الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحولات اٌسكندرية عبر العصور

مهدي بندق

2010 / 4 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


تحولات الإسكندرية عبر العصور
من مدينة عالمية إلى معقل للسلفيين والمتطرفين
مهدي بندق

معروف أن الفيلسوف أرسطو هو أول من كشف اللثام عن قواعد المنطق الصوري rules logic Formal أي القواعد التي تحكم القالب الخارجي للعبارة – أيا ً كانت لغتها - بغض النظر عن المحتوى. ولم يكن هذا بالكشف الهين ، بل كان أمرا ً عظيم الشأن حقا ً ، فالقوالب الصحيحة تعد واحدة من وظائف العقل في كل زمان ومكان ، وهي لذلك ضرورية لضبط الفكر الإنساني كي لا يتشتت بين الصواب والخطأ ، ومن ثم صار المنطق الأرسطي – ولفترة طويلة جداً- وعاء صالحاً ُتصب فيه عمليات التفكير البشري بحيث تأتي نتائج هذه العمليات واحدة ً لا يعكر عليها اختلاف أصحابها في الديانات أو العقائد أو الجنس Genderأو الأعراق أو اللغات . وعليه فقد استحق أرسطو لقب المعلم الأول ، اعترافا ً بفضله في توحيد البشر على المستوى العقلي بالأقل .
ولأن الإسكندر الأكبر، فاتح العالم القديم كان تلميذا ً نجيبا ً لأرسطو، فلقد كان " منطقياً " أن يلتقط هذا الخيط الفلسفيّ ليشدده صانعا ً منه حبالاً من ُصلب ، أرادها أن تكون أساسا ً لدولة كونية واحدة يعيش بظلها جميع البشر راضين قانعين . وحين شرع في تنفيذ حلمه بهذه الدولة اختار لها أقدم الحضارات وأعرقها : مصر مقرا ً ، وشيد بها مدينةَ الإسكندرية لتكون عاصمة ً لدولته هذه العالمية المقترحة .
بيد أن مشروع الإسكندر ما لبث حتى أخفق . لماذا ؟ لأن أدواته كانت عسكرية ً تقتل لا سياسيةً تحاور. وفيما بعد سوف يتكرر حلم الإسكندر في كل المشروعات الإمبراطورية التالية له ، والتي برهنت بنفس الطريقة على فشل الإجبار في توحيد الشعوب وإقرار السلام العالمي.
على أن الإسكندرية المدينة ظلت تكافح ثقافيا ً لكي تبقى كما كانت يوم ُولدت رمزا ً للمدينة العالمية Cosmopolitanالتي تفتح ذراعيها لجميع الأجناس والأعراق والأديان والعقائد والمذاهب ، دون إقصاء لأحد . وقد تمثل هذا الكفاح الثقافي في قدرتها الجيبوليتكية على احتواء الفاتحين الإغريق لدرجة أنهم أطلقوا على أنفسهم اسم " السكندريين" بينما كانوا قائمين – في القرن الثاني ق. م -على تشييد مكتبة الإسكندرية العظمى ومجمعها العلمي :"الموسيون" .وثانيا ً بنجاحها في إطلاق حوار الفلسفة مع معطيات الدين المسيحي بجهود السكندري الصعيدي" أفلوطين"( ت 270 م ) مما رفع المستوى الفكري عند المتدينين من ناحية ، ومن أخرى ساعد الفلاسفة على مقاربة الطرائق العاطفية لدى معظم الناس . وفيما بعد أيضا ً سنرى كيف تألق العرب المسلمون في عصورهم الزاهية بحوارهم مع هذه الأفلاطونية المحدثة (التي مزجت بين فلسفات الإغريق الكبرى: المشائية والرواقية والأبيقورية ) وذلك حين شرعوا في إبداعهم لعلم الكلام ، ثم الفلسفة الإسلامية الأنضج.
ولقد كان لحفاظ الإسكندرية على المستوى الرفيع في البحث العلمي بمجالات الفلك والطب بجانب الرياضيات حتى بعد احتلال الرومان لمصر ، أثره فيما تمتعت به من منح حاكمها لقب " نائب الإمبراطور" بالإضافة إلى احتكارها لصناعة الورق بحوض البحر المتوسط، وازدهار صناعاتها الطريفة الأخرى مثل الزجاج والمجوهرات الذهبية والفضية والروائح العطرية وأدوات الزينة فضلا عن صناعة النسيج ، الأمر الذي دفع بأرباب الحرف هذه إلى إنشاء النقابات سابقين بذلك أوربا بنحو 1000 عام !
طور الاضمحلال
بيد أنه ومع انقسام روما إلى إمبراطوريتين غربية وشرقية ( بيزنطية ) واحتدام الصراع الديني بين اليهود والكنيسة ، والصراع السياسي بين الكل وسلطة الاحتلال ؛ كان طبيعياً أن ينكمش النشاط الاقتصادي ومن ثم العلمي للمدينة وأن يستمر هذا الانكماش حتى بعد الفتح الإسلامي لمصر لإصرار الخلفاء والولاة على محاولة نزع الطابع الكوزموبوليتاني عن الإسكندرية لأسباب محض ثيولوجية متوهمة ، وأسباب مذهبية محتدمة مابين العباسيين والفاطميين من القرن التاسع الميلادي والقرن الحادي عشر، علاوة على الجمود الذي حاق بمصر جميعا ً في العصرين المملوكي والعثماني وحتى قدوم الحملة الفرنسية. التي كانت مقاومتها واجبا ً وطنيا ً لا مندوحة عنه .
النهضة من جديد
كانت مقاومة تلك الحملة واجبا ً وطنيا ً لا مندوحة عنه ، ولكن ذلك لم
يمنع المصريين أن يفتحوا عيونهم على ما يجرى في أوربا من تقدم علمي وتقني هائل. ولهذا وبعد سنوات قلائل من خروج الحملة،وحين شيد محمد على الترسانة البحرية بالإسكندرية بجانب توسيع وتحديث مينائها الغربي ؛ ُاعتبر ذلك إيذانا ً باستعادة المدينة العريقة لمكانتها كعروس للبحر المتوسط حيث اجتذبت إليها النابهين من بلدان أوربا ليشكلوا فيها الجاليات المقيمة ، وليجددوا بين سكانها ثقافتهم الأولى : القبول بالآخر المختلف ، ومن هنا نفهم كيف ارتفع معدل الزيادة السكانية السنوي بالإسكندرية إلى21% خلال القرن 19 مقارنة بمعدل الزيادة في مصر كلها وهو 1.75 % ( كتاب غرفة الإسكندرية التجارية 1949) ولهذا لا يستغرب أن تولد صناعة السينما في مدينة الإسكندرية عام 1917 حيث أنتجت أول فيلمين مصريين بإخراج محمد كريم ،أضف لذلك إنشاء جامعة فاروق الأول 1938 ليكتمل بهذا كله ترسيمها عاصمة ثانية للبلاد ومقرا ً صيفيا ً للحكومة في العهد الملكي .

الناصرية والتهميش الثاني
بانبثاقه عن قوى العسكرتاريا أدرك نظام يوليو ألا مناص من اعتماد المركزية المطلقة وسيلة للبقاء ، وعليه فقد لجأ إلى تعطيل الدستور وإلغاء الأحزاب ( عدا الأخوان المسلمين حلفاءه الأُول ) ليقطع الطريق على كل من يسعى لتداول السلطة، مكرسا ً العمل السياسي للموالين له دون غيرهم .
ومرة أخرى تخضع الإسكندرية لمتطلبات السياسة فيتم تهميش دورها الحضاري والثقافي بشعار العروبة ورفض " الأوربة " Europization ويتم إضعافها سياسياً – بطيش من السلطة - بعد أن كشفت محاولةُ الأخوان اغتيالَ ناصر (في ميدان المنشية 1954) عن إستراتيجية حلفاء الأمس باتخاذ الإسكندرية مقرا ً لحكومة ظل ، ومعقلا ً لتفريخ الكوادر، بعيدا ً عن أنظار السلطة المركزية بالقاهرة .. تلك الإستراتيجية التي لم تتغير إلى اليوم بالرغم من تعرض أصحابها للضربات تلو الضربات ، خاصة على يد عبد الناصر الذي أشرف على تصفية رموزهم سياسيا ً بل وجسديا ً .
ولأن التيارات الدينية – بما هي متجذرة في الوجدان الإنساني – تشبه طائر الفينيق الذي ينهض حيا ً بعد كل احتراق ؛ فإن جماعة الأخوان ما لبثت حتى عادت للساحة السياسية حيث خطط الرئيس السادات لتوظيفهم في ضرب الناصريين واليساريين فانتهي مقتولا ً بأيدي جماعة أخوانية منشقة ، وانتهوا هم إلى السجون والمعتقلات مرة أخرى ، وحين أخرجوا منها في أواخر الثمانينات – بعد إعلانهم نبذ العنف – راحوا يطوعون إستراتيجيتهم لتكتيك جديد ذكي يضمنون به إعادة إنتاج الكوادر كل جيل ، ذلك هو الدفع بأبنائهم وأبناء المتعاطفين معهم إلى كليات التربية لا سيما جامعة الإسكندرية ليتخرجوا مدرسين بالمراحل التعليمية المختلفة ، وما من شك في قدرة المدرس على التأثير في النشء . وهكذا دفعة بعد دفعة امتلأت ساحة الجامعات بالشبان ذوي الميول الأخوانية ، بينما راحت الجماعات الأكثر تطرفا ً "تشتل" من المزرعة كيف شاءت . ولما كانت الإسكندرية هي المقر البابوي والمدينة المصرية الأولى في عدد الأقباط ، وفي نفس الوقت هي المدينة التي اختيرت منذ الخمسينات لتكون عاصمة حكومة الظل الأخوانية ؛ فلقد عمدت التيارات الدينية من الطرفين إلى عجم عود بعضها البعض بين الحين والحين : ميكروفونات المساجد تغمز وتلمز وتكفر عباد الصليب ، يقابلها مسرحيات تؤلف وتمثل بالكنائس تطعن في (وتسخر من) رموز الإسلام ، ومقابل " طظ في مصر" لمهدي عاكف نجد من يروج بين الأقباط القول بأن مسلمي مصر عرب مكانهم الطبيعي الحجاز! والنتيجة صدامات يسقط فيها بين الفينة والأخرى قتلى وجرحي ، نفور متصاعد ، واستقطاب متزايد لا يدري أحد على وجه الدقة كيف ينتهي . وبين الطرفين تقف الإسكندرية شاحبة ترتعد ، فلا هي قادرة على ابتعاث طبيعتها الأولى وثقافتها الراقية الرفيعة ، ولا هي راضية بأن تقاد إلى هذا الدرك المؤلم الذي يجبرها على أن تكون معقلا ً للسلفيين والمتطرفين .
ما الحل إذن ؟ الديمقراطية هي الحل ما في ذلك شك . ولكن تلك قصة أخرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حتى أنت يا دكتور مهدي
عبد المذلّ ( 2010 / 4 / 13 - 14:52 )
تعليقي بنفس اسم تعليق السيد خليل قلادة المحذوف الذي لم أقرأه بالطبع لكنني أكاد أجزم بأنه لاحظ بأسف مساواة المسيحيين بنشاطات الإخوان والجماعات العنيفة

لا أظن أن الأستاذ مهدي كتب ذلك محاولة منه للظهور بالحياد بل أعتقد أن هذا هو ما يؤمن به بالفعل

لا يبقى لي سوى الأسف على حالنا وحال مثقفينا الذين اعتقدنا بانفتاح مداركهم و أملنا بهم خيرا فخذلونا


2 - المسيحيون ليسوا ملائكة
أحمد خلف الله ( 2010 / 4 / 13 - 20:37 )
راعني حذف الموقع لتعليق الأستاذ خليل قلادة ما بشي بخروج المعلق على أدب الحوار ، ولا عجب فالمسألة كما رصدها الدكتور مهدي مسالة تطرف من جانب يستدعي تطرفا مضادا من الجانب الآخر وكان الأجدى بأصحاب التعليقات السابقة مناقشة القضية موضوعيا وليس اتهام الكاتب أو تعنيفه أو حتى تقبيل رأسه . متى نتعلم أصول الحوار يا ناس؟


3 - هل نحن عقلاء؟.
محمد البدري ( 2010 / 4 / 14 - 19:27 )
انا ضد حذف التعليقات طالما لم تسب الاشخاص او تقول بالفاظ نابية. فالفكرة تستحق كل نقد طالما هي قاسية لا لسبب سوي ان العقل سيكون هو ضحية الف كرة الخاطئة المستحقة للتفنيد والتكذيب، فيالها من خسائر نسببها لانفسنا ضمن ثقافة لم تنقد نفسها يوما. بداية فان انتشار السلفية والاصولية وتخريب المدن الحضارية سببه اننا نقول باننا عرب وعليه فلا مكان للدين في عقولنا الا بالاسلام. وهذه اول الاثافي. وثانيها اننا نقدس الاديان رغم انها جميعا ضد ارض مصر وشعب مصر منذ الفراعنة وفي نفس الوقت نؤمن بها، فهل من ينتحر باعقل منا؟ اما ثالثة الاثافي في اننا نشهد كيف كشف لنا العلم الحديث مدي زيف وكذب الاديان علينا اضافة لما كشفته العلوم الاجتماعية من تخلف العرب وبداوتهم ولا نريد ان نتحرك لانقاذ مصر من انفسنا ومن الاديان ومن العرب. تبقي المصيبة الرابعة الا وهي الردح للغرب والعالم المتحضر بحجج بالية اكل الدهر عليها وشرب حفاظا علي جهلنا بانفسنا وعداؤنا له الذي له اساس في الاسلام.


4 - تعليق على ما ذكره الدكتور محمد البدري
مهدي بندق ( 2010 / 4 / 14 - 20:13 )
في تقديري أن الموقف من الغرب لا يتمحور حول العداء الديني ، وحتى الحروب الصليبية كانت ترتكز على علاقات القوة ومطالب الثروة . اليوم نرى الغلب بقيادة أمريكا تعادي الشعب الفلسطيني في صراعه بالضد على محتله( إسرائيل) ليس لأن الفلسطينيين عرب أو مسلمين ولكن لأن ابتلاع فلسطين بالمعنيين المادي يؤديان إلى إخضاع المنطقة بأسرها لمشاريع التقسيم والتجزئة ولعلك تذكر ماجرى لمحمد على من بريطانيا وفرنسا بينما الرجل لم يزعم يوما أنه عروبي أو أنه يحارب لمجد الإسلام . الإستراتيجيات الدولية تستخدم المحكيات الكبرى كغطاء أيديولوجي لمصالحها المادية ، وهو ما ينبغي الالتفات إليه من البداية


5 - فعلا هذه هي السياسة سيد مهدي
داليا علي ( 2010 / 4 / 14 - 20:29 )
فعلا هذه هي لعبة الامم والمصالح ولا يهم اصحاب المصالح لا دين ولا غيره المهم القوة والثروة والاخضاع التام للاخر

اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا