الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميناس ميناسيان.. الصديق الذي لم ألتقِ به... راحلون وذكريات

عزيز الحاج

2010 / 4 / 23
سيرة ذاتية


في الفترة ما بين منتصف التسعينات وعام 2000، رحل عنا العديد من الشخصيات العراقية، التي لي معها ذكريات: منها شخصيات معروفة ولها أدوار في الحياة السياسية أو الثقافية والفنية، ومنها غير المعروفة على نطاق عراقي واسع. والذكريات تتنوع، ما بين الحلوة والرقيقة، وما بين المؤلمة والموجعة. وممن أذكر رحيلهم في تلك الحقبة: الجواهري، وعبد الوهاب البياتي، وثابت حبيب العاني، ورحيم عجينة، وزكي خيري، ومحمد فاضل الجمالي، ومحمد حديد، وجعفر وياسين محمد كريم، وعامر عبد الله، والشخصية الكردية إبراهيم أحمد، والتحق بهم، بعد قليل، عبد الفتاح إبراهيم. ولو عدت لتصفح ورقتي [النافذة]، التي كنت أصدرها شهريا من 1995 وإلى 2000، لوجدت أخبار رحيل هؤلاء، وكلمات توديع، ومنهم من كتبت عنهم مقالات في الصحف – علما بأن علاقاتي مع كل واحد كانت تختلف عن العلاقات مع الآخرين، ومنهم من التقيت به مرة واحدة في اجتماع رسمي، وأقصد لقائي بمحمد حديد في الربع الأول من عام 1967 كمندوب عن الحزب الشيوعي للتفاهم حول التعاون السياسي. وكان نقاشنا يدور حول هدف الديمقراطية السياسية، التي كانت قد غابت فترة قصيرة عن البرامج الشيوعية.

أعيد التأكيد هنا على أنني لا أكتب سِيَراً للراحلين، فكتابة السيرة تتطلب جمع المعلومات وقراءة المصادر وتصنيفها ومقارنة الروايات، الخ. أما كتابي، فهو ما تركته كل شخصية عندي من انطباعات ومشاعر، واعتمادا على الذاكرة، والذاكرة غير مصانة من النسيان. كما لابد وقد رأى القارئ المنصف أنني حاولت جهدي تغليب الإيجابي من الذكريات، رغم أن في بعض الذكريات ما يلسع، ولا يزال يلسع. وقد كتب سلامة موسى في كتابه الجميل "تربية سلامة موسى": " وهناك أشخاص هم في وجداني الآن، حين أذكرهم أحس أن أنفاسي تنهدات لفرط ما أساءوا إليَّ"، ولكنني أسعى دوما لتغليب ذكريات أيام كانت تجمعنا فيها أواصر صفاء. ومن تابع كتاباتي في السيرة السياسية الذاتية لابد وقد لاحظ تغير النبرة والروح، ما بين تشنج وحدة وما بين هدوء وتغليب الإيجابي. وأسأل: كم كانت حياتنا تكون أفضل ورائقة لو طغت العلاقات الإنسانية بين المتخالفين من الساسة الوطنيين على نقاط الخلاف، ولو ظلت علاقات الصفاء بين المتخالفين من أصدقاء أمس وزملاء الدرب المشترك. وقد كتبت مرة في الصحف أن مذكرات بعض ساسة العهد الملكي كانت أكثر إنصافا للخصوم من مذكرات بعض الساسة اليساريين.
أخذتني هذه التداعيات وأنا أهم بالكتابة عن المناضل والشاعر العراقي الأرمني، الراحل ميناس ميناسيان.
عرفته بواسطة [النافذة] في منتصف التسعينات، ويظهر حصل على عدد منها إما من الشاعر الشعبي اليساري شاكر السماوي، وهو من الأصدقاء القدامى، أو من الشاعر الستيني المبدع، الأب يوسف سعيد، وجميعهم في السويد..
كتب لي ميناس رسالة رقيقة كانت بداية تعارفنا وصلاتنا، واستمرت الاتصالات ما بين رسائل أو مكالمات هاتفية حتى رحيله عام 1999 بعد مرض عضال في مدينة غوتنبورغ السويدية، يوم 26 سبتمبر من ذلك العام.

لم أسأله خلال اتصالاتنا عن تفاصيل حياته، ولكنه كان يكتب وكأنه ماركسي. وكان يرسل لي قطعا من قصائده النثرية، نشرت بعضها في النافذة، وهي تفيض بمشاعر الألم والحنين للعراق.
لقد توثقت علاقاتنا رغم عدم اللقاء، وصرت وكأني جزء من عائلته، وظللت أتلفن لزوجته وابنته الكبرى [سيتا] بعد وفاته أسأل عن أحوالهم وأواسيهما.
نعم، لم يكن ميناس شخصية مشهورة، ولكنه كان مواطنا عراقيا أحب وطنه وكان يتألم لمصيره، كما كان شاعرا بالفطرة. فهو، إن شئت الوصف، يمثل المغترِب العراقي الذي يظل يحن للعودة لوطن كان مستباحا. والقطعة التي انشرها ملحفا بالفصل تعبر عن تلك المشاعر والأماني.
عند ميناس، كانت أرمينيا، وعدا العراق، هي الأخرى في صلب حنينه واهتماماته. ويظهر أنه لم يستسغ انفصال أرمينيا عن الاتحاد السوفيتي، وصدم بذلك، ولم أشأ مناقشته، فهناك من اليسار الماركسي من كانوا يشاركونه الرأي ويعتبرون تفكك الاتحاد السوفيتي كارثة، و"مؤامرة أميركية". وطبعا، لست أنا من هذا الرأي، فالاتحاد السوفيتي تفكك داخليا بسبب تناقضاته المتراكمة كنظام شمولي، همه الأول التضخم العسكري!.
أود التذكير بالمناسبة بأن كثرة من أرمن العراق كانوا قد اضطروا في العهد الملكي وبعده للهجرة إلى أرمينيا السوفيتية. وقد تعرفت في السجون إلى العديد من المناضلين الأرمن، ومنهم كريكور بدروسيان، الذي كان عضو لجنة مركزية منذ 1945، وكان موسيقارا. وحين نذكر من بقوا من أرمن العراق، لابد وأن نذكر أحوال الأقلية المسيحية بكل تفرعاتها، وما لحق بها من حيف وظلم ومطاردة خلال السنوات الماضية، ولحد اليوم.

بهذه الكلمات ودعت ميناس في [النافذة]:
" إلى مبناس.....
كما يرحل المئات من خيرة العراقيين في المهاجر الموحشة، فها أنك ترحل بعيدا عن الوطن الذي أحببت. .... بكينا معا لمحنة الوطن، وسأبكيه بعدك ومعك، دون أن أفقد بارقة الأمل، كما لم تفقدها أنت حتى لحظاتك الأخيرة.
تعرفنا عبر الرسائل والصور، ولكن عواطفنا وأفكارنا تلاقت وتعانقت. وها أنذا أعيد قراءة رسائلك المليئة بالحنين إلى العراق، بشمسه، ونخيله وجباله، وأهواره، ونواقيسه... وها أمامي تداعياتك الشعرية الواعدة، ذات البراءة والعفوية الصادقتين، والحس النبيل بالفجيعة وبالغضب.
أرثي بك جميع أحبابي الراحلين، وأعلامنا الغائبين في الغربة، واحدا بعد الآخر.
والبركة في سيتا وشقيقتها سيران والعائلة وأصدقائك المعجبين."

كان ميناس شديد الإعجاب بابنته الكبرى سيتا، التي كانت في بداية الشباب. كانت شديدة الذكاء وفي مقدمة الطلبة، وكانت تدرس في وقت واحد أربع لغات: هي العربية والأرمنية والسويدية والإنجليزية. وقد ألفت بالإنجليزية رواية قصيرة عن شقيقها البعيد ولقائها به، وأرسلت لي نسخة من الرواية. وبعد وفاة ميناس، ظلت تراسلني بالإنجليزية، فكتبت مثلا في رسالة مؤرخة في 6 أكتوبر 1999:
" عمي العزيز، نيابة عن عائلتي وعني شخصيا أشكركم جدا على اتصالاتكم الهاتفية واهتمامكم. وتيقن يا عمي أن والدي كان يحبك ويحترمك جدا وكان دوما يود اللقاء بك. وكان يقدر أفكاركم." ثم تتحدث عن وضعهم الصعب بعد رحيل ميناس:
" الآن، يا عمي، إنني وعائلتي في أصعب وقت. كنت أحب والدي كل الحب، وكل ما أستطيع فعله هو تحقيق حلمه بمواصلة الدراسة والحصول على أعلي المعدلات، ولكي أستطيع يوما جمع ونشر مؤلفاته..." وفي ختام رسالة سيتا أقرأ الملاحظة التالية:
" أكتب بالعربية لأنني لست قوية فيها، ولكنني سأتقنها في المستقبل."
وفي رسالة مؤرخة في يناير 2000 ، تخبرني بحصولها على الدرجة الأولى في الإنجليزية، وأنها في حالة أفضل رغم أنها والعائلة لا يزالون يفتقدون ميناس. أما آخر رسالة منها، فتخبرني بأنها على وشك الزواج في أثينا. وإلى هنا انتهت الصلة، ولا أتذكر من المقصر وكانت قد زارت ابنتي ندى في روما قبل الزواج باستضافتها ندى واهتمت بها وكأنها جزء من العائلة..
هذه كلمة عن ميناس، ولاشك أن لأصدقائه في السويد وخارجها معلومات تساعدني على إغناء هذا الفصل عن ذلك الإنسان النبيل، والشعر الرقيق، وأذكر بوجه خاص الشاعر الستيني المعروف الأب يوسف سعيد.
سلاما على ذكرى ميناس، ومجدا لأرمن العراق والمسيحيين العراقيين، وأينما كانوا.
***************
الملحق:
هجرة الحمام .... ميناس ميناسيان

غدا .. وفي صباح العيد،
عندما تقرع النواقيس..... في حارتنا القديمة...
سيطير الحمام .....
لن يعود يستأذن نوافذ دورنا..
ووجه أمي الحزين حين تزور قبر أبي...
وباقات الزهور الذابلة وبقايا بعض من ضياء الشموع...
*****
غدا عندما تقرع النواقيس في حارتنا القديمة....ستكون السنة الأولى على رحيل أبي... والرابعة بعد مرضه... والخامسة قادمة بدون عيد..... والحمائم لم تعد تحط على نوافذنا....
*****
غدا عندما تقرع النواقيس بحارتنا القديمة.... ستطير الحمامات من جديد...
ستترك لنا ذكريات الأمس التعيسة: موت أبي، وحزن أمي، وجوعنا المستمر...
******
غدا... كم تمنيت أن تقرع نواقيس حارتنا القديمة لتعلن موت الشر.. ولتعود الحمائم إلى نوافذنا معلنة: جئتكم بالعيد...."...

[يوتيبوري – غوتنبرغ- السويد 1997]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الرثاء صفة النبلاء
المهندس كاظم الساعدي ( 2010 / 4 / 24 - 04:05 )
عندما يتجسد الرثاء بقلم الشيخ عزيز الحاج ترى الاستلهام الرائع للواقع المغيب قسريا وكان هؤلاء الاجلاء ماولدوا وماعاشوا وماكان لهم بيننا من حضور وهو التغييب القسري الذي يعاني منه المجتمع العراقي والحاج رائع بربط الرثاء بالعيش في الايام وكانها تعود من خلال قلمه لتسطر تناسقا وتناغما رائعا بين الماضي والحاضر وعند الاسترسال يذوب الزمن لنجد انفسنا في حضرة الحاج ورفاقه
سيدي انت متميز بين الكتاب العرب ولك حضور في عقلية المواطن العراقي الذي يحرص على متابعة ماتكتب في ايلاف والحوار المتمدن
انت منا اخي الحاج وانت لنا وقف غير قابل للتصرف عراقيتك الصميمية اباحت لنا هذا الخيار
اكتب فنحن بامس الحاجة لنرى الاسقاطات الحالية والمعالجة من خبير وعندما نذكر خبراء الحقيقة فانت اولهم
ننتظر رؤيتك للواقع العراقي ومن خلال الحوار المتمدن
دمت لقراءك وللحقيقة المغيبة قسريا


2 - تاريخ الحاج
عبد الحسين سلمان ( 2010 / 4 / 24 - 10:05 )
الصديق المهندس الساعدي
يبدو انك لا تعرف تاريخ الحاج جيدا؟؟؟؟؟؟؟؟
في اعترافاته مع بيتر يوسف المذله في التلفزيون الصدامي وقفوا برهه ليضحكوا
لان اسم احد رفاقهم من الجنوب وكان اسما شعبيا جدا
عندها ومن ذالك الوقت عرفت سر انتكاسة الحركة الشيوعية في العراق - وهوالانتماء الطبقي
يعني اضافة على اعترافتهم المهينه يضحكون على اسماء رفاقهم وعلنا

اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة