الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقارب النظامين الفرنسي والعربي في رقابة القضاء على الإدارة: نموذجاً رائعاً لتقارب الثقافات

علي شفيق الصالح

2010 / 4 / 11
العولمة وتطورات العالم المعاصر


من المفيد في هذه المرحلة التي ظهرت فيها العديد من المبادرات العالمية الداعية لتحالف الحضارات وتقارب الثقافات ومع إنطلاق مبادرة الأمم المتحدة من منظمة "اليونسكو" بداية هذا العام, التحدث عن تقارب النظامين الفرنسي والعربي في رقابة القضاء على أعمال الإدارة لضمان حقوق الأفراد وحرياتهم, لإنه يشكل نموذجاً رائعاً لتقارب الثقافات, وأفضل وسيلة لمواجهة التطرف.
كما أن الحديث عن هذا الظاهرة الحضارية يكشف لنا الإهتمام الدولى في هذا العصر بالدراسات القانونية المقارنة تمهيداً لإختيار الأصلح منها, ويكشف قدرة رجالات الفقه والقانون على الإبتكار وتبادل المعرفة مع الآخرين, كما يساعد على تعريف العالم بمزايا موروثاتنا التشريعية وأحكامها المفيدة.
الدعاوى الإدارية هل لها قضاء خاص ؟
بالرغم من التطورات التي حصلت في السنوات الماضية ما زلنا نقول بأن العالم ينقسم بصدد الرقابة القضائية على الأدارة الى قسمين:
قسم يأخذ بنظام "القضاء الموحد" الذي بموجبه تتولى المحاكم النظامية العادية وظيفة حسم كل المنازعات سواء كانت ناشئة بين الأفراد أنفسهم أو بين الأفراد والإدارة. وتأخذ بهذا النظام بشكل خاص بريطانيا إضافة الى الولايات المتحدة والهند ودول أخرى.
والقسم الآخر يأخذ بنظام "القضاء المزدوج" الذي يقوم على أساس وجود هيئة خاصة ومستقلة تختص في نظر الدعاوى التي يرفعها الأفراد للحصول على حقوقهم من الإدارة وحماية مصالحهم بإعتبارها سلطة عامة. وتعتبر فرنسا مهد هذا النظام بصورته المعاصرة, كما تأخذ به إيطاليا وبلجيكا وتركيا ومصر والسعودية وغيرها من الدول.
ويتميز النظام الموحد بالسهولة وعدم التعقيد, ولكن يؤخذ عليه أنه لا يراعى إختلاف العلاقات الإدارية عن العلاقات الفردية, إضافة الى التدخل بأعمال الإدارة. بينما يتصف النظام المزدوج بكونه يراعي خصوصية المنازعات الإدارية رغم ما يؤخذ عليه كونه يؤدي الى تعقيد الإجراءات.
ولنأخذ صورة واضحة عن الفرق بين هذين النظامين, نفرض أن تنشأ لك منازعة حول قرار صادر من إحدى الإدارات وتريد من القضاء أن ينصفك ويلغيه بسبب أن فيه إساءة استعمال السلطة ومخالفة القانون أو تطلب التعويض عن الضرر, فإن دعواك سوف تعرض على محاكم مستقلة عن القضاء العادي إذا كنت في دولة تطبق نظام القضاء المزدوج, وإلا فينظرها القضاء العادي.
ولو راجعنا ما شهدته السنوات القليلة الماضية من إصلاحات شملت التنظيم الأساسي لكل من النموذجين التقليديين أعلاه لوجدنا بأن الفروق بينهما أخذت تبدو أقل وضوحاً.
ومن دواعي الفخر أن فكرة وجود قضاء إداري مستقل عن القضاء العام ليست جديدة, فقد عرف القضاء طريقه في الدولة الإسلامية قبل نحو ألف واربعمائة سنة تحت إسم "ولاية المظالم" التي تعتبر نوعاً من القضاء العالي, وتهدف الى مواجهة جور الحكام والولاة والتصدي لذوي الجاه والنفوذ.
ولكن نظام القضاء الإداري بشكله المعاصر كانت بدايته في فرنسا مع إنشاء "مجلس الدولة" عام 1791م الذي توالت عليه تطورات مستمرة أهمها تحوله في سنة 1872م الى جهة قضائية مستقلة تحمي المواطنين من تعسف السلطات العامة فضلاً عن تحويل مجالس المحافظات الى محاكم إدارية.
التطور في الدول العربية
لقد حفزت فكرة ولاية المظالم عديد من الدول العربية على الأخذ بنظام القضاء المزدوج الذي يتطلب تخصيص محاكم مستقلة تراعي التوفيق بين المصلحة العامة ومصلحة الأفراد. وهذا ما حصل بشكل خاص في كل من مصر والسعودية.
وإكتفت دول عربية أخرى بإنشاء دائرة متخصصة أو محاكم نوعية داخل القضاء العادي لنظر منازعات إدارية محددة, مثل الكويت وليبيا (إنشاء دائرة إدارية في محكمة الإستئناف), والإمارات العربية المتحدة (إنشاء دوائر في المحاكم الإتحادية), والأردن قبل عام 1989م (منح محكمة التمييز بصفتها محكمة عدل عليا صلاحية النظر في بعض الدعاوى الإدارية), والمغرب (إنشاء غرفة إدارية في المجلس القضائي الأعلى).
وشاءت دول ثالثة إنشاء هيئات نوعية مستقلة عن القضاء العام لنظر بعض إنواع الدعاوى الإدارية, مثل : الأردن بعد عام 1989م.
وأخيراً فضلت دول قليلة, مثل العراق, أن تعهد لجهة قضائية واحدة ولاية النظر في كل أنواع المنازعات, غير أن القضاء يعترف وأحياناً القانون بوجود منازعات إدارية يقتضي معاملتها معاملة خاصة, فضلاً عن وجود هيئات نوعية محددة لنظر منازعات إدارية بسيطة.
بداية التشابه والتقارب
يمكننا أن ننظر الى مصرعلى أنها من أقدم الدول العربية في تطبيق النظام القضائي المزدوج بشكله المعاصر وذلك منذ عام 1946م إثر صدور القانون الأول لمجلس الدولة. ثم تدعمت أركان النظام الجديد واستكملت محاكمه القضائية بصدور القوانين المتعاقبة لمجلس الدولة وآخرها قانون سنة 1972م الذي أعلن صراحة مبدأ إستقلال القضاء الإداري. واعتقد أن مما سهل ذلك قدم إحتكاك مصر بالقوانين الفرنسية الذي يعود الى حملة نابليون, وأيضاً الى حكم الخديوي إسماعيل باشا.
وفي المملكة العربية السعودية يتمثل القضاء الإداري بهيئة تدعى "ديوان المظالم" ، وهي هيئة قضاء إداري مستقلة عن القضاء العام وترتبط مباشرةً بالملك . ولقد مر ديوان المظالم بتطورات عديدة منذ بداية تأسيس المملكة لحد الآن عززت كثيراً من تشابه وتقارب النظام السعودي مع بقية أنظمة القضاء المزدوج.
وتبدأ ملامح التشابه والتقارب تتضح مع الإصلاح الذي كان قد جرى في عام 1982م والذي بإعتقادي يعتبر بمثابة خطوة تحول هامة في تنظيم المنازعات الإدارية . فقد أصبح الديوان جهة قضائية مستقلة تمارس ولايتها في الرقابة القضائية على أعمال الإدارة وتستقل تماماً عن القضاء العام.
وحديثاً تحققت نقلة نوعية للأنظمة القضائية في المملكة، حيث صدرت قبل أقل من ثلاث سنوات (رمضان 1428هـ) قرارات تاريخية في إطار مشروع متكامل أطلق عليه " مشروع الملك عبدالله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء" الذي رصدت له أضخم ميزانية بمبلغ قدره سبعة مليارات ريال وإستهدف أن يكون النظام القضائي نظاماً عصرياً.
وأول ما نلاحظه من الاصلاح الجديد أنه قد أضفى على الجهاز القضائي لديوان المظالم وصف المحاكم لتصبح كل مجموعة من الدوائر تحت مظلة محكمة مما يعني التأكيد على الصفة القضائية لديوان المظالم وتشكيلاته وزيادة الثقة به من المواطنين والمستثمرين.
تقارب التنظيم ومراحل التقاضي
أن التنظيم المقرر في كل من فرنسا ومصر والسعودية يكاد يتشابه من حيث مراحل التقاضي أو درجات المحاكم مع وجود بعض الإختلاف في التفاصيل. ويتمثل التشابه هنا بوجود ثلاث درجات من التقاضي أو المحاكم: محاكم درجة أولى أو إبتدائية, ومحاكم إستئناف, ثم محكمة نقض.
ففي فرنسا أخذ التنظيم يتصف بوجود ثلاث درجات من التقاضي بعد إضافة درجة الإستئناف قبل مدة ليست بعيدة (ديسمبر 1987م) وهي: المحاكم الإدارية وتعتبر هي صاحبة الإخصاص العام في المنازعات الإدارية, ومحاكم الإستئناف التي تنظر في قضايا الإعتراض على أحكام المحاكم الإدارية, ومجلس الدولة الذي يعتبر محكمة نقض للإعتراض على أحكام محاكم الإستئناف ولكنه يعتبر أيضاً محكمة أول درجة وآخر درجة من التقاضي لبعض القضايا.
وبالنسبة لمصر فأن الإستئناف قد عرف لديها قبل الآخرين, وأن المحاكم هي: المحاكم الإدارية وتعتبر هي القاعدة العريضة لأول درجة من التقاضي, ثم هناك محكمة القضاء الإداري ودوائرها التي تأسست سنة 1968 والتي تعتبر بمثابة محاكم الإستئناف ولكنها تعتبر أيضا محاكم درجة أولى من التقاضي لبعض القضايا, وأخيراً المحكمة الإدارية العليا التي تعتبر محكمة نقض للإعتراض على أحكام محكمة القضاء الإداري والمحاكم التأديبية.
وفيما يخص السعودية فأن المطبق منذ الإصلاح الأخير أصبح أيضاً وجود ثلاث درجات من التقاضي: المحاكم الإدارية التي تعتبر هي محاكم أول درجة من التقاضي وبدون منافس, ومحاكم الإستئناف الإدارية التي أنشأت حديثاً (2007 م), وأخيراً المحكمة الإدارية العليا التي تعتبر محكمة نقض للإعتراض على أحكام محاكم الإستئناف.
ولا تستغرب اذا لاحظت أن التقاضي الإداري بثلاث درجات قد عرف طريقه مبكراً في مصر, ولو بشكل محدود وقبل الدول الأخرى بعدة سنوات, فإن التطور يسير وكما ذكرنا نحو تقارب القوانين بين الدول مهما اختلفت الثقافات.
أهم أوجه التقارب والنقاط المشتركة
أستطيع أن أقول أن من أهم أوجه التقارب بين النموذجين الفرنسي والعربي هو نوع الدعاوى التي يختص بها القضاء الإداري, وهي بشكل رئيسي دعاوى طلب "إلغاء القرارات الإدارية" بسبب إنحراف في السلطة أومخالفة القانون, والدعاوى الخاصة بطلب "التعويض" عن الأضرار الناتجة عن المسئولية التقصيرية للإدارة, ودعاوى "العقود الإدارية".
وتشابه آخر مهم يتلخص بإجراءات التقاضي في الدعاوى الإدارية وخاصة النواحي الشكلية. ولا يغير من هذا التشابه وجود إختلاف أحياناً في التفاصيل من ذلك تميز نظام القضاء السعودي بإعفائه أصحاب الدعاوى الإدارية من شرط توكيل محام أو دفع رسوم قضائية, وعدم تشدده في شروط لائحة الدعوى. وهذا أمر طبيعي فإن من النادر جداً أن نجد نظامين يتشابهان في جميع صفاتهما تشابهاً تاماً, فالمهم لدينا إرساء ثقافة تقوم على قواعد وقيم إنسانية مشتركة تفتح المجال أمام تفاهم الشعوب والجماعات وتقارب الحضارات.
ومن المعلوم بأن النظريات الأساسية والقواعد التي يطبقها القضاء لغرض حسم الدعوى ضد الجهات الإدارية تختلف عن قواعد القانون الخاص, وتعتبر برأيي من أهم النقاط المشتركة بين مختلف الدول بما في ذلك الدول العربية التي لا يوجد فيها قضاء إداري قائم بذاته, مثال ذلك نظريات المرافق العامة والعقود الإدارية, والظروف الطارئة, والتعسف في استعمال السلطة.
ولا يفوتني أن أذكر بأن من الخصائص الذاتية للقانون الإداري أن بناءه العلمي قام أساسأ على أحكام قضائية وإجتهادات فقهية مما ضمن له المرونة ليتماشى مع تطور الإدارة. وهنا يتبادر للذهن العديد من الإسماء المعروفة من الفقهاء الفرنسيين والعرب المعاصرين الذين قدموا خدمات جليلة في هذا الشأن وساعدوا على تقارب الثقافة القانونية بين الغرب والشرق أذكر منهم كمثال: العميد ديجي, وهوريو, ودي لوبادير, والسنهوري, والطماوي. كما ساعد على هذا التقارب تبادل الأساتذة والبعثات الدراسية بين الجامعات ونشر البحوث والأحكام القضائية.
خلاصة ما أردت توضيحهُ أن الإصلاحات الحديثة في أنظمة الرقابة القضائية على الإدارة في فرنسا ودول عربية مختلفة تمثل خطوات مهمة نحو مواكبة التطور وتقارب القوانين والأحكام . وهي ثمرة جهد كبير وتبادل مفيد في الخبرات والتعاون, مما أعطانا الحق في أن ندخل بثقة عالم الأقوياء بتراثنا وعلمنا ومسايرة النمو والإرتقاء.
وهذا يدعوني الى تكرار ما ناديت به في مناسبات سابقة من ضرورة إعادة الحيوية في المجامع الدولية التي تهتم بالدراسات القانونية المقارنة وإختيار الأفضل منها وتوحيدها, وخاصة في ظل هيئة الأمم المتحدة, ومنظمة اليونسكو في باريس. فقد ثبت أن تقارب القوانين من أفضل الوسائل لتقارب السلوك الإنساني والثقافات بين الجماعات البشرية, كما يعتبر بمثابة الرد المتزن لمواجهة التطرف.
(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا