الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة المندوس

هيثم البوسعيدي

2010 / 4 / 15
الادب والفن


الــمـنــدوس

*عـزف عـلـى أوتـار الـوجـع*

كثافة المطر ورهبة الفاجعة تُبعد الناس من حافة القبر، أحسست عند ذلك بتجمع سحب السواد بداخلي، شعرت بخيالات الموت تطوف بي، وتطوف بجسد جدي الملفوف في قماش رث.

تنسكب الدموع بحرقة فتُبلل جسده الذي يتأهب للرحيل نحو عالم آخر، يقتطع المشهد جزءاً من جسدي التائه وسط زحمة الأشياء، لأشعر بروحي تحتضن بقاياه بشده.

تقتحم أسوار قلبي إشارته الشهيرة في آخر اللحظات، وكأنه أراد أن يظل ذاك الوجع القصي محفورا في ذاكرتي للأبد...قائلا: "صخر" " المندوس المندوس".

آنذاك كنت أسبح في بركة من الدموع والعرق، كانت عيونه تصارع آخر الزفرات، تأمرني بوجعه المنسي بعدما اسكتت حراب "السرطان" نبرات صوته ومزقت تضاريس وجهه، كلماته أثارت شرايين قلبي، أردت قمع صوته الخفي بل الصراخ في وجه المبعثر:
"أصمت فقد القمتني ظُلما لا قبل لي به "

أشارات مشتتة أطاحت بأنفاسه الواهنة، لتُوقد مأتم أبدياً في داخلي، فيما بعد تنصلت دمعة غالية في عيني، أغلقت عليها جفوني لئلا تراه، وكأن قطعة باذخة من روحي احترقت..شممت روائح الموت بعد ذلك تنبعث من صفائح وجهه .. أنصت جيدا لأنين النساء وهي تطرق أبواب روحي بعدما ثلمت بمصيبة غيابه.

حاولت في ثانية خاطفة دس ذاكرتي في دفاتره القديمة، لأتساءل: من سيحاكي بعده حقد الذات الذي لم تشبعه رواياته عن مرارة ظلماً بات يستوطن الأعماق، دون أن استرشد شخص من ظلمه، وهو من سقاني قطرات من دماءاً زكية، غَرست في داخلي حكاية قديمة منذ عشرين عاما.
****************
ينتصر الليل فجأة، فيسدل ضفافه على المكان، يوقضني من سكرة عميقة بعدما نشر ذاك المندوس فوضى الأفكار في خلايا ذاكرتي، انتبهت أنني في زوايا القبر حيث لم يسمع شهقات بكائي عدا رجلان يلتصقان بجانبي، لم استطع في الظلمة المعتمة تحديد ملامحهما.

استفقت من حلم قصير، لأجد روحي تُذبح..تُقتل..تُنتهك فها هم يهيلون عليه التراب، عندئذاً اعتراني شوقاً عجيباً إليه ، وسرت رجفة في كامل أوصال جسدي...أجبرتني على البحث عن تفاصيل جسده الغائب بين التراب، لكن وميض " المندوس" يلمع في مخيلتي لتحترق معه أصعب الدقائق وأدق الثواني، فتستعجل فراق الوجوه والأجساد.

يقذف بي الوجع نحو سيل من الأفكار، اصطدم بأنفاس مشتتة..نظرات زائغة ..وجوه شاحبة، عند ذلك تخترق جسدي حكاوي وأسئلة واحداث غائرة في صميم الذاكرة: طرزت ثياب السواد، حاكت مرارة اليتم، وصاغت قصص الشقاء.

استوقفتني حروفه الوجلة حينما كنت أداعبه يوما، وأنا اخطو نحو الثانية عشر من العمر: "يا بني صورة الظالم أكبر مما ترسمه حنايا قلبك البريء"، زادت تلك العبارة تعلقي بثرى قبره رغم أن روحي وأرواح الآخريين سافرت بعيداً عن طهر مقامه، إنما ثورة عارمة دفعت بي للخروج من عالم الموتى، لكي أفوز بالسر القابع في المندوس، فتغافلت أنني أودعت قطعة غالية من جسدي هناك بين التراب.

فانوس وجعي يشق الطرق الوعرة، يُقلب صفير الرياح عشرات الصور في داخلي، تتوحد في لون القتامة، فأرى صدى حزني العميق ماثلاً بين الأزقة والشوارع، يتراءى لي وجه جدي فجأة، هو أشبه بوجه الملائكة، تَبزغ فكرة عابرة عند ذلك: لن تُشعل شموع المآسي في بيتنا مثلما كانت تُوقد كل يوم: ألم يحن وقت القصاص؟ ألم اتهيأ لحمل بيارق الثأر؟

تسافر بي الهواجس بسرعة خاطفة إلى البيت، اتوارى بعيداً عن المعزين، صرخات الأطفال وأصوات النساء تضاعف جروحي، تتسمر خطواتي أمام غرفته القابعة في احدى زوايا البيت، أدلف إلى الغرفة فلا أجد غير الصمت المبعثر في ارجائها، تلامس حواسي روائح المرض وما بقي من آثاره على شقوق الجدران، تتكسر نوافذ قلبي أمام اختفاء محراب الصلاة وغياب الأيادي الممدوة إلى السماء التي لم تتعب يوماً من الشكوى.

اقترب من المندوس الذي تحمل ألوانه عبق الماضي، يلمع سيفاً عتيقاً بجانبه ، يكتسح السواد أركان الغرفة، بينما تهبط قناديل السماء وأنوار الحقيقة لتضيء ظلمة المكان.

احتضن المندوس، أتصفح الأوارق بدقة، أدفن أفكاري عميقاً بين الحروف، تمر اللحظات القاسية، في تلك الغمرة يغتالني الصمت بعدما ينكشف السر وتصدمني المفاجأة.

تحتشد أحاسيس القهر وتتهشم رغبة الانتقام، تنطلق صرخة من أعماق الروح، ترتعش جفوني بالدموع ويقذف صوتي المتعب جملته البائسة: سامحني يا جدي لن أقوى على حمل رايات الظلم بعد اليوم.


ملاحظة

** المندوس : صندوق خشبي يحفظ فيه الآباء والاجداد حاجاتهم الشخصية**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب