الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مش كاين هيك تكون 2/3

علاء الفزاع

2004 / 7 / 27
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


تشكل هذه الأغنية في أحد جوانبها إضاءة على إشكالية من أهم إشكالياتنا: الأصالة والمعاصرة، أو النظرة إلى الماضي، و(الماضوية)، أو الأصولية في تعابير أخرى. (مش كاين هيك تكون) تلامس القاع النفسي العميق لتلك التيارات الأصولية: الحنين المرضي إلى الماضي، وإضفاء هالات من القداسة عليه، في مواجهة حاضر تعجز عن فهمه وتقبله، وفي مواجهة تحديات ليست هي في ذهنية تسمح لها باستيعابها.
ف (الليمون) و (الصابون) و (اليانسون) لم تتغير. ولكن رؤيتها على أنها كانت يوما ما (غير شكل) هو جزء من نظرة ترى الماضي كله أجمل وأحلى. فالحبيب كان (غير هيك) و(البلكون) كان (أشرح) و(الصالون) أوسع والأنغام أعذب والألحان أهدأ...حتى الحب يبدو أنه (كان جنون) وإخلاصا...
وزياد الرحباني لا ينجر بسهولة إلى هذه السذاجة العاطفية، ولا إلى الرثاء والبكاء على الماضي، ولكنها غمزة ساخرة من ذلك الحنين إلى (أيام زمان)، ذلك الحنين الذي يتلبس الكثيرين حتى لا يعودون يرون شيئا في الحاضر أو المستقبل...وزياد يحيلنا هنا إلى ما يعرف في علم النفس بالنكوص، حيث يزداد التعلق بمراحل الطفولة الأولى بسبب عدم النجاح في مواجهة عالم الكبار، عالم النضج والحياة الحقيقية. فبطل هذه الأغنية –أو بطلتها- غير قادر على فهم حقائق الحياة الجديدة، تماما كما يعجز الأصولي الكلاسيكي عن فهم واقعنا المعاصر، وطبيعة التحديات الاقتصادية والسياسية والفكرية التي نواجهها. وكما يلجأ بطلنا المفترض إلى الماضي بصورته الخيالية، ويضخمه ويضفي عليه طابع الجمال، كذلك يلجأ الأصولي إلى ماضينا-الذي هو أصلا عظيم ومشرف-فيدخله في نطاق المقدسات، ويرفعه فوق الحاضر والمستقبل، ويجعل تقليده هدفا، ويعلن أن ذلك الماضي هو منتهى النقاء، ومنتهى الكمال، ويغض الطرف عن كل سلبياته، والتي هي طبيعية، لأنه ماض صنعه بشر يخطئون ويصيبون. وهكذا فإننا يجب أن نقلده، حتى في شكلياته. فكما ركز بطلنا على الليمون واليانسون والزيتون...إلخ، نجد أن صديقنا الأصولي ركز على شكليات الماضي في محاولة لتعويض عدم القدرة على استحضاره. ويوازي ذلك تماما في حالة النكوص قيام البالغين باستعادة حرفية لمتعلقات الطفولة، في محاولة يائسة لاستعادة جو الطمأنينة الطفولية التي تم فقدها بعدم التكيف مع عالم الكبار، مع ما في هذه الصورة من تبسيط لمفهوم النكوص (الارتداد). وكلاهما –الأصولي وصديقنا بطل الأغنية- (مش سامع غنية راحو)، لا يدرك أن الزمن تغير وأن الماضي (راح).
لقد أطاح عصرنا بالكثير من الثوابت، وأثار العديد من الزوابع الفكرية، فترك حيرة وعدم قدرة على فهم ما يجري. ففي خضم العقلنة سادت القيم المادية المفرطة، وتراجعت القيم الروحية في مجتمعات كانت تبالغ في الروحانية. العلاقات الإنسانية تشوبها النفعية والشكلية، والحب لم يعد ذلك الشعور الرومانسي غير الواقعي والساذج، وكل شيء تغير، وليس بالضرورة إلى الأحسن. تطورت الحياة في نواح، وازدادت المشاكل في نواح. كل هذا يترك فئات كبيرة مهيأة لتكون أصولية، خصوصا مع تزايد الضغوط الاقتصادية على الطبقات الفقيرة في غمرة هجوم العولمة. ولعل هذا الجو أفقد الإنسان بريق الحياة (كان عندك غير عيون)، فالحبيب لم يعد في عينيه ذلك الألق والبريق وحب الحياة، فقد فقدها جميعها في ظل ميكانيكية عصرنا.
وتلقي موسيقى هذه الأغنية إضاءة أخرى على المسألة. فالإيقاع الذي تبتدئ به المقدمة الموسيقية يجعلك تعتقد أنك أمام لحن عصري، تماما كما يقنع الأصولي نفسه وغيره بأنه قد وجد حلولا لكل مشاكل عصره. ولكنك تكتشف تدريجيا أن الخط اللحني-الذي يصبح أكثر وضوحا- مكرر لا جديد فيه. إنه الحدس الفني لدى زياد الرحباني، فهذا الانتقال اللحني يشكل محاكاة ساخرة لخيبة أمل من يتعمق في دراسة التيار الأصولي فلا يجده يضيف شيئا جديدا، بعد أن يكون مبهورا بدعاواه عن العصرية، وعن الفهم الجديد للدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة