الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
اللعب في زمن التهافت
بدر الدين شنن
2010 / 4 / 14الادب والفن
بعد جولته الصباحية المعتادة على المرضى , دخل بكر غرفته ليستريح . لم يجلس خلف مكتبه ، ولم يتمدد على السرير ، وإنما اتجه إلى النافذة المطلة على فناء المشفى . ولما ا ستقر بصره على حوض من الزهور ، وجد نفسه منجذباً ، إلى متابعة بضع فراشات وهي تحوم .. وتتراقص مابين الزهور ، مشكلة لوحة ربيعية رائعة ، أبعدته مسافة دقائق عن واقع حزين يحز في نفسه ، وقاطعة حواراً كان يدور في داخله حول أمور أثارها المريض الذي جاؤا به منذ أيام ، أمور كان قد ابتعد عنها منذ زمن ، بعد أن أيقن أنه لايمكنه التعاطي معها ، وأن مهنة الطب قد تعوضه عن أي دور آخر في الحياة . وتمنى لو كان عنده وقت ليقطف زهرة جميلة قبلتها فراشة عابثة ، وذهب بها إلى لمياء .. أو " إليه " ..
وهو في غمرة الانسجام مع الجو الربيعي الذي لايحظى به إلاّ نادراً ، اقتحمت مجموعة مسلحة من الرجال غرفته ، وقلبت مشاعره .. شدته إلى حالة من الارتباك .. والانفعال .. والرعب ، وأحس بخلل يسري في كيانه كله . لكن فكرة أنهم مخطئون بمجيئهم إلى غرفته ، أعادت إليه بعض الاطمئنان والتماسك .
وقبل أن ينطق بكلمة قال أحدهم :
- تفضل .
سأل مستغرباً :
- إلى أين .. من أنتم .. ؟ ..
رد أحدهم :
- إخرس .
- لكن .. ألم تخطئوا بالغرفة .. أتعرفون من أنا ؟ .. أنا الدكتور بكر ..
- لا.. لم نخطيء .. ونعرف من أنت .. كفى " علاك " ولاكلمة .. هيا .
- إلى أين .. ماذا فعلت ؟ .
ولما كان يهم أحدهم بتقييد يديه خلف ظهره ، وكان آخر يقوم بتفتيشه ، سألهم مرة أخرى :
- ماذا فعلت .. من أنتم ؟ .
أجاب من يبدو أنه رئيسهم زاجراً بكر بقسوة :
- ولاكلمة .
- لكنني أريد أن أعرف .. من حقي أن ..
فأمسك أحد المسلحين بعنقه ، وهز قبضته الخشنة بوجهه مهدداً وقال :
- " ولك " مابتفهم .. وكلمة .. وإلاّ سنجرك مثل الكلب أمام الناس .
اضطرب بكر .. أحس بالإهانة .. لكنه ظل متماسكاً . وا ستسلم لهم .
اقتادوه في ممرات المشفى وسط ذهول وذعر عدد من الأطباء والممرضات والمرضى . ولما وصلوا به إلى السيارة التي ستقله ، وضعوا عصابة على عينيه ، ووضعوه فيها كشيء تافه من الأشياء .
خلال وقت ليس بكثير ، وصلوا به إلى مكان ما . ا ستخدموا المصعد في نقله إلى حيث يريدون .. ربما صعدوا به إلى فوق ، أو نزلوا به إلى تحت . ساروا به عبر ممرات متعددة . حتى سمع أحدهم يقول .. قف .. فتوقف . ثم سمع حركة فتح باب حديدي . ودفعوه كي يمشي . بعد بضع خطوات أدرك أنه أدخل إلى مكان غير عادي ، وحدس من الروائح الكريهة الخانقة ، أنه صار في مكان ما تحت الأرض . وضغطت يد على كتفه بمعنى توقف .
لم يفهم عما يتهامس بعض الرجال من حوله . لكنه توقع أن يكون هو الذي يدور حوله الهمس . خاف .. فكر .. لابد أنهم يضمرون له شراً . بعد ثوان كأنها ساعات .. نزعوا العصابة عن عينيه .. وأمروه أن يدخل إلى مكان . وأغلقوا عليه الباب .
وحيث صار بكر ، كان الظلام يشل البصر . لم يكن هناك ثقب أبرة ينفذ منه ضوء . تحرك عفوياً إلى الوراء ارتطم بجدار . تحرك شمالاً جدار .. يميناً جدار . حاول أن يخطو إلى أمام اصطدم بالباب . ومن تحركه المحدود تعرف بقدميه على أرض المكان . قدر أنه في مرحاض .. أو ما يشبه المرحاض . أزعجه ذلك كثيراً . وبدأ يفكر كيف يمكن أن يتعامل مع المكان . لكن الروائح الخانقة بدأت تثير الغثيان في نفسه ، وتتسلل عبر حاسة الشم إلى رئتيه ومعدته . ثمة أمر آخر لم يلبث أن هيمن عليه ، هو مفعول الظلام ، الذي أخذ يتغلغل إلى أعماق نفسه ، والذي أطلق العنان لهواجس وتداعيات راحت رغماً عنه ، تتحول إلى ضعف حقيقي .. وإلى خوف .
وساعة بعد ساعة تعب من الوقوف ، فجلس القرفصاء .. تعب من الجلوس متكوماً على نفسه فنهض .. ثم قرفص ثانية .. وثالثة .. وأعياه الجلوس والنهوض . ثم أخذ يتساءل ، ما الذي جاء به إلى هنا .. ؟ لقد تهرب طيلة حياته من الأحزاب والسياسة ، خاصة بعد أن رأى ماذا تفعل السياسة بأصحابها ، سواء الذين في السلطة حيث الجشع والفساد والانعزال ، أو الذين يعارضون حيث مآلهم السجون والعذاب والفناء خلف القضبان .
وتحركت بداخله الرغبة بقضاء الحاجة .. مغصت أمعاؤه .. ضغطت مثانته . وتزايد المغص والضغط إلى درجة لاتطاق .. إلى حد وجد نفسه أنه لايمكن إلاّ أن يقضيها . دق على الباب مرات .. ومرات .. لامن مجيب . وا ستدرك .. أليس هو فيما قدر أنه في مرحاض . وعملها في مكانه .. في مكان قدر أنه فتحة المرحاض . وارتاح قليلاً . إلاّ أن الروائح الكريهة تصاعدت حوله بصوة ضاعفت لديه الإحساس بالغثيان . وراح يفكر بالضبط أين عملها كي لايجلس فوقها . كل ذلك دفعه إلى أن يتمنى الخلاص من هذا الوضع بأي ثمن ، وبأ سرع ما يمكن . ورسمت أمنياته المخارج المحتملة . إنهم سيفرجون عنه مع الاعتذار ، حين يعرفون أنه طبيب مستقيم وصاحب ضمير وخلق في عمله ، وأنه ليس من أولئك الذين يزعجونهم ، ثم بدأ يسترق السع .. لعل أحدهم يمشي قرب الباب .. لعلهم يأتون ليخرجوه من هذا المكان اللعين .
واختلط الليل بالنهار .. وانطلقت في عتمة المكان ، ومن مشاعر الغضب المشحونة بلاخوف ، الصور والتداعيات . واندفعت في مخيلته الأحلام ، التي انبثقت يوماً على مقاعد الدراسة . وفكر ، كم كان غبياً عندما حلم خارج الممكن من الأمنيات . ولكنه تسامح مع نفسه عندما ذكره عقله ، أن الحلم دائماً هكذا وإلاّ لن يكون حلماً . وتذكر أجوبته السخيفة ، يوم سأله أستاذ في الابتدائي ، عما يرغب أن يكون في المستقبل ، فقال ، أريد أن أكون ضابطاً وقاضياً وطبيباً . ولما سأله الأستاذ ، ولماذا اخترت ذلك .. أجاب .. أن أكون ضابطاً لأرد الظلم عن نفسي ووطني .. وقاضياً لأنشر العدالة بين الناس .. وطبيباً لأعالج الفقراء مجاناً . وتمنى ، ساخراً ، لو تتحقق هذه الثلاثية من الأمنيات ، في هذه اللحظة ، ليخرج من هذا المكان الحقير .
ربما كان ذلك صباحاً أو مساء .. حين سمع حركة مزلاج أو مفتاح في الباب . تفاءل خيراً . وهمس لنفسه مرتاحاً .. ألم نحسبها جيداً ؟ . إلاّ أن ما حدث قد ألغى تفاءله . كانت الحركة في الباب مجرد فتح طاقة صغيرة رموا إليه منها رغيفاً من الخبز مع شيء كريه الطعم والرائحة . وأكل الرغيف فقط .
وبعد مرور وقت ثقيل مخيف بلا نوم أو طعام تقريباً ، وجد نفسه بحالة هيستيرية يدق على الباب بكلتا يديه ورجليه .. غاضباً مستاء .. يرجو .. يصرخ .. يتوسل .. يطلب السجان .. يطلب التحقيق معه .. يريد جواباً .. لماذا اعتقل ؟ .. لماذا وضع هنا .. ماذا فعل .. ؟ ثم انهار على ركبتيه . وأنشأ يبكي .. مردداً .. أنا طبيب .. أنا أخدم الإنسانية .. أنا لم أفعل شيئاً .. لم أفعل شيئاً .
* * *
بعد سويعات على انهياره التام ، فتحوا عليه البال .. وقالوا له :
- تعال .. أخرج .
وبعد أن صار خارجاً ، وقبل أن يتعرف على ما حوله ، وضعوا عصابة على عينيه ، وقيدوا يديه وراء ظهره ، وأمسك أحدهم بكتفه وقال له .. امش .. . وأثناء سيره كانت بعض من ضربات الأكف تنهال عل رقبته ، وأوامر متواترة .. امش لاتتوقف .. إلى أن قالوا له .. قف .. وحين توقف دفعوه فوقع أرضاً . وتوالى امتهانه والعبث به .. بالركل بالأرجل وبالصفع على وجهه . ثم جمعوا جذعه ورجليه إلى بعض ، وحشروه مثل القدم في الحذاء داخل دولاب سيارة ، وربطوا رجليه إلى بعض ، وخلعوا عن قدميه حذاءه وجواربه . كان مستسلماً مطاوعاً كالعجين بين أيديهم .. متوهماً أنه بهذا التصرف ، سيتفهمون نمط سلوكياته الذي يمارسه في حياته بعيداً عن أي ازعاج للسلطات ، وأنهم بعد بضع حركات لإزعاجه ، حسب الروتين لديهم ، سيفكون قيوده ، ويسترد حريته . لكنهم بعد أن أحكموا وضعه جيداً في الدولاب انهالوا عليه بالضرب بالكابلات وعصي الخيزران بصورة عشوائية على جسمه كله ، ثم ركزوا على قدميه . باديء الأمر حاول أن يكتم صوته .. أن لايصرخ .. أن يتحمل .. لعل وعسى .. إلاّ أنه لم يتمالك نفسه سوى ثوان محدودات .. ثم انفجر صراخه مثل حيوان جريح مذعور . وشعر أنه يسحق . وأن قيمته كإنسان تمرغ بالأرض .. تداس بالأقدام بسادية متوحشة . وشعر أنه يتحول إلى مخلوق آخر . ا ستجار بالله كي يرحموه .. ا ستجار بأحبتهم .. بأحذيتهم كي يكفوا عن ضربه . لكن الضرب لم يتوقف . ولم يبق له سوى أن يصرخ .. آي .. آي .. آي .. مترافقة مع ايقاع الضرب الوحشي . حتى أيقنوا أنه قد انهار تماماً . وأن رغبة حب البقاء هي التي هيمنت على كيانه وتفكيره ، وأصبح جاهزاً ليرد على أ سئلتهم تلقائياً ، دون توازن أو تفكير .
أول ما سمعه منهم
- تكلم ياكلب .
رد بكر متلعثماً مذعوراً :
- ماذا علي أن أقول .
- كل شيء .. كل شيء .
وجهوا له عدداً من الضربات الموجعة ثم قالوا له :
- تكلم بسرعة يا " ..... " كلمة تقال لإمرأة داعرة .
- لاأعرف ماذا تريدون . ا سألوني عن شيء محدد أرجوكم .. توقفوا عن ضربي لأ ستطيع الكلام .
توقفوا عن ضربه
- حسن .. تكلم عن علاقتك بالسجين الذي أ رسلناه إليكم للعلاج .
- علاقتي به ؟ .
هكذا رد بكر بسرعة وا ستغراب .
- نعم علاقتك به . وعندما تتوجه إلي بالكلام قل سيدي .. مفهوم ؟ .
- مفهوم سيدي .
وتابع بكر يقول :
- لما أحضرتموه منذ أيام .. سيدي .. أمرني رئيس المشفى أن أذهب فوراً مع زملائي الأطباء إلى مكان المريض .. يعني السجين .. سيدي .. لأقدم له العلاج حسب اختصاصي .. وأعتني به جيداً .. سيدي . ذهبت فوجدت السجين المريض .. على حافة الموت .. سيدي .. بسبب أنت تعرفه .. سيدي .. وكتبت له له العلاج وخرجت مع زملائي .
- كيف على حافة الموت ؟ ..
- سيدي .. قلبه ضعيف ، وضغط الدم عنده منخفض جداً . أما قدماه فهما مشوهتان جداً .. لم تعد مثل اقدام الآدميين . وعلى جسمه كله كدمات زرقاء وسوداء . وفي رأ سه عدة جروح كبيرة مازالت تنز دماً . ربما هناك كسر .. أو شعر في عظم الجمجمة . ولأنه شاحب مثل الأموات .. لايقدر على النطق والحركة .
- وأيضاً ..
- احتاج المريض علاجاً متخصصاً في كل المجالات .
- يعني عدة أطباء يشتركون معك في معالجته ؟ .
- نعم سيدي .
- كيف يزور الأطباء المريض ؟ هل يذهبون سوية ، أم أن كل طبيب يذهب لوحده ؟
- في البداية ذهبنا معاً .. وبعد ذلك أصبحنا نذهب حسب الحاجة . أي يذهب الطبيب المطلوب اختصاصه .
- ولماذا كررت أنت زياراتك للمريض أكثر من غيرك من الأطباء ؟ .
- لأن المريض يحتاج أكثر إلى اختصاصي .
- لكنك ذهبت إلى المريض في يوم واحد أكثر من مرة .. وبقيت معه وقتاً طويلاً .. هل تعرفه من قبل ؟ .
- لا .. ياسيدي .. لاأعرفه قبل الآن .
- عما كنت تتحدث إليه عندما تزوره ؟ .
- ليس بيننا ، حسب وضعه الصحي ، أي مجال للحديث . لأنه لايسمع .. سيدي .. بسبب أنت تعرفه .. سيدي .. لأن أذنه اليسرى مغلقة بدم متخثر والأذن الثانية مغلقة بورم كبير . وعيناه لايستطيع أن يرى بهما جيداً ، فالأورام المتحلقة حولهما من جهة الخد والحاجب تحول دون ذلك .. بسبب أنت تعرفه .. سيدي ..
بدا أنه قد أسقط بيد النقيب .. لكنه تجنباً للمسؤولية ، أمعن في الضغط على بكر ، وتابع معه . سأله :
- ألم يتكلم هو معك بطريقة ما ؟ .
- كيف يستطيع ذلك .. سيدي .. وفمه يكاد كل شيء فيه محطم . لم يعد لديه من الفم سوى ثقب وسط مرتفعين من الورم . لايستطيع ابتلاع سوى السوائل .
- ألم يحاول أن يعطيك إشارة ما بيده .. بأصابعه .. مثلاً ؟ .
- سيدي .. لاشك أنك شاهدته . إنه لايستطيع ا ستخدام يديه بسبب أنت تعرفه .. سيدي ..
لم يكذب بكر بشيء . كل الأوصاف التي اعطاها لحالة السجين صحيحة . حتى أنهم في الفرع ، مع خبراتهم العريقة بانتزاع الكلام ، لم يجدوا أي مجال لمتابعة الحوار مع السجين . لكن التحقيق يجب أن يستمر . إذ لاتنفي حالة السجين المشوهة الراهنة امكانية تعرف بكر على هذا السجين الخطير على أمن الدولة . وقد طلب السجين من بكر خدمة اتصال بشخص ما .. أ و ربما يوجد لدى بكر أسباب أخرى ، غير اهتمامه بالسجين يستحق الحساب عليها . وانعطف بالتحقيق نحو مسار آخر . أمر بإخراج بكر من الدولاب . وقال للمساعدين .. أعطوه قليلاً من الماء . ثم سأل بكر :
- هل أنت متزوج ؟ .
- نعم سيدي .
- كم ولد لديك ؟ .
- اثنان .. سيدي .. بنت وصبي .
- ماذا سميتهما ؟
- الصبي جولان .. والبنت يافا .. سيدي .
- هل أنت انتسبت إلى حزب سياسي في حياتك . .
- لا .. سيدي ..
- لماذا ؟ .
- لأنني لاأحب السياسية .. ولاأحب الأحزاب .. سيدي .
- لماذا ؟ .
- لأنني نذرت نفسي لمهنة الطب والإنسانية فقط .. سيدي .
- ما هي الكتب المفضلة لديك ؟ .
- كتب الشعر .. سيدي .
- ولماذا الشعر بالذات ؟ .
- لأنه الأصدق تعبيراً عن الخير والجمال في الدنيا .
ا ستفزت عبارة " الشعر أصدق تعبيراً عن الخير والجمال " النقيب ، إذ ذكرته بعبارة " الشعر فعل حرية " قالها شاعر في مهرجان كان مكلفاً بمراقبته ذات يوم . وحرضته على أن يربط الصلة ما بين معتقدات بكر ومعتقدات السجين المريض . وفكر أن المسألة هي أكثر من توارد خواطر فيما بينهما . ثم وجه السؤال بغتة إلى بكر :
- هل يتحمل السجين المريض التحقيق مرة ثانية . .. أعطني رأيك كطبيب .
وأجاب بكر بسرعة :
- لا .. سيدي .. إنه سيموت .. سيموت بكل تأكيد .
- هل تتمنى أن يعيش ؟ .
- هذا حقه كإنسان .
- هل تعرف ماذا فعل هذا الرجل حتى تتمنى له الحياة ؟ .
- لا .. لاأعرف سيدي . لكن الحياة حق مقدس لكل إنسان .
- وإذا وضعت أمام خيارين .. مساعدة السجين المريض حتى لايموت .. وقد تدفع أنت الثمن سجناً أو موتاً .. أو تتركه يموت لتحافظ على حياتك وحريتك .. فماذا تختار ؟ .
فكر بكر أن يقول ، أنه سيساعد السجين ليعيش . لكن الخيار كان صعباً . فالموت لأي منهما هو موت ظالم . واختار الصمت تاركاً للقدر أن يختار أي منهما للموت .. وأي للحياة .
- ماذا تقول يابكر .. ماذا تختار ؟ .
- الصمت المطبق .. كان جواب بكر .
وقد اضاف الصمت الذي لاذ به بكر سبباً آخر في زيادة شكوك النقيب .. أن لدى بكر خلفية ما ينبغي كشفها . ويجب الاحتفاظ به ، ومتابعة التحقيق معه . وربما يكشف التحقيق أن بكر يشكل خطراً على أمن الدولة أكثر من زهير المرمي في المشفى . وقرر استخدام وسائل أشد في التحقيق معه . وقال لبكر :
- كل ماقلته حتى الآن ليس فيه فائدة . والمطلوب منك حتى لا " تتبهدل" أكثر ، أن تقول فوراً ما هو مفيد .. أن تقول الحقيقة . وإذا رفضت سأرسلك إلى تحت . وهناك ستتعرض إلى أهوال تجبر حتى جدك الميت في قبره على النطق .
رد بكر :
- لقد قلت كل ما عندي .. سيدي .
قال النقيب بحدة وغضب :
- أنت تريد أن " تتبهدل " ، أن تصير مثل صاحبك في المشفى .
ثم أمر بأخذ بكر إلى " تحت " .
وبعد أن أخذوا بكر ، راح النقيب يجمع الملاحظات والنقاط التي اعتبرها هامة في تحقيقه مع بكر ، ليقدمها إلى العقيد . وسجل :
1- لايحب الأحزاب .. يعني لايحب حزبنا .
2- لايحب السياسة .. يعني أنه ضد سياستنا .
3- يعتبر أن الشعر الأصدق تعبيراً عن الخير والجمال في الدنيا .. يعني أنه من عشاق الحرية .. ونحن في نظره الأبشع والأسوأ
4- اختار، وإن لم يقلها صراحة ، تقديم العون للسجين ، ولو أدى به ذلك إلى السجن أو الموت ... وقال في نفسه .. ألهذا الحد يكرهنا هذا الكلب .
* * *
دخل النقيب على العقيد ومعه محضر التحقيق مع بكر . وبادر مبتسماً :
- سيدي .. لقد وقع .
العقيد بارتياح واضح :
- كيف ؟ .
- إليك المحضر سيدي .
بعد أن قرأ العقيد ما جاء به النقيب قال .. هذا جيد حتى الآن .. ولكن يجب أن نستعلم عن بكر ، ليكون التحقيق أكثر دقة . أريد خلال أيام قليلة .. كل شيء عن بكر .. منذ ولدته أمه حتى يوم اعتقاله .. مفهوم ..
أجاب النقيب باحترام :
- مفهوم سيدي .
* * *
نقلوا بكر من مكانه الأول إلى زنزانة أخرى صغيرة ، تحتوي على مرحاض وحنفية ماء . وفوق الباب قرابة السقف لمبة كهرباء صغيرة كئيبة مثبة على الجدار مغطاة بشبكة من الحديد . وأعطوه بطانية عليها بقع من الدماء المتجمدة . وأغلقوا عليه الباب . لف نفسه بالبطانية , وغاص في نوم عميق أخذه إلى عوالم وآلام هي أ شد من قسوة التعذيب ورهبة الجلادين ..
" قال له جلاد لم ير اكثر منه بشاعة وهولاً :
- إن لم تتكلم سأقتلع عينيك كي لاترى لمياء بعد الآن .. وضحك كالمارد .. سآتي بلمياء وأغتصبها أمامك .. سأقطع عضوك الذكري وأجعلك تأكله .. وسأقطع خصيانك وأطعمها للكلب .. وضحك بصوت عال له ارتدادات تصم الأذنين .
- لكن ما تريده من الكلام ليس عندي منه شيئاً .
- إذن سآتي بلمياء وأغتصبها هنا أمام سمعك وبصرك . وحينها سنرى ماذا ستقول ..
صرخ بكر .. لا .. لا .. اتركوا لمياء .. ابتعدوا عنها . وحملها بين ذراعيه وراح يركض بها هرباً .. فوق اللادروب .. وتحت اللاسماوات .. وسقط أرضاً من الإعياء . ولما نهض لم يجد لمياء . وهام زاحفاً يبحث عنها . وفقد لمياء . واعتصره السؤال ، هل تابعت الفرار ، أم طاولتها كلاب الجلاد بأظافرها وأنيابها . ورأى نفسه تحول إلى كائن مائع تمكن من الهرب من تحت الباب .. لكنه وجدهم يطاردونه بالمبيدات والقوارض العملاقة "
كان مزيجاً من الصراخ والأنين والشخير الآتي من الألم ، الذي تغلغل إلى كل خلايا جسده ، يصدر عن زنزانته ، ويثير تعاطف المعتقلين في الزنازين الأخرى ، ويعذبهم ، إذ يذكرهم بأحوال مماثلة مرت بها أجسادهم وأفئدتهم ومشاعرهم .
* * *
بعد يومين او ثلاثة ، أخذوه محمولاً من زنزانته إلى غرفة التحقيق ، لأن ما يسمى بالرجلين لديه قد فقدتا القدرة على حمله ، لمتابعة التحقيق معه ، على ضوء ما جمع من معلومات حوله .
جردوه من ثيابه كلها . أوثقوا جسده العاري بالحبل إلى آلة من ألواح خشبية , وبدأوا بتعذيبه بطرق شيطانية . ضرب بالكابلات وبعصي الخيزران . صعق بالكهرباء .. اعتصار خصيانه .. لم يتمحل جسده الواهن كل هذا التوحش .. فقد الاحساس بما هو حوله .. حلق في فضاءات افترا سية .ثم فقد القدرة على تمييز الأشياء . أصبح كل ما تبقى له من قدرة على الرؤيا يرى أن كل الأشياء صارت شيئاً واحداً متموجاً .. هيولى تضغط عليه لتخنقه . وفي ذروة الألم والرعب والانهيار تمنى الموت .. وتدافعت مشاعره تنسج هذه الرغبة . غاب عن الوعي ، أغرقوه بالماء .. ثم غاب عن الوعي .. ثم .. ثم .. أنهك تماماً . صار يهذي .. يرتجف .. إلى حد وجدوا أنه قد دنا كثيراً من الموت . فتوقفوا ، وانهالوا عليه بسيل من الأسئلة ، تتمحور كلها ، حول الحزب غير الموالي للدولة ، الذي ينتسب إليه ..
- من هو المسؤول عنه ؟
- منهم معه في التنظيم ؟
- ماهي آخر مهمة قام بها لصالح الحزب ؟
- أين يقع البيت السري الذي يأوي إليه ؟
لاجواب
أنعشوه بقليل من الماء رشوه على وجهه .. مع ضربات خفيفة على خديه .. وكرروا الأسئلة .
رد بكر .. محبطاً .. منهاراً .. يائساً :
- ياجماعة .. والله أنا لست سياسياً .. لست حزبياً .. أنا طبيب أحترف مهنة الطب فقط .
- ياعرص .. لدينا كل الأدلة التي تثبت علاقتك بالحزب . لكننا جربناك لنعرف صدقك من كذبك . نحن نعرف أنك تعرف زهير منذ زمن بعيد . وسنظل نعذبك حتى تعترف بعلاقتك به . كما نعرفها نحن ..
وخلال الأوقات القليلة الهادئة بين فترتين في سياق التحقيق ، كان يتوزع ما يستطيع تجميعه من وعي متقطع بين حالته الجارية .. حيث يمر بحالة أشبه ما تكون بالاحتضار مثل حيوان لاقيمة له .. وبين ما كان يحلم يه أن يكون إنساناً ناجحاً ومواطناً مسالماً . . وتنتشر في مخيلته تساؤلات متواترة ، هل يستحق هو أو ذاك المريض السجين المسكين كل هذا العذاب ، لمجرد أنه يحمل رأياً مغايراً لرأي حكام البلد ؟ أوليست هذه مهزلة أن تخاف دولة من حملة رأي على مصيرها ووجودها . وإذا تمكنوا من قتله بهذه الطريقة البشعة ، فما هو مصير جولان ويافا من بعده . ويغيب عن الوعي .. ويصحو ليلعن هذا الزمن المتهافت ، الذي بات فيه الوطن مجرداً من الحرية والإنسانية والعدالة .
بقي زمناً بلا حدود في جحيم التعذيب .. وفي مواجهة السؤال
- ألست؟ .. ألست ؟ .. ألست ؟ .
وظل السؤال دون جواب . لأن الجواب الذي يطلبونه ليس متوفراً كما يريدون لدى بكر .
بعد زمن من التعذيب المتواصل .. يوم .. يومان .. أكثر .. لم يعد يعرف بكر ، ولم يعد يهمه أن يعرف . أدرك أنهم يريدون أن يلصقوا به تهمة سياسية معادية للسلطة ، غير مكترثين بمستوى ما يلحقون به من أذى ، فانفجر قائلاً بأعلى صوت تمكن من رفعه :
- يلعن أبوكم .. يلعن أبو السياسة .. ولك أنا طبيب .. أنا إنسان حر بخياراتي .
- لا .. انت لست حراً .. ستكون كلباً لنا أو تموت .
وساد صمت مسكون بلحظات موت إنساني . فقط كان الصوت الحاد الصادر عن لسع السياط للجسد العاري ظل مسموعاً ، إلى أن صار كلما أمعن الجلاد بالضرب ، كلما كان الإحساس بالألم لدى بكر يوغل في التلاشي . وخدر بارد ينتشر في جسمه كله . بينما ظل السؤال في نفسه معلقاً دون أن يدركه جواب ، هل قدر زهير على النطق بكلمات عن زمالتهما الدراسية في ثانوية هنانو ، وعن سلسلة مناقشاتهما فيما بعد في بواكير الشباب ، حول التعاطي مع استبداد مركب ، شوه السياسة ، وبدد قيمها الوطنية والأخلاقية والثقافية . أم أنه ذلك الحارس .. الذي غضب منه ، لأنه أفشل خطته في ا ستدراج زميلته الطبيبة ليغتصبها ؟ .
ولما بدأ يحس بالحياة مجدداً ، وجد نفسه في مكان ما ملقى وحيداً عارياً على الأرض . حاول أن يتكلم .. أن يتحرك .. فلم يستطع . عاد الخدر البارد إلى جسده ، وانتشر فواراً داخل رأ سه . وبعد وقت ما بدأ يصحو مع ثقل يشد رأ سه إلى الأرض ، وأحس أن شبح شخص يبول فوقه ويضحك محدثاً صدى مزعجاً . ثم جاء شخص آخر وقال للأول بكلمات متقطعة صعبة التجميع :
- هل هو قد مات ؟
رد الشخص الأول :
- مات أم لم يمت .. ليذهب " في ستين جهنم " .
- ولكنهم يريدون ا ستكمال التحقيق معه .
قال الشخص الأول :
- الآن سنعرف إن كان قد مات أم لا .
واقترب هذا من بكر وركله بقدمه على بطنه . لكن ذلك لم يحدث في جسد بكر ردة الفعل التي كان ينتظرها الشخصان . فهو لم يرتعش .. ولم يختلج .. ولم يئن .
وانتشر غمام أبيض كثيف في المكان .. لم يعد هناك ملامح محددة لشيء . كل ما أحس به بكر وقتئذ ، هو ، أنه لم يعد في مكان .. وكل شيء يتساقط فوقه وفوق الجلادين .. كل شيء يتمزق .. يتهافت .. يتناثر .. ويصبح هباء .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
التعليقات
1 - تحية وشكر للمناضل بدر الدين شنن
مريم نجمه
(
2010 / 4 / 14 - 20:09
)
أيها الرفاق الشهداء الأحياء الأحباء
أكتبوا أكتبوا لتقرأ الأجيال الجديدة ماذا فعلت هذه الأنظمة بشعوبها في توقها للحرية والعدالة
أكتبوا أيها الشهداء الأحياء في عهد النازية الأسدية
عاش قلمك النضالي الكفاحي يا أخ بدر الدين
عافاك الله من مرضك الممتد من ......هناك , من السجون الفريدة في العالم بأساليبها الوحشية وحقدها الأسود على كل إنسان وطني !
محبة
.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن
.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •
.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر
.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا
.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى