الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقائع يوم نرويجي

عبدالباسط سيدا

2010 / 4 / 14
سيرة ذاتية


قبل أسابيع كنت في زيارة سريعة لأوسلو، وذلك للمشاركة في أعمال ندوة عُقدت في البرلمان النرويجي يوم الأربعاء المصادف لـ 17-3-2010 تحت عنوان المسألة الكردية والجينوسايد، كانت الندوة بمبادرة من بعض الأحزاب النرويجية وبالتعاون مع عدد من المنظمات والجمعيات الكردية في النرويج.
وصلت قبل الندوة بساعات، وكان عليّ أن أغادر باكراً في صباح اليوم التالي لمقتضيات العمل؛ وهذا فحواه أن الساعات القلائل التي سأقضيها في أوسلو ستكون سريعة، حافلة بلقاءات مع أصدقاء وأخوة أعزاء، استمتع عادة برؤيتهم أو معرفتهم؛ أستفيد من نظرتهم إلى المسائل وطريقة تناولهم لمختلف الموضوعات وذلك أثناء أحاديث ودية، تكون سريعة عادة، لكنها غالباً ما تكون مكثفة، تقدم لمن يرغب الكثير من الملاحظات التي يمكن توظيفها، أو البناء عليها في سياق مقاربة أو معالجة هذا الموضوع أو ذاك.
اُستقبلتُ في المطار من قبل أخوين عزيزين بود كردي أصيل ، تحدثنا في موضوعات مختلفة ونحن نتابع طريقنا نحو أوسلو التي كانت في يوم ما مع كل البلاد جزءاً من السويد، ثم انفصلت عنها بكل ود وأريحية قبل أكثر من مائة عام ؛ مع أن الثقافة واللغة والبيئة بنسقيها الطبيعي والاجتماعي هي ذاتها تقريباً، ما عدا تفصيلات طفيفة نشهدها بين الحي والآخر، بين المدينة والأخرى، بين المنطقة وغيرها في كل دولة من دول العالم.
كنت مرهقاً للغاية، إذ كنت قد عملت في اليوم السابق إلى التاسعة ليلاً، وقضيت ساعات ما قبل منتصف الليل في ترتيب أوراقي وحقيبة السفر السريع. ويبدو أن الأخوين الكريمين كانا مدركين للوضع، لذلك اقترحا علي أن أرتاح ولو لساعتين، على أن نلتقي ثانية لنقوم بزيارة مجموعة من الشباب الكرد السوريين الذين كانوا قد أعلنوا إضرابا مفتوحاً عن الطعام، احتجاجاً على قرار سلطات الهجرة النرويجية القاضي بإعادتهم إلى سورية حيث ينتظرهم مصير مجهول.
نلت قسطاً من الراحة في الفندق، وألقيت نظرة أخيرة على المحاضرة التي كنت سألقيها؛ أعدت ترتيب أفكاري ليتناسب حديثي مع الوقت المخصص لي. رنّ جرس الهاتف معلناً وصول الاخوة الذين سأذهب وإياهم لزيارة شبابنا، ومن ثم نتوجه معاً إلى البرلمان للمشاركة في أعمال الندوة المشار إليها.
كان الطقس ربيعياً مقبولاً وفق المقاييس الاسكندينافية، الأمر الذي أضفى مسحة من التفاؤل على المشاهدات واللقاءات.
انتهت الندوة وسط ارتياح عام من قبل الجميع، وتمكن المحاضرون من تقديم عرض موضوعي هادئ لمعاناة الشعب الكردي في مختلف أجزاء كردستان بأسلوب علمي مقنع، كان موضع تفهّم وتقدير النرويجيين الحاضرين من أعضاء البرلمان وغيرهم. فقد اعترف العديد من هؤلاء بأنهم قد استفادوا كثيراً من الندوة؛ وقد سمعت من الأحاديث الجانبية بعد الندوة شهادات مباشرة من بعض النرويجيين الذين قالوا بأن تصورهم حول حقيقة معاناة الشعب الكردي في سورية قد بات أكثر غنى ووضوحاً. حتى أن أحدهم قال لي بالحرف: لم أكن أعلم في السابق أن الكرد في سورية يتعرضون لكل هذه المعاناة الظالمة التي لا مسوّغ لها.
بعد الندوة، كان علينا الانتقال إلى منزل أحد الاخوة من كردستان إيران الذي كان قد أصرّ على استضافتنا، أنا ومجوعة من الاخوة الكرد السوريين، بالإضافة إلى بعض النرويجيين إلى جانب بعض الاخوة من كردستان إيران. الجلسة كانت مفعمة بالود الدافئ، والاحترام غير المتصنع، إلى جانب المناقشات الجانبية التي تناولت موضوعات شتى تخص الشعب الكردي في إيران وسورية، والجالية الكردية في أوربا، ومستقبل الأوضاع في إيران انطلاقاً من التطورات المتفاعلة هناك؛ هذا بالإضافة إلى موضوعات أخرى عامة تبرز عادة في مثل هكذا مناسبات من دون أية مقدمات.
الوقت كان يمر بسرعة، وكان علينا أن نلتقي مجدداً مع الشباب المضربين عن الطعام، إلى جانب أصدقاء آخرين كانوا قد انضموا إليهم - على الرغم من تأخر الوقت- في صالة كبرى قدمتها لهم منظمة نرويجية اجتماعية، ليناموا ويستريحوا فيها.
ودّعنا مضيفينا، وشكرت بصورة خاصة سيدة البيت التي كانت قد أعدت مطبخاً شهياً من مختلف أنواع الأطعمة التي يشتهر بها كرد كردستان إيران، وكانت طريقة التقديم تنم عن ذوق أكيد، بل تُفصح عن فن رفيع، يأسر المتلقي المتفاعل من دون أي تكلف أو عناء.
والتقيت مع الاحوة المضربين عن الطعام مجدداً. شباب في عمر الزهور، غادروا الوطن على الرغم من إرادتهم، بعد أن انسدت الآفاق أمامهم؛ يبحثون عن مستقبل ضبابي المعالم. مازجتهم - وأنا أعني موضوعاً على غاية الجدية- قائلاً: نحن الآن أمام مشكلة؛ تخرجون جميعاً وتتركون الصبايا هناك، ما العمل؟
ضحك بعضهم، وابتسم بعض آخر، في حين أن قسماً لافتاً لاذ بصمت يعتصر الألم. قال لي أحدهم بعفوية مع ابتسامة: إنهن في الطريق. وقال آخر: سنأتي بهنّ؛ وعلق آخر: لن ننساهن.
وحينئذ أدركت أنني قد لامست وتراً حساساً، ربما أضاف عذاباً آخر إلى العذابات الأخرى المتسلطة على هؤلاء الشباب واليافعين الباحثين عن المستقبل استناداً إلى تجربة لم تكتمل بعد؛ لذلك رأيت ضرورة تغيير مجرى الحديث.
كان علىّ أن أغادر؛ فالساعة كانت في حدود الواحدة والنصف صباحاً؛ وسأنطلق نحو المطار في الرابعة والنصف. أي لم تكن أمامي سوى ساعات ثلاث اخصصها للنوم والاستعداد للعودة إلى السويد حيث ينتظرني العمل في العاشرة صباحاً. تفصيلات وقتية صارمة تثير الرعب في الزيارات السريعة؛ لكن اللقاءات الودية، خاصة مع الشباب تمنحني ادرناليناً أتمكّن بفعله من تجاوز تبعات الإرهاق ومنغصاته. ودّعت الشباب والرأس متخم بدوّامة من الأفكار؛ فلكل واحد منهم حكايته، بل روايته؛ روايات لو كتبت بحرفية وصدق في يوم ما، فإنها ستضيف من دون شك إلى الأدب الإنساني بُعداً لم يشهده من قبل، بُعد يتمحور حول فصول منسية من معاناة مستمرة يعيشها الكرد السوريين، لا لذنب اقترفوه سوى الانتماء القومي.
نهضت من السرير في حدود الرابعة صباحاً قبل أن يوقظني موظف استقبال الفندق، رتبت أمتعتي على عجل، وبت جاهزاً للتوجه إلى المطار، وفي الرابعة والنصف تماماً جلست إلى جانب سائق سيارة الأجرة (التاكسي)، لننطلق في شوارع أوسلو التي لم تكن قد استيقظت بعد، بين صمتي وصمت السائق، كنت أعيش صيغة من صيغة المناجاة الداخلية مع معالم المدينة؛ وكم كنت أتمنى لو كان لدي الوقت الكافي لأتجول سيراً على الأقدام في هذه الساعات الصباحية - وهو ما أفعله عادة في زياراتي المختلفة- لأتعرف على الأماكن؛ أمعن النظر فيها؛ أقارنها بأماكن أخرى، خاصة تلك العزيزة النائية؛ أحاول الوصول إلى ما يُعبر عن شخصية مبدعيها، وأتخيل لنفسي طريقة تفاعل الأجيال السالفة وتلك اللاحقة مع الأمكنة ذاتها التي يعيش المعاصرون في أحاضنها، يستمتعون بجماليتها أحياناً، ويغرقون في رتابة الحياة اليومية أحياناً أخرى؛ أو ربما ينكمشون على ذواتهم، ليغدو عالمهم الداخلي بقلقه وأرقه وهواجسه، بأحلامه وتوقعاته وطموحاته ملاذهم الذي به يحتمون، ويهملون المكان الذي يحتضنهم جميعاً من دون أي تمييز.
كان صاحبي يقود السيارة بصمت، لا أعلم ما إذا كان قد تفهّم حالتي، وهو الخبير بالمسافرين، خاصة أولئك الذين يتركون المدينة على عجل في ساعات الصباح الأولى.
لم أشأ الاسترسال في الحوار مع الأمكنة التي تظل من دون البشر الأحياء مجرد أطلال تثير الذكريات، وتعذب النفس، وتقطع الطريق على المستقبل؛ لذلك قررت الدخول في الحديث مع صاحبي السائق، وعملت مع النصيحة السويدية التي تقول: إذا أردت أن تقترب من شخص غريب فابدأ الحديث معه عن أبعد الأشياء.
تحدثنا حول الطقس والبيئة الطبيعية في النرويج. ثم تشعب الحديث ليشمل الأوضاع العامة في العالم. حينئذ وجدت أنه من المناسب أن أسأله عن بلده الأصلي؛ فمع أنه كان يتحدث النرويجية بطلاقة واضحة من دون أية لكنة ظاهرة؛ لكن ملامحه توحي بأنه من منطقتنا، ولم يكن توقعي في عير محله؛ فهو من أصل تركي، ولد في النرويج، وتزوج من نرويجية؛ لكنه لأسباب معينة افترق عن زوجته ، وقرر توثيق الصلات مع وطنه الأول الذي يرغب باستمرار السفر إليه، ويفتخر بتاريخه وحضارته؛ ويعشق أسلوب أهله في الحياة.؟
قلت لصاحبي - وليكن اسمه نصرت-: ألا تفكر في الزواج مجدداً؟ ما رأيك أن تتزوج هذه المرة بإنسانة من بلدك الأول؟ ربما كان زواجك أكثر استقراراً طالما أنك تعشق وطنك الأول إلى هذا الحد.
لم أكن أعلم أنني لحظتها قد دخلت حرمة البوح المقدس في عالم نصرت؛ بدا لي وكأنه أغمض عينيه، ليكشف عن المستور الأثير لديه؛ لكن السيارة كانت تواصل تحركها بثقة من دون أي اضطراب، الأمر الذي مكنني من متابعة حديث نصرت بالتركيز ذاته.
قال لي من دون أية مقدمات: لقد وجدتها. كنت أعرفها منذ أيام الشباب؛ التقيت بها في تركيا؛ كانت القبلة الأولى لي، وأنا واثق بأنني كنت كذلك بالنسبة لها؛ فهي التي أخبرتني بذلك، وأنا أصدقها تماماً؛ والدي كان سعيداً بمشروع حبنا؛ ولكن لا أعلم لماذا افترقنا؟ قد يكون الباعث هو نزق الشباب وطيشه، لا أعلم؛ افترقنا وسرنا في طريقين مختلفين؛ انقطعت أخبارها عني تماماً؛ تزوجت نرويجية وأنجبت منها؛ ولكنني كنت أشعر تماماً بأنني لم أجد ما تتوق إليه روحي؛ لم تكن هناك من مشكلات تذكر في حياتي، سواء من جهة العمل أم البيت أو العلاقة الزوجية؛ ولكن مع ذلك كنت أتعطش لشيء مفقود مبهم المعالم، الأمر الذي حول حياتي على فراغ قاتل؛ وكان الطلاق هو الحل في منظوري. افترقت عن زوجتي بود؛ لم يجرح أحدنا الآخر لإدراكنا بأن علاقتنا كانت تفتقر إلى الرابط الوجداني الذي أعجز عن وصفه.
كنت في الأثناء أتأمل الطبيعية النرويجية الجميلة المتدثرة برمادية لحظات الصباح المنفتحة على جميع الممكنات؛ كما كنت أتابع في الوقت ذاته ما يبوح به نصرت بسلاسة متدفقة كلمة بكلمة، واسترق السمع إلى ما بين الكلمات الذي يكون أحيانا أكثر تعبيراً من الكلمات ذاتها؛ كنت متيقناً - من دون أن أدري لماذا- أنه يعبر عن مشاعره بصدق. إنها لحظة مصارحة وجدانية، وفي حالات كهذه يعجز المرء عن التحوير أو المواربة، بل يصبح أسيراً للحالة ذاتها، يتحدث بلسانها، ليغمر الميدان طيف قوس قزحي منه يستمد توازنه الكياني، وبفضله يتمكن من الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي طالما أنهكته من الداخل.
وتابع نصرت قائلاً: كان وضعي بعد الطلاق صعباً للغاية، فقد عشت حالة فراغ قاتل؛ وفكرت ملياً فيما آل إليه وضعي، وقررت بيني وبين نفسي أن أبحث عن زوجة من تركيا، أتشارك وإياها الثقافة ذاتها، نخطط معاً للانتقال إلى بلد الآباء والأجداد؛ فأنا على الرغم من أنني قد وُلدت هنا لم أعد استسغ حياة هذه البلاد: عمل متواصل، وضغط نفسي هائل، وفواتير لا تنتهي؛ لا مجال لالتقاط الأنفاس، لا فرصة للتمتع بجمالية الطبيعية، برودة في الطبيعة والعلاقات الإنسانية، وفوق كل هذا وذلك ظلام دامس في معظم أوقات السنة.
ثم تغيرت نبرة صوت نصرت، حتى أنني اعتقدت بأنه قد انتقل إلى عالم آخر يحلّق فيه نحو الأعالي؛ ولكن - ولحسن الحظ- كانت السيارة ما تزال واثقة من نفسها، تمنحني الطمأنينة بأننا سنصل إلى المطار في الوقت المناسب.
لم أعد لحظتها أعرف ما إذا كان نصرت يخاطبني أم يخاطب نفسه، أم أنه كان مرغماً على البوح ليتحرر من عبئه الداخلي، لكنه على أي حال استرسل في الحديث متابعاً: لقد ظهرت من اللامكان، من المجهول من دون أي توقع أو تمهيد. تخيل أنني قابلتها هنا في أوسلو بعد ستة عشر عاماً من الانقطاع التام . كنت أجهل أي شيء عنها. وأخيراً التقيت بها، كانت محطمة. لقد عانت كثراً من زواجها الأول مع أحد الأتراك، لقد عذبها كثيراً لمدة ثمانية أعوام، حتى تمكنت أخيراً من تركه مع أنها كانت قد أنجبت منه؛ ثم تزوجت للمرة الثانية من شخص من المغرب، الذي لم يكن أفضل من زوجها الأول، عذبها هو الآخر، أهانها كثيراً. يا الهي كم تعذبت، لقد أخبرتني بتفاصيل حياتها. أصدقها تماما، لقد تألمتُ كثيراً عندما علمت بمعاناتها؛ لكن حبنا قد أينع ثانية، سأعوضها عن كل شيء؛ كان العتاب متبادلا وقاسياً بيننا، لكنه كان ضرورياً للبدء بحياة جديدة سعيدة نخطط لها؛ هي معمارية، لديها ثروة لا بأس بها تركها لها والدها؛ وأنا أيضاً إمكانياتي مقبولة، سنتعاون معاً، ونبني شركة في تركيا، سنستمتع بحياتنا من جديد.
وصلنا إلى المطار؛ وبعد أن ناولت نصرت أجره، تمنيت له كل التوفيق في حبه القديم-الجديد، وقلت له: إياك أن تتركها هذه المرة. قال لي بثقة نادرة، وكأنه كان يتوقع مني هذا الطلب: أبداً! إنها معجزة ربانية لن أفرّط بها، لأن الله لن يتذكرني مرة أخرى.
توجهت إلى قاعة المغادرين، منهك الجسم، لكن الذهن كان متقداً، يتأمل في ثنايا حكاية نصرت، وفجأة وجدتني أفكر في شبابنا المضربين عن الطعام، تُرى كم حكاية "نصرتية" سنسمعها منهم في قادم الأيام...؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حس روائي
الفرقان ( 2010 / 4 / 14 - 21:54 )
والله يادكتور عبدالباسط لديك حس روائي وسردي آخاذ، وبدون مجاملة ها. ارى ان تثمر هذا الحس وتستغل الربيع والصيف والجو المشرق في كتابة رواية جميلة لنا عن عامودا وقامشلو ودمشق والنرويج. اضافة جديدة الى المكتبة الكردية. لتكن الرواية بالعربية لاباس. انت تعرف ان السياسة مضيعة للوقت وبالذات في حال اكراد سوريا ومع وجود احزابهم الخلبية الفاشلة وعقليتهم الكلاسيكية غير المنظمة. شباب ياتون للهجرة ويصومون حتى الموت لنيل اللجوء، ومن ثم يـظهرون البطولة ويعلنون عن وفائهم ونيتهم استجلاب البنات من الوطن لهون. ايه شو هاي الوطنية والنضال؟

تحياتي لك ولاتنسى الرواية ها

اخر الافلام

.. استمرار التظاهرات الطلابية بالجامعات الأميركية ضد حرب غزّة|


.. نجم كونغ فو تركي مهدد بمستقبله بسبب رفع علم فلسطين بعد عقوبا




.. أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يبحث تطورات الأوضاع


.. هدنة غزة على ميزان -الجنائية الدولية-




.. تعيينات مرتقبة في القيادة العسكرية الإسرائيلية