الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحزب الأسود

هشام آدم

2010 / 4 / 10
الادب والفن


[مقاطع من رواية جديدة]

لا يهم؛ فقد أكمل للتو عدّ تجاربه العاطفية الفاشلة التي تجاوزت سبع عشرة تجربة أنفق عليها زهاء الثلاثين عاماً من عمره. خمّن أنه قد يكون نوعاً من الأميبا المتطوّرة، وقرر أن يعيش ما تبقى من حياته حصوراً دون أنثى تحفزهُ على التحليل والمراوغة. لسببٍ ما ربط ضجره الكوني بالنساء، وبدأ الإيمان بعدم جدواهن في حياته يتسلل إلى قلبه شيئاً فشيئاً كتسلل المختلس، وبطريقة نرجسية قرر أن يُكافأ نفسه وأن يُعوضها عمّا لقيته بسبب بحثه الدءوب عن أنثى يُفرغ فيها حاجاته العتيقة. لم يفكر كثيراً في صياغة مناسبة لمبررات قراره ذلك، كل ما توصل إليه في النهاية أنه ليس بحاجة إلى أنثى، وأنه على الأرجح سوف يكمل حياته منفرداً مستمتعاً بكل لحظاتها. وكوميض النبوة تكشفت له أفكار نيرة حول حياته الخاصة، واقتنع بأنه ليس في حاجة إلى آخر يشاركه! "هل نحن بحاجة إلى مشاركة فعلاً؟" كانت تلك خلاصة التجارب وخاتمتها القيّمة والحكمة التي امتثل لها أخيراً

منذ اليوم سوف يُنفق راتبه الشهري في ترفه الخاص، وسيُغدق على نفسه النُعماء كما لم يسبق له من قبل. ورغم إحساسه المتعاظم بالأسى والأسف على اللحظات الجميلة التي أضاعها من حياته دون أن يستمتع بها كما يجب؛ إلا أنه قرر أن يعوّض ما فاته، وألا يدخر جهداً في سبيل ذلك. دوّن بحماس مُتقد قائمة من الكماليات التي توحي بالبذخ، وتمنح النفس ذلك الشعور العزيز بالرفاهية والدلال:
 نافضة غبار يدوية من ريش الطاووس
 فانوس إضاءة ليلي ملوّن
 ممسحة أقدام من القش المضغوط
 نافورة مياه جبسية مُصغرة
 مجسم بلاستيكي عملاق للكرة الأرضية
 شموع مُعطرة للجو
 لوحات تشكيلية للحائط
 جوارب منزلية من فراء الأرانب
 عين سحرية لباب الشقة
 طقم من تماثيل الفيلة الأفريقية
 خزانة للكتب

كتب هذه الأخيرة وهو ينظر إلى تلال الكتب الناهضة في زاويةٍ ما من غرفته، وشعر برضاً شديد لهذا الاختيار الموفق. اضطرمت داخله حماسة مُحببة إلى نفسه، فوضع القائمة جانباً وتمدد على ظهره وهو يتمطى في حبور طفولي غامر. راح يُنقب في زوايا غرفته عن أشياء يُمكن إضافتها، ثم نهض فجأةً بذات الحماس، وأمسك القائمة من جديد، وأضاف إليها بمكر مُصطنع:
 مغطس مياه هوائي!

كانت حياته قد أوصلته أخيراً إلى قناعة كاملة بأن النساء كالأطفال يقضينَ حوائجهن بالبكاء. تلك كانت إحدى مشكلاته الكبرى التي حالت دون توقفه المُبكر عن خوض علاقات عاطفية مُنتهية بالفشل. كان كلّما قرر التوقف؛ تأخذه غريزته إلى أحضان أنثى جديدة تصب الشهوة في أوردته المُتيبّسة والمُتعطشة إلى الجنس دائماً.

واحدة فقط هي التي كانت تتقافز من صندوق ذاكرته كرؤى الأنبياء، يشعر عندها بأنه لم يعش من حياته سوى ما قضاه بين أحضانها الدافئة. كل الأسماء التي عكرت مياه تاريخه لم تستطع أن تشوش صفاء صورتها المنعكسة، وأخفقت كل محاولاته الجادة في نسيانها. وكاللذة التي يسبقها الخوف، كانت ذكراها المُنعشة تكدر عليه صفو مزاجه المخملي، كان ذلك قبل أن يرن جرس الهاتف وينقل إليه قريبٌ مشئوم خبر وفاة والدته إثر نوبة قلبية. أحزنه الخبر لأنه كان يعني أن يؤجل أحلامه المخملية وما يرتبط بها من سعادة، وتذكر وجوه أفراد عائلته الممتدة في بانوراما ذهنية سريعة، وتخيّل عبء تلقيه العزاء من هؤلاء البؤساء. لعن في سرّه كل وجهٍ على حدا، قبل أن يُخرج من ثلاجته الصغيرة قارورة الخمر، ويبدأ رحلته الميتافيزيقية اليومية.

* * *

في منزل العائلة الكبير الذي كمنازل النمل، بغرفه الكثيرة والمتداخلة، وقف أمام جثمان أمّه المسجى على عنقريب الجرتق المصنوع من خشب السروج، وقبل أن يُكشف عن وجهها تأمل منظر جسدها المترهل كشحنة إسفنج وهو يتساءل عن مصيرها، وعمّا إذا كان ذلك المصير يستحق المشقة التي بذلها في طريقه من العاصمة إلى ريف العيكورة أم لا! للموت رائحة مزعجة وغريبة أشبه برائحة القطن المبلول، يعرف تلك الرائحة جيّداً، ولازالت عالقةً بمراكزه الشمّية منذ حادثة غرق قديمة شارك فيها على مضض بغسل الضحايا، وللموت هيبة لم يستشعرها جيّداً، خيّل إليه أن الأمر أشبه بمسألة وقتية عابرة، تنتهي بافتقادنا للموتى، ذلك الافتقاد الذي لا يرتبط بالموت نفسه، وإنما بعجزنا عن التواصل مع الآخرين.

ما إن رُفع الغطاء الدموري عن وجهها حتى اعترته رغبة عارمة في الضحك، كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها أمه ساكنة! لا يتذكر أن رآها صامتة كما هي الآن، وفمها لا يتحرك كما هو عادته منذ أن أدرك حقيقة العلاقة بينه وبين هذه السيّدة النائمة على عنقريب الجرتق. كان يستغرب دائماً قدرتها المُعجزة في الكلام المستمر والنميمة، وفي أحيانٍ كثيرة حين يعجز عن التأمل والقراءة كان يجلس إليها ويأخذ عنها أخبار أهالي العيكورة بالتفصيل: نفوق الأبقار، آفات الزراعة، الزيجات الحديثة، فضائح القرية، أسعار البضائع، أنباء السوق وأهله، قائمة الفتيات المقترحات للزواج، أحاديث النساء المملة التي كان لا يستسيغها إلا من أُمه، لم يكن يفعل ذلك بدافع الفضول أو بدافع الاطلاع على أحوال القرية؛ وإنما فقط لقضاء الوقت، وكان لابد أن ينتهي الحديث بذكر الشريشاب الأجلاف الهاربين من بطش الدفتردار في زمن موغل في القدم، ليطمئن بذلك على استقامة خرفها على عوده.

أطال النظر في وجهها فخيّل إليه أنها تبتسم أو تكاد، وكان كالذي يختبر قدرة الموت على تكميم الأفواه، وفرض قانون الصمت على أمه الثرثارة، وتصور الصراع الذي قد تعانيه الآن مع الموت حول هذه النقطة بالتحديد، وقدّر أنها سوف تنتصر عليه في نهاية المطاف، وأراد أن يشهد لحظة الانتصار قبل دفنها، غير أن الأيادي امتدت لترخي الغطاء الدموري مرة أخرى على وجهها، ورفعوا أيديهم بحركة ميكانيكية موحّدة ونادى أحدهم: "الفاتحة".

حل السكون فجأة على الغرفة التي سكنت رائحة الموت أوردتها الغليظة المعلّقة على السقف مِرقاً من خشب السنط المُعمِّر، ما منحه فرصة جيّدة لتذكر بعض تفاصيل القرية التي سقطت من ذاكرته منذ تسعة أعوام، وهاجمته صورة النسوة القابعات في الغرفة المجاورة تأتيه منهن أصوات غمغمات كحمحمة الخيول. "إنها ورطة حقيقية!" قالها وهو يستثقل ما ينتظره بعد الانتهاء من مراسم الدفن المملة والتي لا يناله منها إلا غبار المقابر التي تحمل تبر الأجساد الهالكة. كان واجبه الأكثر إلزاميةً: تقبّل العزاء من نساء القرية المجاملات، وتعزية أخوته وحملهن على التأسي، وهو ما لا يطيق عليه صبراً، ولا يجيد تقنياته.

ما إن خرج الرجال من الغرفة حاملين النعش متجاوزين بابها الحديدي السميك، حتى انطلق عويل النائحات متزامناً مع صوت العبارة الجنائزية المعهودة: "وحدوه .. لا إله إلا هو"، فتبسم في سرّه وقال: "يالمكر النساء!" بطريقة ما أحيت له إحدى الأصوات النسائية النائحة الحادة ذكرى أكيج دينق بائعة الخمر التقليدية والتي تسكن في مكان ما على شاطئ النيل الأزرق، وتذكر تلك الليالي التي كان يقضيها بصُحبتها مُعاقراً للخمر الجيدة التي تصنعها بإتقان وتشتهر بها في المنطقة "لا يقتل الوهم إلا مزيد من الوهم!" قالها، وهو يعقد العزم على زيارتها في مسائه ذلك.

* * *

في المقبرة؛ كانت الشمس في كبد السماء، ترسل وهجها مباشرة على رؤوس الرجال الذين وضعوا الجنازة أرضاً، وراحوا يجتهدون في حفر القبر بكل همّه، فيما همس إليه أحدهم بأنه لا توجد حاجة إلى أن يرهق نفسه في الحفر؛ لاسيما وأنه في حالة نفسية لا تسمح له بذلك، هذا الكلام أشعره ببعض السعادة والارتياح، ولكنه كذلك ألزمه بأن يُظهر بعض مظاهر الحزن التي اجتهد في اصطناعها. أزعجه كثيراً حماسة الرجال وتناوبهم على الحفر وهم يرددون بين الفينة والأخرى: "صلي على النبي .. صلي على النبي"، وكأن ذلك يعني إلزامية أن يترك أحدهم الرفاش للآخر، وخمّن أن ذلك يعيق انسيابية عملية الحفر وسرعته، ولكنه أضمر ذلك في صدره، ولم يصرح به لأحد.

كان الغبار المتناثر من عملية الحفر تختلط في خبث غير مسبوق مع العرق المتصبب من جبينه، فشعر بأنه عاد كائناً طينياً من جديد. أحس بالانزعاج الشديد لذلك، وأسترق النظر إلى جثمان أمه المسجى على الأرض علّه يشهد لحظة انتصارها على الموت، ولكنها كانت ما تزال راقدة بلا حراك، فشعر بالحزن لهزيمتها، وكان مقتنعاً بأن حزنه ذلك أصدق من حزن الآخرين الذي لم يمنعهم من الجد في حفر القبر، ورأى في ذلك تناقضاً صارخاً زاد من إحساسه بالاستياء.

لاحظ على الفور أنه مركز اهتمام بالغ من الحضور، وأن الجميع يسعون إلى تلبية احتياجاته بالسرعة المطلوبة، وأشعره ذلك بالتميّز. كان يعلم أن أقرب الناس للميّت أكثرهم حظوة عند المُعزين، ولذلك فإنه لم يشاء أن يستغل هذه الحظوة استغلالاً سيئاً، واكتفى ببعض التصرّفات التي توحي بأنه مستغرق في الحزن. في البيت؛ وقبل الجلوس في الصالة المُخصصة لاستقبال التعازي طالب حامد ود الشريف الاختلاء به لبعض الوقت، وبطريقة جادة أخرج بعض الأوراق من جيبه وبدأ يعرضها عليه، كانت الأوراق عبارة عن: تقارير طبية، ونتائج فحوصات معملية، وشهادة وفاة معتمدة من المستشفى. لم يبد أي اهتمام بكل تلك التفاصيل؛ لاسيما وأنه يعلم تماماً أن أمه الآن ترقد في قبرها بارتياح، وأن هذه التقارير والأوراق عديمة القيمة إزاء المُحصلة النهائية، والحقيقة الأكيدة، ولكنه اكتشف في نهاية الأمر أن ذلك كان بدافع إبداء الحرص وإخلاء المسئولية لا أكثر.

حامد ود الشريف زوج شقيقته الكبرى، رجل مشهور عنه الحرص الشديد، ويُذكر أنه الوحيد في العيكورة بين أقرانه من يحتفظ بشهادة ميلاده، إضافة إلى الشهادات المدرسية منذ المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية التي اجتازها بصعوبة بالغة، كما أنه ما زال محتفظاً بتذاكر سفره إلى أديس أبابا لحضور حفل الفنان محمد وردي عام 1989م، إضافة إلى بطاقة صعود الطائرة، بل وتذاكر الحفل نفسه. ورث عشق جمع الأشياء والاحتفاظ بها عن والده الشريف جار الله بَلال، ولا أحد يعلم المعيار الذي يقيّم به الأشياء التي تستحق الاحتفاظ من تلك التي لا تستحق.

يذكر تلك الليلة التي جاء يخطب فيها شقيقته الكبرى، وفيما راح يتحدث عن نفسه وعن عائلته وجذورها العَركية، انشغل هو بتعداد أوجه الشبه بينه وبين شقيقته؛ إذ كان قصيراً مُفرطاً في القِصر، بديناً وبلا رقبة إلى الحد الذي يُشبه معه دمى الماتريوشكا الروسية، له ثآليل بارزة ومتفرقة في وجهه ورقبته، وقواطع أسنانه الأمامية متفرقة عن بعضها وتتطاير شذرات اللعاب من فمه أثناء الكلام، وحاجباه العريضان يكادان يلتقيان لولا عناية الطبيعة، وعيناه ليستا متساويتا الحجم تماماً وعندما انتبه إلى كلامه: "هل تزوّجني أختك؟" أجابه على الفور: "بالتأكيد؛ فأنتما متشابهان تقريباً".

لم يجد مُبرراً لوجوم بعض الوجوه التي لا يعرفها، والتي لم تكن –حتماً- تعرف أمه، واعتبر ذلك نوعاً من الزيف الاجتماعي الذي يطغى على المناسبات من هذا النوع، وفيما كان البعض يتهامسون وبعض الفتيان يوزعون كؤوس الشاي على المعزين، انهمك في متابعة جعران وقح يسير بلا مبالاة بمحاذاة الجدار دافعاً أماماً كرة من الروث دون أن ترهبه هيبة اللحظة الحزائنية المخيمة على المكان، أعجبته استقلالية هذا الجعران وانصرافه إلى أمور أهم بكثير من الحزن على الموتى، وربما شعر بشيء من الحسد تجاهه. كل ما أراده هو أن تنتهي مراسم العزاء ليذهب إلى أكيج دينق ويحتسي خمرها الجيدة، ويُضاجعها إن وجد إلى ذلك سبيلاً ويعود.

أفاق، كما أفاق الجميع، على صوت بوق حافلة تحمل أطناناً من البشر، توقفت في الباحة المقابلة للمنزل، فأشعره ذلك بمزيد من الإرهاق والتعاسة. ترجل الراكبون نساءً ورجالاً، ومضت النساء إلى القسم الآخر من المنزل المخصص للنساء وهن يطلقن عويلهن المزعج، بينما تقدم الرجال وهم يسرعون الخطى، ليتوقفوا أمام الصالة مباشرة، وزعقوا بصوت مُوحد: "الفاتحة".

* * *

نظر إلى من حوله، وتفرس في الوجوه التي كانت بعضها حزينة وبعضها الآخر ذات ملامح حيادية، بينما كان ثمة أشخاص يتبادلون أحاديث ضاحكة، ووجد رجلاً مطأطأ الرأس مخفياً وجهه بطرف عمامته، فاقتبس منه الفكرة؛ حيث وجدها ذكية للغاية. كان بإمكانه أن يغفو قليلاً بينما يعتقد الآخرون أنه يُمارسه حزنه على أمه في خصوصية بعيداً عن أعين المتطفلين الذين يهمهم متابعة حالته النفسية إما ليستلهموا منها ما يُبقيهم حزانى، أو لمجرد الفضول. ما كاد يغمض عينية قليلاً حتى أحس بدغدغة ناعمة على كتفه، فرفع رأسه في استياء ليجد طفلاً يهمس في أذنه: "هنالك سيدة بالخارج تريد أن تعزيك."

استأذن في لباقة مصطنعة من حامد ود الشريف، ولم يفهم لماذا فعل ذلك، ولكنه وجد أنه من الجيّد أن يستأذن منه كتعبير عن امتنانه لملازمته اللصيقة له منذ وصوله من العاصمة. قام متثاقلاً وهو يستشعر الضجر من كل ما يجري من حوله، وعند الباب الفاصل بين صالة عزاء الرجال وصالة عزاء النساء كانت عديلة عبد الرحيم بابو تقف متوشحة عباءتها القاتمة وهي تنوح بنبرات متقطعة ومنتظمة، وما أن رأته حتى توقفت عن البكاء ورفعت كفيها بخشوع وهمّة وهي تقول: "الفاتحة".

أدركَ على الفور أنها لم تجتهد في قراءة الفاتحة كاملة، فالوقت الذي استغرقته لم يكن يكفي لقراءة آيتين متتاليتين، ولكنه شعر بالارتياح لذلك، لأنها أزاحت عنه عبء التكرار الذي بدأ يمله ويزهد فيه. وبحركة درامية ألقت عديلة بابو بجسدها الممتلئ عليه، وراحت تبكي في هستيريا ألهبت حماسة النساء الأخريات اللواتي رحن يبكين تبعاً لذلك. لم يجد بداً من أن يربت على كتفيها في محاولة لمواساتها، وشغله عن ذلك لاحقاً مرور وقية عبد الباسط من أمامهما، ولم يبد عليها أي تغيير طارئ. كانت مثلما تركها قبل تسعة أعوام: بطولها الفارع المشدود، وأردافها وثدييها المغريين، ونظراتها المثيرة ذات المغزى الجنسي، وراح يتذكر الليالي الحمراء التي قضاها معها بين حقول القصب، ورأيه المتطرف أن لاسمها المتخلف علاقة مباشرة بعدم حصول المتعة الجنسية الكاملة معها.

ساعدته تلك الذكرى الممتعة على تخطي اللحظات العسيرة التي كان من المفترض أن يقضيها في مواساة عمته الباكية على صدره، وأدهشه التفاني الذي تظهره النساء في البكاء. هو يعلم أن عمته وأمه لم يكونا على وفاق دائم، بل يكاد يتذكر عدد المرات التي دعت كل واحدة فيهما على الأخرى بالموت والثبور، حتى أن أمه خصصت وتراً للدعاء عليها بأن تموت حرقاً، وتركت لله حرية أن يختار الكيفية والمكان الذي يجب أن تحرق فيه عمته، بعيداً عن بيتها وعن ناظريها. في لحظة ما أحس أن بقاء عمته على صدره قد استغرق وقتاً أكثر مما يجب، فدفعها عنه برفق وهو يقول: "ما حدث؛ حدث وانتهى!" وتدافعت النسوة لتعزيته مستغلين وجوده بينهن، ما جعله يزداد سخطاً وحنقاً، فزجرهن دفعة واحدة: "كفاكن بكاءً! ماتت أمي وانتهى الأمر، وقد ألحق بها إن لم يخرج الغداء حالياً" حاول تدارك الأمر عندما وجد بكتيريا الدهشة تتكاثر في أعين النساء اللواتي توقفن فجأة عن البكاء والعويل: "أعني؛ يتوجب علينا أن ننظر إلى الجانب الجيّد من الأمر، فقد ارتاحت من مرضها أخيراً ومن تعاسة هذه الدنيا".

* * *

ثلاثة عجول ذبحت على الغداء تكفل بهن حامد ود الشريف، ونصبت الموائد أرضاً، وبدأ الجميع يأكل في صمت مطبق. كانت تلك اللحظة الوحيدة التي شعر فيها بالسعادة المطلقة، فمنذ وصوله إلى القرية لم يتناول طعاماً، بينما امتلأت معدته بالشاي الذي لم يتوقف عن فتيان القرية عن توزيعه على المعزين طوال ساعات العزاء الطويلة والمملة. لاحظ حرص ود الشريف على الجلوس إلى جواره على مائدة الغداء، ولم يستطع أن يمنعه من ذلك، ولاحظ أيضاً أنه كان يقتطع أجزاءً من ضلع العجل المطبوخ ووركه ويضعها أمامه في نكران ذات لم يشهد مثله من قبل، ولكن أكثر الملاحظات التي توقف عندها كانت الحماسة الشرهة التي يأكل بها الجميع، والتي لم تكن منسجمة مع مناسبة حزينة كهذه، ولكنه أضمر ذلك ولم يطلع عليه أحداً.

من يتأمل ود الشريف وهو يتناول طعامه، يعرف سر بدانته المفرطة، فهو بالكاد يمضغ الطعام ليستقر في معدته كما اقتطعه بيديه، يشعر المرء أنه لا يمتلك أسناناً داخل فمه؛ بل مطحنة! فقطعة اللحم التي يجتهد الآخرون في تمزيقها يبتلعها هو كما يبتلع أحدنا قطعة الجيلاتين! يعتبر الأكل مهمة مقدسة يجب أن تؤدى بكثير من الاهتمام؛ لذا فإنه ينهمك في الأكل إلى حد الانفصال عن الواقع فلا يعود يشعر بوجود أحد حوله، تلك أشبه بحالات التسامي التي تعتري المتصوفة، بيد أنه يُخلف وراءه دماراً واسعاً وفوضى تشعرك بالرثاء. عندما يشعر أنه لم يعد قادراً على البلع يتوقف برهة ليرتشف قليلاً من الماء، وقتها فقط يرمق من حوله بنظرات سريعة غير آبهة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - فاقت الروائع العالمية التى عرفناها
فاتن واصل ( 2010 / 4 / 10 - 23:45 )
أهنئك أستاذ هشام على هذه المقتطفات وأتعجب ، كيف ستكون الرواية إن كانت المقاطع بهذا السحر والروعة ، عالمك أخاذ لا يمكن أن يقاوم .. أنت أديب وفنان بكل معنى الكلمة .. شكرا جزيلا لك واتمنى أن أقرأ هذه الرواية كاملة فى يوم من الأيام ولو تدلنى كيف أحصل عليها سأكون لك من الشاكرين .لك كل المودة والاحترام


2 - بطل رواية يعمق الفجوة بين الرجل والمرأة
Nana Ameen ( 2010 / 4 / 11 - 04:35 )
اضم صوتي للأستاذة فاتن، وأقول نعم انها فاقت الروائع العالمية التى عرفناها!!! لا مجاملة في الموضوع استاذ هشام. ولكن استوقفتني بعض الجمل هنا:
-عدّ تجاربه العاطفية الفاشلة التي تجاوزت سبع عشرة تجربة -
-كانت حياته قد أوصلته أخيراً إلى قناعة كاملة بأن النساء كالأطفال يقضينَ حوائجهن بالبكاء-
- وفرض قانون الصمت على أمه الثرثارة، وتصور الصراع الذي قد تعانيه الآن مع الموت حول هذه النقطة بالتحديد، -
- فتبسم في سرّه وقال: -يالمكر النساء!-

من قرائتي لما سبق اشعر بحزن -وليس رغبة بالبكاء!!!- الا تعتقد استاذ هشام اننا هنا امام بطل رواية يعمق الفجوة بين الرجل والمرأة?



3 - فاتن واصل
هشام آدم ( 2010 / 4 / 11 - 06:48 )
العزيزة: فاتن واصل
تحية وتقدير

أشكرك على الكلمات الرقيقة في حقي وحق النص، وسعيد غاية السعادة أنه نال قسطاً من إعجابك، الحقيقة أن النص مازال في بدايته، وأعكف عليه منذ أشهر، ولم آت بعد إلى البحث عن مسألة النشر، حتى أنني لم أرشح دار نشر مُحددة لطباعة ونشر هذه الرواية ولكنني توصلتُ مؤخراً إلى قناعة راسخة بأن الطباعة في بيروت متعة في حدّ ذاتها، وهي مُشبعة للمؤلف بشكل ما، حيث أنهم يتعاملون مع المؤلف بقليل من الجشع وكثير من الاحترام، وهذا -حسب ظني- ما يبحث عنه كل مؤلف. عموماً مازال الوقت مُبكراً للحديث عن هذا الأمر فمازالت الرواية في بدايتها كما قلت، ولكن تأكدي ستكون لك نسخة مجانية ممهورة بتوقيعي عندما تصدر. بإمكانك اعتبار ذلك وعداً مني؛ وأنا لا أخلف الميعاد
:)


4 - نانا أمين
هشام آدم ( 2010 / 4 / 11 - 06:55 )
العزيزة: نانا أمين
تحياتي وتقديري

أشكرك عزيزتي على الثنية المُقدرة وسعيد بأن النص قد نال قسطاً من إعجابك، أما عن بطل الرواية، فهو قد يكون ذكورياً بالفعل، وما الجديد في ذلك؟ يجب ألا نستغرب من وجود بطل ذكوري في مجتمعٍ كهذا على الإطلاق، في الوقت الذي أحاول فيه التركيز على مفارقات تناقض المثقف العربي مع أفكاره لاسيما تجاه المرأة. حقيقة أجد العلاقة بين المرأة والرجل خصبة ومُوحية للغاية فهي تعكس جوانب متعددة ومختلفة للشخصية وللمجتمع، وتسلّط الضوء على المفارقات الثقافية التي قد تتولد من نمط هذه العلاقات وصورة أحدنا لدى الآخر على أية حال. أعتقد -ولكنني لا أجزم- أن خلق شخصية يُعطي المرأة حقها المفترض من الاحترام والتقدير حتى على مستوى التصوّرات الذهنية، فإنها قد تعتبر محاولة لأسطرة الشخصية، وبالتالي تحوّل النص في مجمله إلى فنتازيا مثالية، وتحوّل الخطاب إلى وعظ غير مباشر بطريقة ما

تحياتي وتقديري


5 - لست هنا فقط
فاطمة الفلاحي ( 2010 / 4 / 11 - 10:42 )
المكرم هشام

لاأضيف عمن تقدم برسم اعجابهم بنصك الكبير لا من الاستاذة فاتن واصل ولامن الاستاذة نانا .. فأنا أرتاد هذه عل السيدات يطلعوا عليها ليعرفوا روعة ماتتضمنه المدونة

http://hishamadamme.blogspot.com/

تستحق الوقفة والاحترام بما تحويه من عالم شاسع احبه بجنون

احتراماتي


6 - فاطمة الفلاحي
هشام آدم ( 2010 / 4 / 11 - 12:23 )
الأستاذة: فاطمة الفلاحي
تحية محبة وتقدير

أشكرك -سيدتي- على متابعتك، وممتن لهذا الأمر غاية الامتنان، وأتمنى أن أكون دائماً أهلاً لذلك، وأن أكون عند حسن ظنك وبالتأكيد سعيد بقراءتك لمقاطع الرواية وأتمنى أن تنال إعجابك وإعجاب القارئ الكريم. أما بالنسبة لمدونتي فهو لطف منك -سيدتي- أن تشيري إليها في مداخلتك، وسعيد بأنك أحد زوّار المدونة رغم أنني لم أضف إليها شيئاً يُذكر منذ فترة طويلة

تحياتي لك وتقديري


7 - تحفة
صلاح يوسف ( 2010 / 4 / 11 - 14:34 )
بالفعل لا تقل عن أجمل التحف العالمية. إحساس رقيق يتغلغل إلى ثنايا النفوس في لحظات قلما وجد الواحد منا وقتاً للتفكير فيها. شكراً لك.


8 - بكائية الحزب الاسود تحفة
وجيدة ( 2010 / 4 / 11 - 21:49 )
شئ في قمة الروعة والابداع وسلاسه في الاسلوب اكمل وتابع الصعود الي قمم البوح الجميل واترك سقطات الفكر الواهي واعرف كيف تمتع كل معجبيك وتدهشهم بتحفة تتلوها تحفة وارتقي ركب العظماء الذين ارخؤا حياتهم كنقش افريقي لن يمحوه الزمان


ولك ودي
يازول يارائع











9 - صلاح يوسف
هشام آدم ( 2010 / 4 / 12 - 06:48 )
العزيز: صلاح يوسف
تحياتي لك يا صديقي، وأشكرك على قراءتك للنص، وعلى تعليقك وعلى كلماتك الرقيقة. أتمنى أن أكون عند حسن ظنك


10 - وجيدة
هشام آدم ( 2010 / 4 / 12 - 06:53 )
أعتز برأيك جداً يا وجيدة، لاسيما وأن النص يُسلّط بعض الضوء على الواقع السوداني والذي لا يستشعره إلا أهله، سعيد بهذا الحلومر الذي أحسه في رأيك تجاه ما أكتب، والسقطات الفكرية هذه جزء أصيل من تكويني يا عزيزتي، وفي النهاية أظل محسي عكليته تلعب جيناتي دوراً كبيراً فيما يحدث
:)
تسلمي يا زولة


11 - عزيزي الكاتب
قارئة الحوار المتمدن ( 2010 / 4 / 12 - 10:45 )
كان باب التعليقات قد أغلق عندما قررت تهنئتك على رحيق البابايا فكتبت إليك مباشرة برأيي , لأني وجدت ما يستحق أن أقف عنده فلا أتجاوزه بالقراءة فقط , ثم جاءت الثانية فالثالثة , يسعدني يا أخ هشام أن اسمع المديح يكال لك من ثقة , الحضور الكريم من الزميلات أجمع على ما لمسته عند حضرتك من الرواية الأولى , ها قد اكتشفنا الحس الروائي , يصاغ بأسلوب أدبي جميل ننتظر منك أن تسعدنا بلفتاتك الأدبية من حين لآخر وشكراً


12 - قارئة الحوار المتمدن
هشام آدم ( 2010 / 4 / 12 - 12:00 )
عزيزتي القارئة .. أعجز عن التعبير، ويُقال: العجز عن التعبير تعبير في حدّ ذاته، يُسعدني فعلاً أن تلقى كتاباتي صدىً جيداً عن الآخرين، لاسيما أولئك الذين لا أشك في حسهم وذائقتهم الأدبية. ولقد سعدتُ كذلك برسالتك الرقيقة وتعليقك حول قصة رحيق البابايا وأتمنى أن أكون دائماً عند حسن ظنك، وظن القراء الكرام

تحياتي ومودتي الخالصة

اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - الزمالك كان في زنقة وربنا سترها مع جوميز.. النا


.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ




.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت