الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسار ونضال وغيفارا وزياد.. وربما يكون تروتسكي على حق

فيديل سبيتي

2002 / 7 / 13
الادب والفن




المكان: صور.. الخيمة: 59.. الهوية: فودكا

 
من كتاب صُور الماضي والحاضر>> لسامي كركبي
في الشتاء كانوا يزورون بيروت كأنها المكان الوحيد لقضاء الوقت والسهر والنقاش، كنا نستقبلهم كأننا نملك مفاتيح المدينة وكانوا يتقبلون استقبالنا كأنهم غرباء يمرون لليلة او ليلتين ثم يرحلون، هكذا نؤمن لهم في الشتاء مأوى ومكانا للهروب من الملل الكثيف الذي يكتنف صور مع فصل الرياح والامواج العاتية.
في الصيف، لا نرى وجوههم. نتراسل عبر الهواتف النقالة ويدعوننا الى مدينتهم القريبة من البحر كسفينة متحجرة منذ الابد، هؤلاء <<الرفاق>> من صور ينسون شوارعنا في الصيف، يجافونها كأنها حبيبة قديمة، ويركنون الى شاطئهم الرملي وبالتحديد الى الخيمة الرقم (59)، خيمة أبو أدهم.
تقدع خيمة أبو أدهم في وسط الشاطئ الرملي الواقع جنوبي صور والمؤلف من (100) خيمة، كل واحدة منها هي على ابعد تقدير مطعم صغير او استراحة سياحية تتسع لخمسين شخصا. خيمة أبو أدهم، كغيرها، مبنية من الخشب، تحتوي مرحاضا ومكانا للاستحمام ومطبخا وبرادات لتبريد الكحول والمرطبات وكراسي وطاولات تمتد الى ما قبل الرمال المبتلة بقليل. سعر زجاجة البيرة هو ألف وخمسمائة ليرة اي السعر المتداول على الشاطئ وهو يقدم النرجيلة والسندويشات على انواعها كسائر اقرانه اصحاب الخيم الاخرى. ولكن ما يميز الخيمة الرقم (59) عن غيرها هو ان روادها لا يتغيرون إن قصدوها من صور يوميا او من بيروت اسبوعيا، وان ابو ادهم يعرف زبائنه كلهم معرفة حقيقية، معرفة تداخلها المودة، وان تلك الخيمة تشبه <<الكومونة>>. فخيمة ابو ادهم، المناضل الماركسي وعضو المنطقية في الحزب الماركسي، لا تخلو من الرفاق، فهم يعرفونه من العمل السياسي الذي لا ينتهي في قرى صور ويعرفون بعضهم البعض من العمل نفسه. زائر تلك الخيمة لا يتوقف عن اداء التحية او المعانقة منذ دخوله حتى وصوله الى الطاولة الاخيرة فيها، كأن المدة التي لم يروا بعضهم البعض فيها طويلة جدا. زوار الخيمة (59) يشكلون عائلة واحدة: الاولاد الصغار ينادون الكبار يا <<عمو>> او يا <<خالتو>> والكبار ينادون الصغار بأسمائهم كأنهم شهدوا ولادتهم على مر السنوات الماضية، في كل الاحوال فإن الاسماء المعطاة للصغار ليست صعبة طالما انها تستعمل يوميا في نقاشات الكبار كيسار وسهى ونداء وفداء للبنات وغيفارا وزياد ونضال للصبيان. يتنقلون في المكان ليتبادلوا الاحاديث واللوز والبيرة، لا يثبتون على طاولة واحدة. ينتقلون بين الطاولات من دون دعوة او بدعوة ضمنية، يتناقشون في كل شيء: سقوط الاتحاد السوفياتي وصحة النظرية والحرب الاهلية والانتخابات، وما زالوا حتى الآن يقيمون تجربة اليسار في انتخابات العام 2000 في الجنوب.
ويتناقشون ايضا حول المجموعات اليسارية ودورها واهميتها.
تضحي تلك الاحاديث اكثر حدة وانفعالا نهارات الاحد حيث تتحول الخيمة فجأة الى ما يشبه مقهى من مقاهي شارع الحمراء، بعدما ينتقل شباب تلك المقاهي الى شاطئ صور لقضاء النهار مع اقرانهم هناك، يجتمعون حول عدد كبير من الطاولات ثم يبدأون بطلباتهم دفعة واحدة وهي على الارجح من البيرة، يضاف اليها الفودكا التي يحضرونها معهم من بيروت، والتي باتت جزء من العرف اليساري، والتي جاءت مع النظرية ولم ترحل معها.
لم تعد مشروبا مسكرا بقدر ما هي مكملة لهوية شاربيها، يشربون الفودكا وكأنها مشروبهم الوطني. هذا التقديس لذلك المشروب هو امتداد للانتماء لكل المنظومة الشيوعية التي تبدو في الكثير من الاحيان وكأنها وطنهم الاصلي.
يقولون في معرض كلامهم عن تلك المنظومة <<عندما أقمنا الثورة في كوبا>> وعندما <<أنهينا العصيان في البحرية الروسية على يد الرفيق تروتسكي>> وعندما <<أرفقنا الثورة المسلحة بالثورة الثقافية مع الرفيق ماو...>>. هكذا يتناولون الحوادث وكأنهم كانوا حاضرين عندما حدثت وكأن كل الفراغ العملي السياسي يمكن تعبئته بالقليل من الامتدادات الى اماكن يبدو العمل السياسي فيها اكثر فاعلية.
بعدما يحضر <<الشغيل>> البيرة يبدأ ذلك النقاش على حين غرة وكأن اجتماعهم لا يكتمل بلا نقاش، يطرح واحدهم سؤالا او فكرة فيحاول الجميع اجابته او الرد عليه.
ولا ينتهي الحديث.. اما جلسات القادمين من بيروت فتنتهي عند منتصف الليل بإحصاء عبوات البيرة الفارغة تمهيدا للدفع وغالبا ما يكون الحساب اقل من المتوقع لأن ابو ادهم <<يراعي>> الشباب في الاسعار.
الخيمة الرقم (59) مجال عائلي يساري، الصغار الذين يلعبون تحت الطاولات يحفظون على الاقل خمس اغان لمارسيل خليفة ويعرفون غيفارا ولينين ويكرهون الاحزاب الاخرى كلها. واذا ما علموا ان مجالسهم من حزب آخر ينبذونه ولا يقتربون منه، لا يعرفون معاني اسمائهم ولكن ما يعرفونه اكبر من اعمارهم. يروحون ويجيئون بين الكراسي بلا الخوف المعتاد الذي يصاحب الاطفال في مثل تلك الرحلات، لا يخافون وكأنهم يسيرون في ممر بين غرف منازلهم.
يجالس ابو ادهم <<مدعويه>> اذا لم يكن شاطئه مزدحم، يتناقش مع الآخرين فيتحول الى مدعو بعدما يزيل عن نفسه صفة مالك المكان. واذا ما احتاج احد الزوار <<لتوصيلة>> الى البص (ساحة صور)، يقدم سيارته لأي شخص مستعد لقيادتها. بهذه الطريقة يشدد اواصر العلاقة <<الكومونية>> التي يباشرها في خيمته، يضاف اليها ضحكته وعائلته الصغيرة التي تساعده في المطبخ، العلاقة <<الكومونية>> التي يؤلفها تبدو مقصودة في الكثير من الاحيان، يقترب من اصدقائه وكأنه والدهم، يسألهم عن احوالهم، فيحزن اذا اجابوه بالحزن، ويقهقه اذا اجابه بالفرح.
يستنكرون الاغاني الجديدة بشكل جماعي، كأنهم يتواصلون بعيدا عن رقابة ابو ادهم. ينشدون الاغاني نفسها زوار الاستراحة هؤلاء، يصرخون كأن اغانيهم رسائل الى إله يعرف ماذا يقصدون. إله آخر لا طائفة له ولا دين.
الصغار يتأرجحون بين الاصدقاء، يدورون حولهم ثم يتساءلون، لما كل هذا الحب المنثور في المكان. لم يتيقنوا الا من اسمائهم، هم لا يعرفون ان <<كومونة>> أبي أدهم تشملهم ايضا.
عندما اجتمع <<البيارتة>> في المرة الاخيرة ازدحمت الخيمة وضاع أبو أدهم بين البيرة والسندويشات والافكار الكثيرة المرمية على الشاطئ. ضاع بين كونه رفيقهم وكونه مالك المكان، اراد ان يشاركهم جلستهم، وان يقدم لهم ما يحتاجونه. في تلك الخيمة تختلط النماذج والفرديات، الجو الجماعي يبقى طاغيا، يتحول الجميع الى فرد واحد، يراقبه ابو ادهم ويرعاه ويؤمن له مكانا شبيها بالمكان المتخيل لدى كل من الزائرين.
جريدة السفير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي




.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو