ا ستثناء ، بقناديل جديدة .. يكمل معها ما تبقى من مشوار الحلم .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن
.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •
.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر
.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا
.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى