الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تزاحم الأضداد

عدنان الصائغ

2002 / 7 / 13
الادب والفن


 

 

"ما من مرة استطعت استخلاص موافقة ـ ولو ضمنية ـ منها. هي على حق … وأنا …

وبيد خفيفة الحركة اغلق الباب من خلفه، واحتواه ظلام الزقاق".

اسماعيل فهد اسماعيل

من رواية "الحبل"

 

أنه تزاحم الأضداد الذي عناه المعري في داليته الشهيرة تلخيصاً شعرياً وفلسفياً لحركة الكون والحداثة والتاريخ:

"رب لحد قد صار لحداً مراراً ضاحكاً من تزاحم الأضداد"

وإلا فما الذي جمع قبر الجنيد وأبي نؤاس في مكان واحد بل في مقبرة واحدة بل وفي قبرين متجاورين، حيث يرقد الجنيد زاهداً عن الدنيا التي تركها لأصحاب الكؤوس والفلوس والكروش وحيث يرقد أبو نؤاس ساخراً من كل زاهد ولائم بالخمر:

دع عنك لومي فأن اللوم أغراء            وداوني بالتي كانت هي الداء.

بل ذهب إلى أكثر من ذلك حين طلب في وصيته:

"خليلي بالله لا تحفرا لي القبر إلا بقُطْربّلِ

ولكنهم حفروا لهو قبراً مجاوراً للجنيد البغدادي شيخ المشايخ وبهلوان العارفين وطاووس الفقراء.

وتلك لعمري واحدة من مفارقات التاريخ، وما أكثرها بل ما أكثر ما تستنبط منها ما شئت من الحكم والعبر والفلسفات ومنها أن يكون الجنيد نديماً خالداً لأبي نؤاس لا يستطيع تركه. ومن المفارقات أن يذهب 

 

 

الجنيد بإيثاره الصحو الفكري على السكر الروحي الذي آثره أبو يزيد البسطامي ويحيى بن معاذ الرازي والحلاج فهو عنده حال خير من السكر لأن العبد في الصحو يستطيع تمييز الأشياء فيعرف المؤلم واللذة فيختار المؤلم في مطابقته للحق بخلاف حالة النشوان إذ لا يستطيع التمييز والاختيار لكونه غائباً.

ويذهب أبو نؤاس في مذهب السكر مذهباً مختلفاً فاق بها أستاذه الشاعر الماجن والبة بن الحباب الاسدي وخلف الأحمر بل فاق الشعراء الخمريين في وصفها والتغزل بها حتى التصقت به مجدداً في معانيها وثائراً على تقاليد الشعر الفنية القديمة داعياً إلى تغيير المضمون والى استبدال الوقوف على الأطلال ووصف الحياة البدوية بوصف الحياة المدنية الحديثة من قصور وبساتين وجوارٍ وكؤوس.

ومن مفارقات التاريخ بل من مفارقات المقبرة أن تضم معهما قبر البهلول الذي ترك العرش وأبهة الخلافة والموائد لأبن عمه الخلفية العباسي المتوكل متسكعاً في أزقة وحارات بغداد مدعياً الخبل، زاهداً وساخراً من الدنيا، مغلفاً حكمته المرة وانتقاداته اللاذعة بسيرة جنونه وحكاياته التي أشتهر بها، وكأنه لم يكتف بالمفارقات التي رآها في حياته بين القصور العباسية والحارات الشعبية لتضعه أقداره في النهاية بين شيخ التقوى وشيخ الخمرة حكماً عارفاً وشاهداً ساخراً على تقلبات الدنيا وأحوالها. وكان مما ضمته المقبرة أيضاً قبر السري السقسطي المتصوف المعروف وخال الجنيد الذي تتلمذ عليه بالإضافة إلى قبر يوشع نبي اليهود الذي رويت عنه السير بأن الشمس وهي تميل إلى المغيب استجابت له وعادت إليه من جديد، وقد عاش ثلاثمائة سنة، وغير ذلك من القبور التي طمست وأمحت من رخامها أسماء قاطنيها على مر العصور.

وأترك مقبرة الشونيزية في قلب بغداد والتي تسمى اليوم مقبرة العطيفية نهباً للزمان والإهمال وأخرج من تزاحم اضدادها إلى تزاحم اضداد الحياة خارج أسوارها لترى العجب العجاب على هذه الأرض الطيبة والمرة التي مرت بها كل قوافل التاريخ والحضارات والملوك والطغاة والشعراء والفلاسفة والمتصوفة والمغنين والجواري والفتوحات والفنون والعلوم والقوانين والمكتبات والمسلات والزقورات ونواعير الدم .. والخ

 

 

والخ .. وقارن بما آلت إليه: من بلاد نقشت على مسلة حاكمها حمورابي أول قانون للبشرية إلى بلاد يحكمها رجل خارج عن القانون. وتلك خلاصة الخلاصات لكل ما مر وما سيمر من تزاحم أضداد التاريخ عبر مسيرته الطويلة الحافلة بالمفارقات المضحكة والمبكية وما بينهما. على أن ليس كل مفارقة ضارة ولا كل تضاد ممقوت. فالضد يظهر حسنه الضد، كما عبر عن ذلك أحد الشعراء. إذ ليس لك أن تعرف معنى الليل إلا من خلال ضده النهار ولا طعم الشهد إلا لأنك تعرف طعم الحنظل، وفي اختلافهما كسرٌ للرتابة والتكرار والتعود. وهذا كله من نعم الاختلاف التي خصها الرسول الكريم بقوله: "اختلاف أمتي رحمة" مرتقياً بفن الاختلاف إلى مستوى الرحمة الإنسانية والروحية في تشعبات الفكر والفن والثقافة والتي ارتقت بالحضارات إلى أعلى مستوياتها في العطاء والتآلف والحوار المثمر بين الشعوب المختلفة، على إن هذا كله جزء من طبيعة اختلاف الحياة نفسها واختلاف الأقوام والأمم والأوطان والثقافات والعادات والأديان والمناخات والفنون وغير ذلك، اختلافاً عارضاً أو جذرياً، لا يفسد للود قضية مهما حاول المتعصبون من كل الأطراف وضع السدود والحدود والمحرمات والممنوعات بوجه بعضهم البعض، وادعاء كل طرف بأنه وحده الذي يملك الحقيقة والبرهان والحكم والقضاء والحد، فيكون هو القانون والقاضي والشاهد ومنفذ الحكم. دون أن يعطيك فرصة أو هامشاً للحوار والنقاش أو إبداء الرأي أو الاعتراض حتى ولو ببنت شفه. والى هذا انتهى بلد تزاحم الأضداد حتى ضاقت أرضه بكل رأي مخالف أو مستقل، بل وحتى ضاقت مقابره ـ وهي التي اتسعت بما وسعت ـ أن تضم جدث الجواهري وبلند الحيدري وغائب طعمة فرمان والخ من أجداثنا القادمة.

 

عدنان الصائغ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مستنقع- و-ظالم-.. ماذا قال ممثلون سوريون عن الوسط الفني؟ -


.. المخرج حسام سليمان: انتهينا من العمل على «عصابة الماكس» قبل




.. -من يتخلى عن الفن خائن-.. أسباب عدم اعتزال الفنان عبد الوهاب


.. سر شعبية أغنية مرسول الحب.. الفنان المغربي يوضح




.. -10 من 10-.. خبيرة المظهر منال بدوي تحكم على الفنان #محمد_ال