الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن السجان والمطوِّع والبدائل الذكية

ليندا حسين

2010 / 4 / 11
أوراق كتبت في وعن السجن


"انريكه فريتز" مدير سجن أحد المدن الساحلية في تشيلي. مدينته تعرضت مؤخرا لموجات تسونامي أودت بحوالي مائة شخص وفقدان مئات آخرين. كان "انريكه فريتز" يعرف بقرب حدوث تسونامي إلا أنه ـ وبينما ركض الجميع إلى المرتفعات أملا بالنجاة من الغرق ـ بقي في مكتبه حتى اللحظة الأخيرة لايعرف إن كان ينبغي عليه أن يبقي هؤلاء الخارجين عن القانون محتجزين، أو أن يطلقهم كي يجنبهم موتا حتميا فيما لو انفجر تسونامي. انتظر المدير حتى دوت صفارات الإنذار، حينها قرر فتح أبواب السجن ليفر سجناؤه بجلودهم.

للوهلة الأولى يبدو تحرير سجان تشيلي لسجنائه أمرا طبيعا تحتّمه الفطرة التي جبل عليها البشر والتي تقضي أن يتضامن البشر جميعا ضد الموت. لكن هذا التفكير متفائل جدا بتقدير مساحة الاختيار المتاحة للسجانين وعناصر الانضباط والجلادين. فالسجان أو الجلاد أو المطوِّع هو شخص محكوم بأوامر صارمة محصورة بثقب قفل الزنزانة التي يسهر عليها، بحيث لا تتيح له الأوامر أيه مساحة تعاطف أو تفكير خارج هذا الثقب، إذ بغير هذه الصرامة تنهار مهنة السجن والرقابة وتنهار أخلاقياتها. السجان إذنْ تربى على الإصغاء للأوامر بشكل آلي وبأسلوب عسكري قاعدته الأثيرة "نفذ ثم فكر"، ولضمان تنفيذ الوصية الأخيرة غالبا ما يُنتخب لمهمة الحراسة والانضباط أشخاص لهم استعداد لإطاعة الأوامر بشكل أعمى. ولهذا فالقرار الذي اتخذه سجان تشيلي ليس طبيعيا ولا يتناسب مع قواعد وظيفة قضى فيها ثلاثين عاما.

بالعودة إلى الوراء ثماني سنوات، وفي إحدى المدارس الحكومية في السعودية شب حريق أودى بحياة خمس عشرة طالبة وأصاب خمسين فتاة بالأذى. حارس المدرسة رفض فتح الباب للسماح للبنات بالخروج أثناء اندلاع الحريق، بينما تولى المطوعون منع البنات من مغادرة المدرسة لعدم ارتدائهن الحجاب والعباءة السوداء. تمادى المطوعون بعد ذلك في التزامهم المهني محاولين منع رجال الإطفاء من دخول مدرسة البنات تفاديا لاختلاط الذكور بالإناث. المطوعون تعرضوا لإدانة لا مثيل لها من وسائل الإعلام ونشطاء الدفاع عن حقوق الإنسان في السعودية وخارجها. هذا الحماس لإدانة وشجب وحشية المطوعين لم يقابله نفس الحماس لتحليل حالتهم وفهمها، إذ لم تكن مغرية بما فيه الكفاية لجذب الكاميرات إليها.

موقف هؤلاء المطوِّعين يذكّر بموقف "حنا شميتز" بطلة الفيلم الأمريكي "القارئ" 2008. عملت "حنا شميتز" حارسة لدى قوات الأمن في ألمانيا النازية، واتُهمت فيما بعد بارتكاب جرائم خلال الحرب العالمية الثانية لمسؤوليتها عن مقتل ثلاثمائة امرأة يهودية في أحد معتقلات الاحتلال النازي في بولندة، حيث رفضت وزميلاتها السماح للنساء المحتجزات بالهرب حين اندلعت النيران في كنيسة كنّ قد احتُجزن فيها. تقول "حنا شميتز" أثناء محاكمتها: كيف كنا سنضمن السيطرة على كل هذا العدد من النساء فيما لو أخرجناهن من الكنيسة؟ كيف كنا سنتمكن من فرض الانضباط؟ كنا نقوم بواجبنا، بحراسة السجينات، ولم نعرف كيف نتصرف.

الحارسة ـ وكما بدت في الفيلم ـ امرأة متوسطة الذكاء، أميّة، لم تمكنها ظروفها من تطوير مهارات اجتماعية أو حياتية، تلقت دروس الطاعة العمياء والانضباط الصارم، وقد بدت أثناء محاكمتها مشوشة وغير مستوعبة تماما لذنبها الذي ستسجن بسببه مدى الحياة.

إن خلق سجّان وفيّ لا يتم بشكل اعتباطي، إذ كلما كان قادرا على التعامي أكثر كلما كان أكثر ملاءمة لمهنته. ممنوع على السجان أن يحس، وممنوع عليه أن يعرف أو يتدخل: نفذ ثم فكر، والأفضل ألا تحس وألا تفكر. هذه القاعدة تفسر كثيرا من حوادث موت السجناء تحت التعذيب في دول العالم بما فيها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ يحدث أن يتمادى السجان في أداء واجبه المهني وفاء ورغبة منه في إثبات أهليته، فيلهث خلف غايته النبيلة بدأب، قد يُفقده أحيانا رشده.

القاعدة رقم واحد في تصنيع الروبوتات ـ كما اقترحها كاتب الخيال العلمي إسحاق آزيموف ـ تنص على عدم إيذاء البشر وعدم السماح بحدوث الأذى. القاعدة رقم اثنين هي ضرورة تنفيذ أوامر البشر شرط ألا تتعارض مع القاعدة رقم واحد. القاعدة رقم ثلاثة هي الحرص على سلامة الروبوت واستمراره في العمل شرط ألا يتعارض مع القاعدة رقم واحد واثنين. هذه القواعد تطبق أيضا في تدريب كوادر السجانين والجلادين مع إهمال القاعدة رقم واحد طبعا. فالسجان عليه تنفيذ أوامر من هم أعلى منه، وعليه أيضا وبدافع غريزي أن يحافظ على رزقه وحياته، ولهذا تجده لا يتردد لحظة في تنفيذ الأوامر وبحذافيرها. أي تساهل من قبل السجان سيؤدي إلى عواقب غير حميدة بالمرة. هذا ما يرويه الفيلم الألماني "حياة الآخرين" 2006 والذي تدور وقائعه في ألمانيا الشرقية قبل سقوط الجدار. الفيلم اقترب كثيرا من تلك المنطقة الشائكة بين الجلاد وضحيته متمثلة بعلاقة رجل الاستخبارات "جيرد فيزلر" بكاتب كُلف بمراقبته. كان "الاستخباراتي" واحدا من أشد المؤمنين بقداسة مهمته في حماية النظام الاشتراكي، وكان قد طور العديد من التقنيات لإرغام المستجوَبين على الإدلاء بمعلوماتهم لجهاز المخابرات الألماني. سيطرأ على شخصية الاستخباراتي الألماني تغيير جذري بعد احتكاكه بتفاصيل حياتية وجوانب إنسانية للكاتب المكلف بالتنصت عليه، حيث يتورط الاستخباراتي في النهاية بالتعاطف مع ضحيته إلى حد حمايته لها بتغطية كل الأدلة المُدينة. هذا التورط الإنساني كلفه فيما بعد مركزه الرفيع وسلطاته، مقدما بذلك نموذجا عن النهاية الحتمية لسجان يقيم اعتبارا لقاعدة الروبوتات رقم واحد.

على العالم اليوم أن يفكر جديا في إدخال الذكاء الصنعي في عمليات الحراسة والتطويع والجلد، فربما يضمن بذلك الحصول ليس فقط على حراس تجاوزوا التبلد الذهني بل حراسا أكثر آدمية من البشر. قد يتفادى بذلك أيضا وفاة السجناء تحت التعذيب وموتهم منسيين احتراقا أو غرقا. لا بد هنا من اقتراح قاعدة رابعة للروبوت السجان، وهو تدريبه على الإحساس بالذنب في حال اقترافه، تحسبا ووقاية من تكرار مآسي الماضي التي حصلت على أيدي أشخاص لديهم مناعة غير عادية ضد الإحساس بالندم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ربوت رحيم بدل المطوعين القساة
رعد الحافظ ( 2010 / 4 / 11 - 14:57 )
سيدتي الكاتبة / المناعة غير العادية عند كثير من الناس , ضدّ الإحساس بالندم , بل بالشفّقّة
أصلاً , قد وّلّدها في نفوسهم مسخٌ معروف ...على الأقل نعرفهُ في منطقتنا وبين شعوبها البائسة
هذا المسخ جردهم تقريباً من الرحمة , وإلاّ ماتفسير ماقام بهِ المطوعين في حادث حريق مدرسة البنات الذي أشرتِ لهُ ؟
............
ماقام بهِ مدير السجن في شيلي لينقذ حياة المساجين من الزلزال القادم , كان بدافع الفطرة البشرية العادية وهو مفهوم ورائع طبعاً وإنساني
لكن بالمقابل / نفس الإجراء قام به صدام / قبل فرارهِ وإختباءهِ في حفرتهِ الشهيرة
ماذا عمل ؟
أخرج المجرمين واللصوص من سجنهم وأطلقهم في شوارع بغداد ( وربّما زودهم بأسلحة أيضاً ) ليتصدوا حسب ظنّه للأميركان الى حين أن يختار الحفرة المناسبة لهُ
هل تصرفه كان إنسانياً ؟ طبعاً لا
بل كان سادياً بحق الشعب العراقي وبحقّ المذنبين أنفسهم
لأن الأميركان ليسوا كزلزال شيلي لايفرق بين الجميع
............
أحييكِ يشدة على موضوعكِ الإنساني , خصوصاً في ضرورة إستبدال المطوعين القساة
بروبوت مبرمج على الرحمة والقانون معاً


2 - شكرأ سيدتي
حبيب هنا ( 2010 / 4 / 11 - 15:23 )
قلائل هم الذين يلتفتون إلى هذه الفتة الانسانية أنت واحدة منهم . شكراً لك سيدتي


3 - مقارنة جميلة
مواطن ( 2010 / 4 / 11 - 19:16 )
شكرا استاذة ليندا على هذة المقارنة الجميلة والذكية
الله يصلح احوالنا
شكرا


4 - شكراً
حسن ( 2010 / 4 / 12 - 14:41 )
سيدتي صورتك جميلة جداً


5 - موضوع مفيد
hussein fadel ( 2010 / 4 / 12 - 16:28 )
اولاموضوع جميل فعلاوعرض شيق جدا واسلوب متميزواتمنى ارسال كل كتابات الكاتبةعلى الاميل للاستفادة وشكرا

اخر الافلام

.. الدبابات الإسرائيلية تسيطرعلى معبر رفح الفلسطيني .. -وين ترو


.. متضامنون مع فلسطين يتظاهرون دعما لغزة في الدنمارك




.. واشنطن طالبت السلطة الفلسطينية بالعدول عن الانضمام للأمم الم


.. أزمة مياه الشرب تفاقم معاناة النازحين في ولاية القضارف شرقي




.. عائلات الأسرى المحتجزين لدى حماس تطالب بوقف العمليات في رفح