الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الحرب الباردة إلى الحرب الخفية

سمير طاهر

2010 / 4 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


كانت الحرب الباردة متعددة الجبهات، لكن الجبهة السياسية، أي التنافس على مناطق النفوذ السياسي في جهات الأرض، كانت هي الأسخن. كان القطبان الرئيسيان في حرب عالمية بالفعل لكن من دون أن يتواجها مباشرة وإنما من خلال أنصارهما في البلدان المختلفة.
فجاءت الحروب بين الدول، الانقلابات، صعود اليمين هنا أو اليسار هناك الى السلطة، التصفيات الدموية بين الحركات السياسية أو حتى في داخل الحركات نفسها، هي وسائل ذينك القطبين في التنافس الدولي. أما الجبهات الأخرى المساعدة فكانت اقتصادية وثقافية وغيرها. وبذلك فرضت تلك «الحرب» آثارها المختلفة على معظم الدول، ومعظم المجتمعات، بهذا الشكل أو ذاك وبهذه الدرجة أو تلك.
يذهب البعض الى ان غياب منظومة الدول الاشتراكية وتفرد اميركا بالقوة العالمية هو الذي تسبب في اجتياح الليبرالية الاقتصادية والعولمة لعالمنا. غير إن العكس في رأيي هو الصحيح فظهور العولمة هو الذي اقتضى اختفاء المنظومة الاشتراكية، فالأخيرة كانت تقف حجر عثرة في طريق التطور الحتمي للرأسمالية.
وعلى هذا فحتى لو كانت الدول الاشتراكية ما تزال موجودة اليوم فان الحرب الباردة ما كانت لتستمر بالأساليب المذكورة نفسها وبالأسلحة نفسها، والدول الاشتراكية ما كانت ـ بالتالي ـ لتحمل من الاشتراكية سوى اسمها (كما هو الحال اليوم في الصين)، وهذا يعود الى ان التطور المادي للرأسمالية تجاوز المرحلة التي كان فيها الانسان يطور الآلة الى مرحلة غدت فيها الآلة تطور نفسها بنفسها، فالآلة اليوم تفرض تطورها فرضاً على منتجها. لا أحد بمقدوره اليوم إيقاف المنتجات عن التطور الدائم بل واليومي في عصر غدا فيه التطوير المستمر هو التعبير المرادف للمنافسة بين المنتجين والوسيلة الرئيسية لهذه المنافسة. ان خواص هذه المرحلة تختلف كليا عن المرحلة السابقة لها: فالصراع اليوم لم يعد ـ كما كان في عصر الحرب الباردة ـ بين أيديولوجيات وإنما بين قدرات اقتصادية، والمعيار لم يعد "من الذي يمتلك الحقيقة" إنما معدل النمو.
ولهذا فان الفشل والعزلة اللذين تعاني منهما دول مثل كوبا وكوريا الشمالية ليس مردهما عِتق الأسطوانات الثورية الدائرة في تلك الدول وانتهاء عصر الأوليغاركيات الحزبية وحسب، وإنما مردهما الفشل الاقتصادي بالدرجة الاولى، بدليل أن تلكم الاسطوانات وذلك النمط من الحكم ما يزالان يشتغلان في الصين ومع ذلك لا تعاني الصين من عزلة أو فشل حيث انها انخرطت بكل طاقاتها في عملية التحديث الاقتصادي والمنافسة الصناعية.
من ضمن ما يمكن استنتاجه من ذلك هو انه لا قيمة للأفكار إن لم تكن ذات جدوى في الواقع المعاش، وليس بمقدور أي خطاب سياسي (سواء تجسد في دولة، أو حركة، أو زعيم، أو فكر) أن يفرض وجوده محليا أو دوليا إذا كان يقف على اقتصاد ضعيف، أو تنمية خاملة أو بؤس اجتماعي أو تخلف ثقافي.
لقد ولّى عصر «الجماهير الثائرة» بعد كل ما صنعته ثوراتها من ديكتاتوريين وما سببته من كوارث منذ الثورة الفرنسية الى الآن، ويجري الاعتماد اليوم على الجماهير المتعلمة، المتنافسة معرفيا ومهنيا، في بيئة دولية متنافسة معرفيا واقتصاديا.
ان عالما كهذا كان من المستحيل وجوده في ظل حرب ايديولوجية عقيمة دعيت ذات يوم بالحرب الباردة، كما إنه من الصعب وجوده اليوم في البيئات المتخلفة ثقافيا، ومنها بيئتنا العربية!
لكن هذا لا يعني «موت السياسة» في الساحة الدولية، إنما يعني ان السياسة أخذت مكانها الطبيعي بوصفها تعبيرا عن المصالح الاقتصادية التي هي الأساس. ربما يلزم هنا التذكير ببعض الأمثلة على ذلك: اعتراض فرنسا وروسيا على حرب العراق (2003) لأنها كانت تعني خسارة الدولتين عدة مليارات من صفقات موجودة وأخرى موعودة مع نظام صدام حسين، وليس لأن الدولتين كانتا صاحبتي مبادئ!؛ دعم الصين لحكومة السودان في قضية دارفور حفاظا على استثماراتها الضخمة هناك؛ اعتراض روسيا على معاقبة إيران حفاظا على استثمارها النووي معها.
ان هذا الطابع المصلحي الصريح للسياسة الدولية بات معروفا، ولهذا فلا يكفي أن «تناشد» دولة دولة أخرى، بواسطة اللغة السياسية المعلنة، بأن تنصرها في قضاياها إذ يتطلب ذلك أن تشفع هذه المناشدة بمكسب مادي، أن "تشتري" وترشي تلك الدولة. أقرب مثال على ذلك هو «مناشدة» السعودية لروسيا بالتخلي عن تعاونها النووي والعسكري مع إيران "حفاظاً على الاستقرار في المنطقة"، بينما يكمن وراء ذلك عرض سعودي بمليارات الدولارات قيمة أسلحة واستثمارات روسية في السعودية تعويضا عما ستخسره روسيا من تخليها عن شريكها التجاري!
فاليوم تدور في كل القارات حرب خفية، حرب لا تغزو فيها الجيوش وإنما المنتجات، ولا تجري على الحدود وإنما في الأسواق. في هذا الصدد تمكن ملاحظة اعتماد الولايات المتحدة على القوة بشكل رئيس، وكثيرا ما تلجأ الى العنف السياسي لمعالجة أزماتها الاقتصادية الداخلية (حرب العراق نموذج على هذا). فيما تعمد روسيا الى العكس فتستخدم الاقتصاد لتعزيز مكانتها السياسية، و"المناشدة" السعودية الدسمة خير مثال.
حين كانت إدارة بوش الابن ترقب نجاح الروس (أعدائها القدماء في الحرب الباردة) في هذا الأسلوب وتصاعد مكانتهم الدولية فانها كانت تلجأ الى لغة القوة مرة أخرى فتخطط لنصب صواريخ في الدول القريبة من روسيا! في رأيي المتواضع إن كل من يفكرون بالاعتماد على القوة والعنف، ربما يحققون بأسلوبهم هذا منافع وقتية ولكنهم على المدى البعيد سيكونون بالتأكيد من الخاسرين. وإدارة بوش الابن مثال بسيط!
لقد تغيرت الحياة البشرية، وفقد السلاح امتياز الحسم، ولم يعد أحد يخشى البلطجة. إن من يلجأ ـ في عصرنا هذا ـ الى العنف وسيلة لتحقيق وجوده هو كمن يترك ساحة المعركة الحقيقية ويذهب للقتال في مكان آخر!
(نشر في جريدة السفير)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ماذا يعني؟
أوروك ( 2010 / 4 / 15 - 20:11 )
استخدام الحرب المباشرة من قبل الولايات المتحدة الامريكية يعني بالدرجة الاولى شعورها بالمسؤولية تجاه ما يجري في العالم من احداث سمها عولمة او استعمار جديد او سمها ما شئت رغم الخسائر المادية التي قد تمنى بها على المستوى القريب والبعيد لكنها عملية تصحيح للأخطاء والاخطار التي تنشأ هنا وهناك في الوقت التي تلجأ دول اخرى كروسيا مثلا الى تصدير التكنولوجيا النووية الى ايران وغيرها ولكل راغب وقادر على الدفع دون ادنى شعور بالمسؤولية الدولية تجاه ما قد يؤدي امتلاك هذه الدول المراهقةوالتي تعاني من عقد مستعصية لأسلحة بهذه الدرجة من الخطورةوالتي من الممكن ايضا ان تستخدم في ساعة غضب اعمى او تصعيد سياسي ما وهي الكارثة البشرية الحقيقية الكامنة والنائمة في جحرها والتي تنتظر الاستيقاظ في اية لحظة هذا هو واقع الحال لا رغبة امريكا في تصدير ازمتها الاقتصادية وتضخمها الاقتصادي مع تحياتي أخي الكاتب

اخر الافلام

.. موريتانيا: ماذا وراء زيارة وزيريْ الدفاع والداخلية إلى الحدو


.. إسرائيل وحسابات ما بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة في غزة




.. دبابة السلحفاة الروسية العملاقة تواجه المسيرات الأوكرانية |


.. عالم مغربي يكشف عن اختراع جديد لتغيير مستقبل العرب والبشرية




.. الفرحة تعم قطاع غزة بعد موافقة حماس على وقف الحرب